| |
الإعجاز اللغوي و نظرية
العجز عند الطفل الأمازيغي
بقلم :عناني إبراهيم (أسيف ن دادس ,ورزازات)
إن تعريف اليونسكو القديم لمفهوم القراءة هو “قدرة الشخص على
قراءة و كتابة وفهم عرض بسيط يرتبط بواقعه اليومي”. فعلى الرغم من تجاوز هذا
التعريف، فإن مؤسسة المسجد في تاريخها الطويل لم ترق في يوم من الأيام للوصول إلى
مستوى تطبيق المفاهيم الاإبستمولوجية لهذا التعريف. فكلمة "إقراء" التي هي مفتاح
الثقافة المسجدية لا تعني الفهم أو الزيادة في المعارف والقدرات, وإنما تعني ترديد،
وبشكل ببغاوي، يقوم خلاله الطفل باستظهار نصوص معقدة متعالية، بعيدة عن التفاعل
اليومي، تتحول فيها الدباجة الصوتية إلى ذبذبات ضوئية تتعقد رموزها كلما أصر الفقيه
كتابتها بقلم من قصب وحبر مقدس – السمخ - تتداخل فيها الحروف وتتشابك حتى يصعب
التمييز بين الواو وبين القاف أو بين الكاف واللام. كل هذا من أجل إسقاط القدسية
على الحروف، وليس من أجل تسهيل عملية التعليم والتعلم. فإذا كانت اللغة أو الرموز
اللغوية هي التي تعطي أو توفر المعلومات حول المميزات الاجتماعية والثقافية للكاتب
أو المتكلم، فإننا أمام أشخاص معقدين مثل لغتهم ، أناس تنقصهم الكفايات اللسنية ،
حيث إن عاداتهم اللغوية لا ترقى إلى مستوى المطلوب خاصة عندما نؤمن أن الطفل
الأمازيغي – كطفل طبيعي ـ يحمل معه اللغة ألام إلى المسجد.
نحن أمام شكل آخر مما سمي بنظرية العجز اللغوي Deficit theoryوالتي لها علاقة بما
يمكن أن نسميه باللاكفاية اللسنية Linguistic incompétence ، أو ضعف التكلم بلغة ما
أو نسيانها. إن غياب الممارسة اللغوية أو التعبير اللفظي كإنجاز لما تعلمه الطفل
داخل المسجد يرجع إلى إعطاء الأهمية للكم وليس للكيف. فعن طريق التخزين والحفظ يعم
الانصياع ويغيب النقد والمناقشة وينتهي الإبداع والمبادرة الشخصية.
إن ما يفسر نظرية العجز اللغوي هو قيام الفقيه بتشحين الطفل بعدد هائل من المعلومات
الغير العلمية والغير التفاعلية وبدون تفكير ناقد ومناقشة المعرفة المنقولة، ودون
مراعاة الجوانب السيكولوجية لهذه العملية حتى أصبحت النصوص غير مرتبطة بواقعه
اليومي. إنها نصوص مرتبطة بواقع غيره، واقع الآخر البعيد في الزمان والمكان «ليتم
تكديس المعارف التاريخية والثقافية للحضارة الوافدة، وبذلك تعلن مؤسسة المسجد
استمرار الأمية التربوية للطفل الأمازيغي طول حياته، وتعلن نهاية التطور البيولوجي
لدماغه.
نهاية الذكاءات المتعددة
تماشيا مع المبدأ الواحد في الوجود والثقافة، فإن نظرية التنميط المسجدية عملت على
تجميد كل الذكاءات المتعددة التي يتوفر عليها الطفل الأمازيغي داخل ثقافة أمه.
