| |
الإهانة الكبرى
بقلم: محمد بودهان
إن ترخيص السلطات المغربية بإقامة حفل غنائي ضخم أحيته اللعوبة
اللبنانية نانسي عجرم ليلة 23 أبريل الماضي بساحة جامع الفنا بمراكش، تقاضت عنه
مليارا في ليلة واحدة كما ذكرت الصحافة، يعد إهانة كبرى في حق المغرب والمغاربة
والوطن والمواطنين، وخيانة عظمى في حق الفنانات والفنانين المغاربة الذين لا يحصلون
طيلة حياتهم الفنية كلها على ما حصلت عليه نانسي، من خزائن المغرب، في ليلة واحدة.
ولا يمكن للسلطات أن تتنصل من مسؤوليتها المباشرة عن هذه الإهانة والخيانة بمبرر أن
الحفل من تنظيم واحتضان شركات خاصة وليست مؤسسات تابعة للدولة، وإلا لكان عليها،
بنفس المنطق ونفس المبرر، أن تلغي مصلحة الجمارك ولا تسمح لهم بحماية الاقتصاد
الوطني ومنع السلع المهربة إلا عندما يكون المهربون مؤسسات عمومية تابعة للدولة.
ولا يتعلق الأمر هنا، وهذا ما ركزت عليه جل الصحف، بما تسبب فيه حضور نانسي إلى
جامع الفنا من اضطراب في حركة السير وقطع أرزاق "الحلايقية" و"المرايقية"، وإنما
يتعلق الأمر باحتقار المغرب والمغاربة، وإهانة الإنتاج الفني والغنائي الوطني،
وتمجيد، بالمقابل، لثقافة ولغة وفن المشرق العربي، حتى ولو كان بخسا ورديئا وتافها،
مع العمل على نشره وترسيخه باحتضان ممثليه المشارقة والإغداق عليهم بالملايين من
مال الشعب الذي يحتقر فنه وثقافته، مع أن هؤلاء الفنانين المشارقة لا يتقاضون حتى
1% في بلدانهم العربية مما يتقاضونه في المغرب على ترديدهم للازمة المكرورة عندهم
جميعا: "باحبك"!
وحتى يستلب الغناء المشرقي أكبر عدد من العقول، قرر المنظمون أن تكون السهرة
مجانية، وهو ما وفر لنانسي أزيد من 100 ألف من الضحايا/المعجبين. فهل يمكن أن نتصور
ـ مجرد تصور ـ أن دولة عربية بالمشرق تنظم حفلا لموحا أولحسين إشيبان المايسترو
بمليار، مع حضور أكثر من 100 ألف من المعجبين بفن أحيدوس المغربي؟ إذا عرفنا أن مثل
هذا الأمر مستحيل وممتنع، ندرك حجم الإهانة التي تلقاها الفنانون المغاربة بتنظيم
حفل غنائي لفنانين عرب أجانب بمئات الملايين داخل بلادهم المغرب.
إلا أن هذه الإهانة الكبرى، قبل أن تكون موجهة إلى الفنانات والفنانين المغاربة،
فهي موجهة أولا وأساسا إلى الأمازيغية، لأن تنظيم مثل هذا المهرجان الغنائي المشرقي
الضخم في بلد أمازيغي يطالب فيه الأمازيغيون بالاعتراف بهويتهم واحترام فنهم
وغنائهم وثقافتهم ولغتهم، هو استهتار بهؤلاء الأمازيغيين واستخفاف بأمازيغيتهم
وتحدٍّ لمطالبهم بتأكيد أن المغرب بلد "عربي" ليس له من فن وغناء سوى الفن والغناء
العربيين، لأن هويته وجذوره "عربية"، والدليل هو 100 ألف من المغاربة الذين حجوا
إلى مراكش للاستمتاع بصدر نانسي كأن المغربيات لا يملكن لبَّات ولا صدورا.
وإذا استحضرنا أن هذا التمجيد للمشرق، والمهين للأمازيغية، يأتي في عز مؤسسة المعهد
الملكي للثقافة الأمازيغية التي أنشئت، كما يرددون ويقولون، لرد الاعتبار
للأمازيغية والنهوض بها، يتأكد لنا أن المعهد لم ينشأ إلا للتفرغ لتعزيز تبعية
المغرب للمشرق، وتقوية الهوية العربية للمغرب دون إزعاج أو مضايقة أو وَجَل من
المطالب الأمازيغية التي أنشئ لها معهد خاص بها.
