| |
المساجد بين الخطاب الرسمي
وممارسة الأئمة
بقلم: عبد الله البعزاوي (أكادير)
بعد أحداث 11سبتمبر مباشرة انخرط المغرب رسميا في محاربة
الإرهاب، و لم يقتنع بفعله كثير من التيارات السياسية والمدنية ـ بل وصل الأمر
يبعضها إلى مستوى المعارضة ـ بدعوى أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد لعبة أمريكية
انضم إليها المغرب من باب الولاء والتبعية. إلا أن أحداث الدار البيضاء الإرهابية،
كذبت المتشككين ونبهت الغافلين، ودقت ناقوس الخطر الذي يتهدد الوطن والمواطنين، من
أناس أجريت لهم عملية غسل الدماغ...، حتى اعتقدوا أن تفجير أنفسهم، لنسف المباني،
وقتل الأبرياء، سيكون جزاؤه الجنة، وفي ذلك ‘’فليتنافس المتنافسون’’، في الوقت الذي
ينتظر فيه متزعموهم نتيجة أعمالهم للوصول إلى مقاليد الحكم، وبأية وسيلة، ولو كان
ذلك على جثث الأبرياء و آلام البسطاء...
في ظل هذا الجو المشحون المنذر بالمخاطر، صادق البرلمان المغربي بغرفتيه على
قانون محاربة الإرهاب، بعد أن كان قد اعترض عليه البعض من قبل...، ثم توالت
التدابير والإجراءات المختلفة للحد من مظاهر الـمد الأصولي المتطرف، فتعالت
أصوات تنادي بإعادة النظر في المقررات والمناهج الدراسية، وتدبير الشأن الديني،
فأقصي الوزير المتواطئ، وجاء بدلا عنه آخر بمؤهلات عالية...، (بحسب وسائل إعلامنا
المختلفة)، فأعاد النظر في المجالس العلمية، وذلك بتحديثها وتجديد هياكلها،
وتطعيمها بطاقات شابة من نساء و رجال...، إلى غير ذلك من التدابير...
لكن ماذا تغير بعد ذلك؟
حتى تكون الصورة محددة أكثر، سوف لن أتحدث لا عن قانون محاربة الإرهاب، ولا عن
إصلاح المقررات والمناهج الدراسية، حتى تكون منسجمة مع البعد الهويتي والثقافي
المغربي، ومع ما تدعو إليه المواثيق والمعاهدات الدولية التي تمت المصادقة عليها من
طرف الدولة المغربية...، ولكن سوف أكتفي برصد مدى التغيير الذي تحقق في المجال
الديني إلى الآن، وإلى أي حد استطاعت الوزارة الوصية، والمجالس التابعة لها، وفي
حلتها الجديدة،أن تقوم بترشيد أئمة بعض مساجد المملكة، وأن تضع حدا لتجييش
المشاعر، والضغط على النفوس بزرع الكراهية
والحقد فيها تجاه الآخرين...
إن المتتبع لما يجري في مساجدنا، من خلال ارتياده لها، في الأوقات الخمسة
المعهودة، بدء بالأذان وانتهاء بقراءة القرآن...، سيجد أن كل شيء فيها بعيد الصلة
عن التربة الدينية لهذا الوطن، فالأذان تؤدى بطريقة يعمد فيها أصحابها إلى التقليد
الببغائي للمشارقة، أما قراءة القرآن بكيفية جماعية على النمط
المغربي فلم يعد يعطى لها إلا وقت وجيز في أفق القضاء عليها تماما، وقد يطال
النسيان يوما ما الحزب الراتب، الذي هو عادة مغربية أصيلة، بدعوى أنها بدعة، فقط
لأنها غير معمول بها في الشرق، أما التجويد الذي كان فيه للمغرب طابعه الخاص، فقد
بدأ الأخذ فيه بالطابع المشرقي، بناء على ما شاهدناه أثناء مباريات التجويد
الرمضانية على شاشة التلفزيون، وسمعناه عبر الأثير من خلال أجهزة الراديو...
أما صلاة الجمعة فهي موعد للإفصاح عن كراهية الآخر ونعته بأبشع الأوصاف
والدعاء له بالهلاك، وتأليب الناس ــ بأسلوب حماسي ــ على معاداته والحقد عليه،
ويكفي أن تداوم الصلاة في مساجد محددة بعينها، ليلتهب حماسك، وتشتد حميتك، لنصرة
الدين والانتقام له من المتربصين به من يهود وصليبيين...