وتماشيا مع التساوي أو التماهي في المطلق أو منطق الواحد والوحدة في كل شيء، فإن
مؤسسة المسجد تنادي وباستمرار إلى أحادية الذكاء وبشكل بضائعي، ثم اختزال جميع
الذكاءات أو الكفايات الإدراكية والوحدانية في الحفظ والاستظهار. وقبل الحديث عن
اقتصار المسجد على ذكاء الحفظ أو الاستظهار وعلاقته بالاضطرابات اللغوية أو العجز
اللغوي، أود أن أشير الى أن تمثيلية مراسيم الزواج التي يزاولها الطفل كل مساء
تنبني وتتمركز على الكفايات في بعدها الكيفي وعلى ذكاءات متعددة تتغير حسب السياق
الثقافي لكل أطوار الزواج, وتتحول حسب الوضعية الإشكالية المطلوبة. فعكس مؤسسة
المسجد التي تؤسس لمجموعة مثالية طوباوية تبنى على أحادية الكفاية وأحادية الذكاء،
فإن المجموعة المثالية داخل المؤسسة الأولى- ثقافة الأم ـ ومن خلال تمثيلية الأطفال
تنبني على الوضعية/المشكلة ذات الطابع الملموس يتيح للأطفال وضع فرضيات وتخمينات
كمناهج أو إستراتيجيات لتحصيل الجودة بتعبئة موارد أو أطوار العرس كما توفرهم
الثقافة نظريا، وبدرجة معينة من التجريد. وبما أن فشل أو نجاح عرس مجموعة ما يرتكز
على الضبط والدقة في صيغة مغامرة فإن الطفل يعتمد على لائحة من القدرات العامة
وذكاءات متعددة لكي يقترح حلا مناسبا للوضعية/المشكلة داخل كل مراسيم وطقوس الزواج.
فالطفل في دور» اسلي «أو «تسليت» مثلا يحتاج إلى الذكاء الحسي الحركي Kénesthetic
inttellegence لكي يمكنه أو يمكنها من الاستعمال الدقيق للجسم خاصة في رمي حجرة
الملح في اتجاه العروسة بشكل لا يؤدي استعمال الجسد للتعبير عن الإحساس أو تعلن
الانسجام مع دقات الطبول وله علاقة بالذكاء الموسيقي musicale intellegence الذي هو
القدرة على التعرف أو إنجاز الأشعار التي تلائم الطقوس أو مراسيم الزواج مع مراعاة
إيقاع أو سرعة القصائد الغنائية.
قد يحتاج الطفل كعريس» اسلي» لاستعمال الذكاء البين شخصي interpersonale
intellegence كمهارة تخوله الفهم أو العمل مع الآخرين كما ستساعده وباستعمال كل
الحدوس أو الحساسيات لكي يكشف عن خطط العروسة. فلكي يعثر على العروسة» تسليت» داخل
الظلمة (عادة ما تطفئ العروسة الأنوار في يوم الدخلة) يحتم عليه أن يستعمل الذكاء
المكاني spacial inttelegence لمعرفة مكان العروسة مند الوهلة الأولى. فكل فرد داخل
هذه المجموعة يحتاج إلى الذكاء الذاتي الباطني interapersonale intellegence كقدرة
تمكن من فهم أو مسايرة أطوار الزواج والتحكم في الأحاسيس الباطنية والتذكير دائما
بما يجب فعله، وذلك بإجراء مقاومة كافية بشكل يؤدي إلى التشكيك في الوضعية الراهنة
وبلورة أفكار جديدة. فاختيار اسناين «رجال العريس «ينبني على ذكائهم اللغوي
inttellegence linguisticرجال لهم مهارات لغوية لكي يدخلوا الحماس أو إرضاء أو حتى
إقناع نساء العروسة في المفاوضات والمشادات الكلامية أو الانفلات من بعض الأعراف
التقليدية المفروضة من طرف النساء. نفس الذكاء اللغوي يحتاج إليه نساء العروسة في
يوم «تناكة» يوم الذهاب إلى منزل العروس حيث يجب عليهم أن يتوفروا على رصيد لغوي
على شكل أشعار يبين فيه المميزات البيوثقافية للعروسة مقارنة مع خصائص العريس.
والغريب في الأمر أن كل مجموعة تستعمل هذه الذكاءات الأنتروبولوجية لتبيان، ليس فقط
الخصائص الجمالية للعروسة أو العريس، وإنما لتبين المؤهلات الثقافية لكل واحد منهم
والتي لها علاقة بمدى تعدد الذكاءات عند كل من إسلي وتسليت.