ثم لماذا دائما مراكش هي التي يقع عليها الاختيار لاحتضان المهرجانات والاجتماعات
والمنتديات العربية مثل ندوة الفكر العربي الأخيرة؟ هل لأنها تحمل اسما أمازيغيا؟
أم لأنها مدينة أسسها ملك أمازيغي؟ أم انتقاما للماجن المعتمد بن عباد العربي الذي
اقتيد من الأندلس ليسجن بمراكش؟ أم لأن المغرب كان، إلى عهد قريب، يسمى "مراكش"،
وبالتالي فإن تعريب هذه المدينة يعني تعريب المغرب بكامله؟
فإذا كان سبعة أعضاء من مجلس إدارة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية قد انسحبوا من
هذا المجلس احتجاجا على الوعود العرقوبية التي قوبل بها "النهوض بالأمازيغية"، فإن
مهرجان نانسي بمراكش وحده كافٍ لانسحاب جميع العاملين ـ بما فيهم العميد ـ من هذه
المؤسسة التي دخل معها المغرب مرحلة جديدة من الشرقنة والاستعراب، وبوتيرة متسارعة،
لم يعرفها قبل إنشاء المعهد.
إن الاعتقاد بإمكان النهوض بالأمازيغية دون أن يتغير شيء في علاقة المغرب بالمشرق
العربي وهم وخدعة وتغليط، إذ أن مضمون هذا النهوض يمر بالضرورة عبر إعادة النظر في
هذه العلاقة، لأن وراء إقصاء الأمازيغية علاقة التبعية الهوياتية واللغوية والدينية
والفنية والغنائية والثقافية للمغرب بالمشرق. فرد الاعتبار للأمازيغية يعني،
بالتالي، الحصول على "الاستقلال" الهوياتي واللغوي والثقافي للمغرب تجاه المشرق.
إلا أن مهرجان نانسي الأخير جاء ليعزز الاستلاب والتبعية للمشرق على مستوى الثقافة
الشعبية الجماهيرية، أي الغناء، بعد أن كان هذا الاستلاب والتبعية يتركزان أكثر في
السابق على عناصر الهوية واللغة والثقافة "العالمة" ذات الجمهور المحدود. أليس هذا
"فتحا" جديدا للمغرب، بلا إسلام ولا دين جديد، وبقيادة عسكرية محلية؟ إنه أرقى
درجات المازوشية الثقافية التي يكاد ينعدم مثيل لها في تاريخ الشعوب الأخرى.
أمام هذا التوجه الشرقاني العروبي الجديد والقوي، نتساءل: ما الفائدة من معهد ملكي
للثقافة الأمازيغية وما دوره وما وظيفته؟ أليست وظيفته هي التخفيف من صدمة هذا
التوجه الشرقاني العنيف والمستفز، والمساعدة على تحمله وعدم مقاومته والاحتجاج ضده،
كما تفعل المسكنات الطبية التي تهيئ الجسم لتحمل الآلام والأمراض؟
وكم كانت نانسي صادقة وصريحة عندما قالت، في استجواب صحفي، بأنها لا تعرف أن سميرة
بنت سعيد مغربية. طبعا ليس هناك أي شيء في غناء سميرة بنت سعيد يدل على أنها
مغربية، لا اللغة ولا الكلمات ولا اللحن ولا الموضوع ولا الحركات. وهذا ما يطرح
علينا السؤال التالي: من جعل من المغنية سميرة بنت سعيد "المغربية" فنانة غير
مغربية؟ إنه هذا التوجه الشرقاني الذي تنهجه الدولة المغربية منذ الاستقلال، والذي
فرضته فرضا عن طريق التعليم والإعلام واللغة، والذي يجعل من الفنانين والمبدعين
المشارقة القدوة والنموذج لكل فنان وفنانة مغربية. فكل مغنية مغربية تريد أن ترتقي
بفنها عليها أن تقلدهم في اللغة واللحن والكلمات والحركات والموضوعات، أي عليها أن
تصبح غير مغربية، مثل سميرة بنت سعيد وأخريات كثيرات. ومهرجان نانسي يصب في هذا
الهدف ويخدمه: فالذي توفر له الدولة أكثر من 100 ألف معجب لا يمكن إلا أن يكون
نموذجا مثاليا لكل فنان ومغنِّ يحلم أن يصبح نجما عربيا مثل نانسي، أي غير مغربي
مثل سميرة وغيرها كما قلت.
لقد انتهت إذن مرحلة المغربة ـ التي كانت تعني استبدال الأطر الفرنسية بأطر مغربية
ـ وجاءت مرحلة "المشرقة"، التي ليست استبدالا للمغاربة بالمشارقة، بل تحويلا
للمغاربة إلى مشارقة.
ولا ننسى أن هذه "المشرقة" مستمرة، وبوتيرة جنونية كما قلت، بعد إنشاء معهد
الأمازيغية، وهو ما يعني تحديا واستخفافا بكل ما يقال عن النهوض المزعوم
بالأمازيغية ورد الاعتبار لها والمصالحة معها. وهذا ما يطرح ألف سؤال وسؤال عن دور
هذه المؤسسة ووظيفتها كما قلت.
|