وحتى أكون أكثر دقة، لابد أن أسوق إليكم مثالا يتضح به ما أقول:
ــ ففي الخامس من نونبر المنصرم ( 05/11/2004)، حضرت إلى مسجد الإمام البخاري
بمدينة أكادير، لصلاة الجمعة، والإمام يخطب، وخطبته تدور حول مكر اليهود وأعوانهم
الصليبيين، وما يقومون به محاربة للإسلام والمسلمين، وبعد التوطئة والتمهيد،
قال، وبصوت جهوري حاد، مخاطبا جمهور المصلين: “إن وراء كل فتنة يهوديا”، ثم أخذ
يعدد ما تعرض له اليهود عبر تاريخهم، على يد نبوختنصر، وما أنزله بهم المسلمون في
خيبر وغيرها، وما تلقوه من إبادة في ألمانيا على يد النازية...، ثم بعد ذلك بشر
جموع المصلين، بأن الله قد توعدهم (أي اليهود) إن هم عادوا إلى طغيانهم في قوله
تعالى: “وإن عدتم عدنا”، وأن تنفيذ هذا الوعد ، سيكون على يد المسلمين المجاهدين
طبعا، مستشهدا بحديث الحجر والشجر اللذين يتضامنان مع المسلمين، حيث يناديان: “يا
مسلم، اليهودي ورائي فاقتله، واستثن من ذلك الغرقد، الذي هو شجر اليهود، الذي يقال
بأن اليهود يكثرون من غرسه الآن في إسرائيل .
إن النصر الموعود، الذي يحلم به العامة والبسطاء ممن ينتظرون المعجزات، يستغله
بعض الأئمة عن جهل أحيانا، وعن عمد أحيانا أخرى لأغراض دنيوية، في خطب الجمعة
والأعياد، لتجييش العواطف دعما لجهة سياسية معينة، وهذا ما يمكن أن يفسر به ما
أورده نفس الإمام في نفس الزمان والمكان، عن جابر الذي تنبأ ــ حسب فهم الإمام ــ
منذ زمن بعيد بما يحدث الآن في العراق ، بسبب الصراع حول الذهب الأسود (البترول)،
وما سيترتب عن ذلك من تحولات... إلى غير ذلك من تأويلات واستنتاجات، ...؛ وقد ذهب
به الأمر تحت وقع أحداث الفلوجة التي كانت إذاك في بدايتها، وأملا في نصر طالما
تمناه الجمهور، ولو بالخوارق والمعجزات، لأن ينسب هذا الكلام إلى النبي (ص) وهو
يقول: إنني متيقن بعد التحري والاستقصاء، أن جابرا
إنما سمع هذا الكلام عن الرسول (ص) الذي لا ينطق عن الهوى... ، وهذا شبيه بما
أقدمت عليه صحفنا إبان حرب الخليج الثانية، بعد اجتياح الكويت، حين أوردت أحاديث
منسوبة إلى النبي (ص)، تتحدث عن رجل اسمه صدام..، وما سيقوم به من قهر للأعاجم...،
وما سيحققه لهذه الأمة من عزة ونصر...،
مثل هذا الكلام في الظرف الذي قيل فيه، قد لا يكون الهدف منه، سوى إضفاء
المشروعية على أعمال العنف، التي يقوم بها من يعتبرهم أئمتنا مجاهدين، ويذهب ضحيتها
الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ...، وخطورة تبرير العنف والإرهاب، تكمن في إمكانية
إقدام بعض من تؤثر عليهم الخطب الرنانة، حال انفعال النفس، على ارتكابه في حق
الأبرياء من أبناء الوطن، أو من المترددين على بلدنا، من سياح ورجال أعمال
وسياسيين، متذرعين في ذلك بما يشبه ما تذرع به منفذو تفجيرات الدار البيضاء.
هكذا أنهى إمامنا خطبته الأولى، وبعد الاستراحة المعهودة بين الخطبتين..، أخذ
في تلاوة الخطبة الثانية، لكن ببرودة شديدة وبهدوء غريب..، يحس المتلقي من خلال ذلك
بعدم أهمية موضوعها، ويغلب على الظن أنها من خطب وزارة الأوقاف...، التي توزع عادة
على الأئمة في المناسبات الوطنية، وموضوعها يدور حول حدث المسيرة الخضراء، ولا أريد
هنا أن أعلق، إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن قضايا الآخرين، بالنسبة إلينا أهم من
قضايانا، ولو كانت بحجم قضية وحدتنا الترابية.