أما الوضعية/المشكلة التي تؤسس للمجموعة المثالية داخل مؤسسة المسجد, فقد تعتمد على
نماذج أو أمثلة توضيحية على شكل نصوص تقليدية ثابتة وغير ملموسة تنتمي لوضعية
مجموعة عمرية لفترة معينة من تاريخ الإنسان. إنها وضعية لا تساير عصر الطفل
الأمازيغي ولا تحمل ألغازا تثير انتباه المتعلم لكي يقترح لها حلولا ناجعة باستعمال
ذكاءات ملائمة. وكون هذه الوضعية تطرح مشاكل ميتافيزيقية متعالية فإنها تفوق مستوى
إدراك الأطفال دون سن الرشد فأصبح النشاط لا يناسب التحدي الفكري الذي يجب على «إمحضارن»
الطلاب أن يرفعوه, مما يؤثر سلبا على انعدام الحوار العلمي بشكل يثير الخلافات
السيوسيو معرفية وتجنيد أو تقليص تلك الذكاءات الأنثروبولوجية التي كانت نشيطة داخل
المؤسسة الأولى. إن اختزال الذكاءات وبشكل بضائعي يتم عن طريق مقارنة قدرات الحفظ
أو الاستظهار بين ذوات أطفال مختلفة ويتم إفساد القدرات المعرفية الماقبلية في كل
حالة دماغية معينة. وبما أن الطفل الأمازيغي يتوفر على نسق عصبي سليم وخصائص صوتية
بيولوجية سليمة, فالسؤال المطروح هو لماذا لا يستطيع الطفل الأمازيغي أن يتواصل
باللغة العربية على الرغم من أنه يقضي معظم النهار داخل فضاء المسجد؟ لماذا يستطيع
أن يستظهر نصوصا معقدة دون أن يفهم معناها؟
للإجابة عن هذه الأسئلة يجب الاستعانة بالدراسات الفزيولوجية حول الدماغ ووظائفه
التنظيمية وكذلك تدهور إنتاج الكلام أو التعبير اللفظي وعلاقتهما بالاضطرابات داخل
الدماغ. فبعد دراسته المعمقة للدماغ استطاع Paul Procca أن يكشف عن قطب مهم داخل
الدماغ سمي أخيرا «بباحة أو تيار بروكا» Aire de Brocca .فهده المنطقة متخصصة في
إنتاج اللغة ومسؤولة عن إنتاج البنايات النحوية. فكل فرد يحمل خللا في هذه المنطقة
يمكنه أن يفهم الكلمات أو الجمل البسيطة لكنه يجد صعوبة كبيرة لتكوين جملة معقدة
وفي الوقت الذي تبقى سيرورة فكرية أخري سليمة. وبعده قام العالم Carl Wernicke
اكتشاف ما سمي أخيرا بباحة ورنيك Aire de werneck كمركز للفهم داخل الدماغ حيث
استطاع أن يعلل أنه بعد إصابة هذا المركز بضرر أو خلل فإن الفرد يفقد قدرة الفهم
للغة على الرغم من أن القدرات الإنتاجية للغة لا زالت نشيطة وينتج عن ذلك ما سمي»
بفازية الفهم « Aphasie de comprehension فالفرد المصاب بهذا الخلل يتكلم بطلاقة
لكن خطابه خالٍ من المعنى ولا يستطيع أن يفهم ما يقال له، وهي عكس « فازية بروكا»
Aphasie de brocca حيث الشخص لا يستطيع ان يتكلم لكنه يفهم ما يقال له. وانطلاقا من
هذه الاطلالة السريعة على الاضطرابات اللغوية داخل الدماغ وتأثيرها على إنتاج اللغة,
فإن حفط وتجويد النصوص دون فهمها أو دون ممارسة لغتها في التداول اليومي, إشارة
واضحة عن وجود خلل ما أو وجود أفازية من نوع جديد. فعندما يقوم الطفل الأمازيغي
بتجويد خطاب عربي أو الاستماع إليه فإن جهازه السمعي يحلل المعلومات الصوتية فقط
ويكون الجهاز المخصص بالدلائل والسيمياتيكية معضلا, لأنه لا يشارك في اختيار
العناصر السيمياتيكية داخل المخزون أو الذاكرة الفعلية (المفاهيم القبلية). وهذا
يدل على وجود خلل داخل باحة ورنيك Aire de werneck المسؤولة عن تحليل كل العناصر أو
الكلمات في مجملها للوصول إلى معنى الخطاب بأجمله. إن قدرة الطفل الأمازيغي على
تجويد اللغة بدون التحدث بها أو التحاور بها يفسر بوضوح استقلالية الذكاءات أو
الكفايات من جهة ويثبث الفرضية التي تقول باختلاف وظيفتي اللغة والموسيقى ويفسر
أيضا وجود منطقة في الدماغ تتعلق فقط بإدراك أو إنتاج الموسيقى، والتي ليست لها أية
علاقة بكفايات اللغة أو إنتاج اللغة. وعلى الرغم من أن معنى الجملة مرتبط بإيقاعها
الصوتي «le ton» ووجود قطبي الموسيقى واللغة معا في الجهة اليمنى للدماغ، فإن
الدراسات قد أثبتت أن الأشخاص الذين يعانون من الافازية أو الغير القادرين عن
الكلام أو التعبير اللفظي لا يفقدون بالضرورة الكفاية الموسيقية فقط,لأن الإيقاع
الصوتي «le son» لكل من الموسيقى واللغة لا يتم تحليله من طرف باحة او تيار واحد.
إن الذكاء الموسيقي وحده المسؤول عن نجاح الطفل الأمازيغي في حفظ النصوص واستظهارها,
ولهذه العملية أصولها البيوثقافية. فالطفل يلج مؤسسة المسجد وهو مهيأ بيولوجيا
للقيام بالتجويد والاستظهار لان ذكاءه الموسيقي تم بناؤه وهو يقوم بإجراء طقوس
أحيدوس. ولأن أصول حالته البيولوجية لها جذور في الأشعار المسائية التي يتغنى بها
خلال أطوار الزواج كما أن إعطاءه الأهمية للإيقاع والقراءة الصائتة المصحوبة
بالحركات الجسدية ما هو الا اجترارا للحركات الطقوسية التي يمارسها وهو يتغنى
بقصائد أحيدوس رغم اختلاف هذه الطقوس وظائفيا. فهذا التهييء البيولوجي هو الذي
يساعد على حفظ النصوص دون فهمها لكنه يؤثر سلبا على الكفايات الخاصة لفهم اللغة,
حيث يؤدي إلى تجميدها فيصعب إنتاج اللغة والتواصل بها وربما كان ذلك هو السبب
الرئيسي في بقاء اللغة الأمازيغية رغم قرون من المثاقفة.وهذا ما يزكي بالتالي تلك
الفرضية التي تؤمن باستقلال التيارات الهوائية خاصة داخل الدماغ المزدوج لسنيا
Cerveau bilingue وهذا ما يفسر تواجد أو تعايش كل من الأمازيغية والعربية داخل دماغ
الطفل الأمازيغي مع استقلال التيار الخاص بكل لغة على حدة, في الوقت الذي كان من
المفروض أن تهيمن اللغة العربية تماشيا مع منطق الثقافة المهيمنة والتي تدافع عن
أولوية اللغة العربية.لقد أثبتت بعض الدراسات أن تعلم اللغة الثانية في سن مبكر
يؤدي إلى استعمال كل من التيار الدماغي الخاص بالفهم والآخر الخاص بإنتاج اللغة
الأولى –أي اللغة الأم , لكن لماذا لا تنطبق هذه الحالة على الطفل الأمازيغي على
الرغم من أنه يبدأ تعلم اللغة العربية منذ السنين الأولى من طفولته؟ وقد نتساءل
أيضا لماذا لا يتكلم اللغة العربية بنفس الطلاقة التي يتكلم بها اللغة الأم –الأمازيغية؟
قد يبدو منذ النظرة الأولى أن اللغةالعربية لا تتشابه مع اللغة الأمازيغية بدرجة
يسمح باستعمال نفس التيارات الدماغية,وكما أشرنا إليه سابقا فإن الطفل الأمازيغي لا
يستعمل نفس التيارات الدماغية لفهم كل من الأمازيغية والعربية و لإنتاج كل واحدة
منه على حدة.إن مسالة الازدواج اللسني Bilinguism وغموض الدماغ المزدوج لسنيا تتعقد
أكثر كلما أردنا إسقاط التحليل على لسانيات شمال إفريقيا, حيث نجد أنفسنا أمام
إشكالية التأثير والتأثر بين التغيرات الوراثية الجينية والمعيقات اللسنية من أجل
اقتراح أصول انتشار اللغات وتمازجها.نحن أمام ميدان لسني معقد يصعب فيه معرفة أسباب
بقاء واستمرار اللغة الأمازيغية على ألرغم من «هيمنة «اللغة العربية,قد تحتاج إلى
دراسة معمقة لمعرفة الأسباب التي أدت إلى خلق نوع جديد من لغات الكريول «creoles «تأسست
بناها على حساب اللغة الأمازيغية. كيف يحق لنا أن نتكلم عن هيمنة اللغة العربية في
بلدان لا يتوصل أصحابها بهذه اللغة؟ ما الفائدة من التعريب إذا كان أصل اللهجات من
العربية؟ كيف يمكن أن نصف اللسان الأكثر تداولا بأنه لسان أقلية لسنية؟
قد لا نحتاج إلى توجيه الثقافات وتغييرها من أجل الإجابة على هذه الاسئلة وقد لا
نحتاج الى استيراد نمادج تقافية غربية للتميز بين ما هو محوري وبين ما هو فرعي.