وعودا على بدء، أود أن أعرف ماذا تغير بعد كل ما قيل، بشأن إصلاح المجال
الديني، وترشيد مساره، حتى يضطلع المشتغلون فيه بمسؤولياتهم، بعيدا عن المنزلقات
التي بدأت نتائجها تظهر للعيان، كظواهر غير مألوفة في مجتمع متسامح،
يؤدي شعائره الدينية، ويحفظ للآخرين حقهم في الاعتقاد والمواطنة والأمن والسلام.
لأن المتتبع لخطب الأئمة من فوق منابر المساجد سيتأكد لديه، أن تأثير الدولة على
هذا المجال لا يزال ضعيفا، وسيخلص إلى
1 ـ أن بعض أئمتنا لا يزالون يعيشون في زمان غير زمانهم، فهم يحيون بدواتهم هنا
والآن، بينما يحلقون بعقولهم وأفكارهم، في غابر الأزمان وغرائب الأمصار. ومن يكون
هذا حاله لا يمكن أن يهدي الناس، بل سيضلهم ويسير بهم إلى الهلاك.
2 ـ أن من كان هذا دأب أئمة مساجده، مضافا إليه ما يتلقاه أبناؤه في المدرسة ومن
وسائل الإعلام المختلفة...، لا يمكن أن ينتظر التغيير في اتجاه تكوين عقليات تتبنى
مبادئ الحداثة والعقلانية والديمقراطية...، عقلية تقبل بالآخر المختلف، وبالرأي
المغاير، وبأنه لا فضل لأحد على آخر، لا بسبب الدين أو اللون أو العرق أو اللغة أو
الجنس....، وللوقوف على بعض العقليات التي تؤطر المواطن في المجال الديني، سأورد
مثالا لما سمعته قبل سنة، من أحد أئمة المدينة، أثناء خطبة عيد الأضحى، وهو يقول:
...لا يمكن أن نسمح بغير إسلامية المغرب...، وشحنة هذه العبارة، وقوة تأثيرها، و
ما قد تحدثه من ردة فعل، قد لا
تخفى على أحد؛ ثم أردف يقول: ... إن المسلمين وحدهم الذين يجب أن يقودوا العالم،
وقد طمأن جموع المصلين، بأن النصر آت... وأن جند الله يمهدون له... ؛
لكن للمرء أن يتساءل: أليس بالعلم وقوة الاقتصاد والحرية والديمقراطية...، تتحقق
قيادة العالم؟؟ فالمنطق يقتضي أن يكون موضوع الخطبة: بما ذا تتحقق قيادة العالم؟
فنحن الآن نرى مصير الذين يحملون نفس المنطق الذي يروج له أئمتنا، فبدل أن يساهموا
في البناء، خربوا الأوطان، ودمروا الشعوب، ونشروا المآسي.
3 ـ أن الذي ينتشي فرحا بما يصيب الناس من كوارث طبيعية وتفجيرات انتحارية،
ويدعو لمخالفيه بالهلاك والدمار (اللهم شتت شملهم، ورمل نساءهم، ويتم أولادهم)، وهي
لازمة ألفنا سماعها عند بعض أئمتنا، في نهاية خطب الجمعة والأعياد، لا
يستحق أن يعطى منصبا، يفترض في صاحبه أن يكون رحيما بالضعفاء، عطوفا عليهم، يدافع
عن حقوقهم، لا أن يحرض على انتهاك الحقوق، والنكاية بالأبرياء... إلى ما شابه ذلك
من الممارسات أللا إنسانية، ومن كان بمثل هذه القسوة لا ستحق أن يتقلد مسؤولية
الإمامة يهدي الناس ويبشرهم بالخير....
إن المتأمل في مجريات الأمور، قد لا ينتظر تغييرا كبيرا، ما دام إصلاح
البرامج والمقررات الدراسية، لم يأت إلا بما هو بين أيدينا الآن، وما دام خطباء
المساجد، لا يزالون يصدحون بما يندى له جبين الإنسانية، من دعوات الحقد والكراهية،
والعنف ضد الآخر، وما دام إعلامنا، الذي يتغنى بالحداثة والديمقراطية وحقوق
الإنسان، يقصي ثقافة الشعب ولغته، ويناصر الديكتاتورية والقهر، ويروج للفكر القومي
البعثي، الذي ارتكبت بموجبه المجازر والإبادات وانتهكت بسببه الحقوق...، لأن
التغيير يتطلب الإرادة السياسية، ووضع المصالح العليا للوطن والمواطنين فوق أي
اعتبار شخصي أو مذهبي، فمتى تحقق هذا الشرط، يكون التغيير في المستقبل مأمولا.
عبد الله البعزاوي13/02/2005
|