وعوض أن نتكلم عن النمودج التقافي الغربي المعروف بSalad bowl وإسقاطه على هذا
الواقع المعقد لسنيا وثقافيا يمكن ان نصوغ نمودجا مغايرا لهذه الأمم المتواجدة على
تراب واحد. إن ما يناسب الثقافات في شمال إفريقيا هو ما يمكن أن نسميه بنمودج Soup
bowl حيث يتغير مفهوم الحريرة تبعا للكيفية التي يتم بها تهييئها او تناولها في كل
بلد على حدة, فهناك من يشربها وهناك من يأكلها وذلك حسب المواد المكونة لهذه
الحريرة. فالاختلاف الثقافي لا يمكن فقط في كيفية استهلاك أو تكوين الحريرة, وإنما
في المواد المكونة لهذه الحريرة, إذ يجب التمييز بين ما هو أساسي محوري وبين ما هو
فرعي ثانوي. فالأمازيغية مبدئيا ستشكل البنية الأساسية لهذه المأدبة. وتضاف إليها
الثقافات الفرعية الأخرى كحشوة تزيد من كثافتها. فإذا كان الأصليون يستهلكون
ثقافتهم «حريرتهم «صافية خفيفة بلسانهم وأفواههم، فإن الوافدين يستعملون أدوات
غريبة عنهم وغريبة عن الحشوة التي تكون ما هو فرعي ولهذه الحريرة, «فلنتناول العدس
«الحمص» أو «الشعرية» كحشوة وافدة على «الجزيرة الأصلية». يضطر الوافدين إلى
استعمال أدوات سطحية مصطنعة لأكل هذه الحشوة وليس لشربها تماما كما يستعملون لغة
متعالية لا تناسب ثقافتهم المتداولة يوميا ولا تساير البنية السوسيو تقنية لهذه
الثقافة.
وبشكل عام فإن نجاح أو ملاءمة أي نموذج ثقافي سواء كان نموذجا للشلائط «أو نموذجا
«للحريرة» على سبيل المثال، يتأسس على حساب اللغة التي لها علاقة مباشرة بالجانب
السوسيوتقني لهذه الثقافة. فلكي تكون الثقافة محورية يجب أن تكون لغتها يومية معاشة
تمكن الأفراد من تذوق مكونات هذا النموذج الثفافي.
نهاية القراءة
إن التحليل الفزيولوجي الدقيق لعملية القراءة الصائتة داخل فضاء المسجد سيحيلنا إلى
الشكل البدائي لوظيفة اللغة وارتباطها بالحركات الطقوسية التي تبين مدى التطور
البيولوجي للدماغ بشكل عام. فملاحظة الأطفال وهم يقومون بحركات جسدية وأصوات عالية
يذكرنا بفكرة العالم الأنتربلوجي Bronislaw Malinowskiوتحليله للدور الذي يلعبه
الكلام – كتعبير لفظي في التفاعل الاجتماعي,حيث يفترض أن «وظيفة اللغة في استعمالها
البدائي مرتبطة بالحركة عند الإنسان كقطعة من سلوكه, إنها نمط من الحركة وليس وسيلة
للتفكير«.
إن طقوس القراءة الصائتة المسجدية تتطلب جهدا فيزيولوجيا في إنتاج ذبذبات صوتية
باستعمال الشفتين, وعوض أن يربط الطفل العملية بحركة العين والجهاز السمعي أو بجهاز
الذاكرة لتحقيق المعنى, فإنه يقوم بحركات جسدية طقوسية تتماشى مع الإيقاع الصوتي
لهذه النصوص. فوظيفتها تقتصر على تأسيس وتقوية العلاقة بين الفقيه والأطفال, فيغيب
الاستماع الوظيفي ويحل محله الضرب على الألواح ليجسد ما سماه Malinouwski «بالتواصل
الحميمي Phatic bommunion الذي يعني تلك الطقوس اللفظية اليومية التي يستعملها
الناس في حياتهم اليومية ليس من أجل إعطاء الأخبار أو توفير المعلومات وإنما فقط
لإبراز جودة العلاقة مع الآخرين والحفاط على التوازن الاجتماعي أو التذكير بوجود
الآخرين. وفي هذا الاتجاه يمكن أن نتكلم عن القراءة الحميمية Phatic readingداخل
فضاء المسجد: القراءة من أجل القراءة تشبه الى حد ما إلقاء التحية ووظيفتها داخل
ثقافة ما حيث تنتهي كلما تم الحفاظ على سلامة العلاقات بين الفقيه وطلابه أو كلما
عم السلام بين العصا ورؤوس الأطفال. تذكرنا أيضا هذه الأشكال البدائية للقراءة
وطقوسها بعالم القردة والأصوات التي تتبادلها هذه الحيوانات من أجل الاستئناس
وتثبيت البقاء والتضامن Mutual Grooming لتقوية الخيوط العشائرية والتذكير بسيادة
الأمن.
ففي خضم سلطوي أبوي قمعي يعتمد على التخويف والاستبداد,يخلق لدى الأطفال ذلك
الإحساس بالدنيوية والتحقير ليفجر مكبوتاته في حركات جسمانية كمحاولة لاسترجاع ذلك
التوازن البيولوجي النفساني المألوف داخل ثقافة الأم: فالضرب على الألواح ما هي إلا
محاولة لفسح المجال أمام الروح الديونيزوسية والتفكير بالجسد والغرائز وإعطاء
الفرصة للطاقات اللبيدية التي يحرمها فضاء المسجد.وفي غياب قراءة وظيفية تحرك النسق
العصبي بأكمله أو تعمل على بناء أو استكمال كل الذكاءات أو الكفايات
الأنتروبولوجية,فإن الطفل يتلذذ بعناق الألواح ليتذكر ضربات أو نبضات الأم على
ماخرته وهو ما زال صغيرا أو بذلك العناق وهو في خضنها تدندن بصوت رقيق:
Ahraru yahraru .ahraru n ihriran
Asekka tensit ghur-i ,aghrum ur-t-id tufit
Zbib iherm zar-i…………………………..
يا اهرارو اتيني في المساء ضيفا فلم تجد عندي الخبز ولا املك زبيبا....
لن أدخل في تحليل بنيوي لتشريح هذه الأغنية القصيرة كنموذج أصلي ومنطقي للذاكرة
الشعبية الأمازيغية, فقط سأكتفي بتناول وظيفتها الثفافية. فدورها يكمن في تنشئة
الطفل وتطوره البيولوجي وتهدف إلى اكتساب ثقافة الأم,والأهم من ذلك فإن هذه الأغنية
تبين مدى استعداد الطفل لاستقبال بنى لغوية معقدة وتوفره على مبادئ ما قبلية لها
علاقة بذلك النحو الكلي أو الكوني universal grammar الذي طالما يتحدث عنه تشومسكي
في أطروحته حول النحو التوليدي Generayive grammar كمجموعة من القواعد المحدودة
تمكن من توليد عدد لا نهائي من الجمل. فعلى الرغم من انعدام تفاهم لسني متبادل بين
الأجناس, فإن هذا النحو الكوني الفطري سيبين لزائر قادم من المريخ مثلا أن البشر
فوق الكرة الأرضية لهم لغة واحدة مشتركة. وكما سنبين لاحقا فإن انعدام التفاهم
والتواصل بين الأجناس لم يكن الا نتيجة لتلك الخلفيات الأيديولوجية - السياسية
والاقتصادية لموئسات عمرت في تاريخ البشرية.فبنفس الخلفيات عملت مؤسسة المسجد على
تعقيد البنى اللغوية, بخلق نصوص إعجازية يصعب على الطفل الأمازيغي أن يسقط عليها
قواعد ذلك النحو الكوني الموجود بيولوجيا في دماغه، والذي يهدف أساسا أو على الأقل
يساعد على اكتساب لغة تواصلية وجودية وليس لغة متعالية غائبة في وجوده.
إن استماع الطفل وتجاوبه مع أغنية» اهرارو»Ahraru رغم صعوبة بنيتها اللسنية تبين أن
الطفل يملك وبشكل فطري هبة داخل دماغه تمكنه من فهم الكلمات التي تتغنى بها أمه رغم
تعقيد بنية اللغة داخل الأغنية. ويزكي في نفس الوقت تلك الفرضية التي تؤمن بأن
اللغة ليست نتاجا ثقافيا يمكن تعليمه من جيل إلى جيل, بل كجزء منعزل في البنية
البيولوجية للدماغ (وهذا ما يناقض نطرية المسجد التي تؤمن بان الأطفال يأتون إلى
هذا العالم بدماغ خالية وكصفحات بيضاء يجب تكديسها بقوالب من اللغة) وتماشيا مع
تطور علوم الإدراك Science Cognitive , قام بعض علماء النفس –اللسني
Psycholinguists بإجراء تجربة سميت بالامتصاص الغير المغذي «Non nutritive Sucking
«تهدف إلى تبيان درجة أو سرعة الامتصاص حينما يتلقى الطفل الصغير أصواتا Phonemes
مختلفة.فإذا عمل على سماع صوت ما على الزيادة في درجة الامتصاص فهذا يبين أن الطفل
قادر على تمييز الصوت Phoneme المسموع عن سابقيه ويؤكد بالتالي أن الطفل مهيأ
ومستعد بيولوجيا لاكتساب لغة معقدة .وبعيدا عن إسقاط هذه التجربة أو قياس درجة
الامتصاص عند طفل أمازيغي وهو يستمع إلى أغنية أمه, فقد نجد أنفسنا أمام مسألة
اقتصار الأغنية على مفاهيم وليس أصوات لها علاقة بالطعام وبالامتصاص نفسه! كيف يتم
استيعاب مفاهيم مثلا, الخبز,الزبيب, التمر من طرف طفل دون سن الثانية؟ هل هذا يعني
ان الأطفال كما يشير اليهم تشومسكي يتوفرون على آلة أو قطب داخل دماغهم لكسب اللغة
(L.A.D) Language acquisition device أم أن الأمر يتعلق بقدرات إدراكية عند
الأطفال؟ ومهما يكن السبب فإن الاستعداد البيولوجي عند الطفل الأمازيغي – كباقي
أطفال العالم – وتسلحه بتلك البنى النحوية الفطرية هما المسؤولان عن اكتساب لغة و
جودية حاضرة في واقعه اليومي وبدون الذهاب الى المدرسة أو تعليم مؤسساتي. وبما أن
اللغة هي «استعمال لا نهائي بوسائل محدودة», فإن الطفل تماشيا مع تطوره البيولوجي
وتطور نظامه الإدراكي يقوم باستعمال عدد محدود من العناصر أو الكلمات لخلق عدد غير
محدود من البنيات,وبطريقة لا شعورية لا يستعمل تلك القواعد الفطرية لينتج ويؤول
وبكل انسجام مجموعة من الكلمات أو البنى التي لم يسبق له أن واجهها من قبل. فنجده
يدخل في مشروع جماعته لتكوين أغنية عاشوراء انطلاقا من المفاهيم التي كان يسمعها من
أمه يقوم» بتوليد» أغنية جديدة.
Bayannu Karkanu Fkwakht-id a lalla
Maquar isul iga ilamn anssift nettisht.
بيانو كركانو قدمه لنا يا أماه و لو على شكل حبوب فقد نصفيه ونأكله»
ما يثير الانتباه هو تشابه مقدمة هذه الأغنية بمقدمة الأغنية التي كانت الأم تتغنى
بها و هو ما زال صغيرا. ماذا نعني بكل من Ahraru yahraru في أغنية الأم وكذلك بكل
من Bayannu karkanu في أغنية الطفل؟ وبغض النظر عن دلالة هاته المفاهيم ثقافيا وما
لها من علاقة بالنماذج الأصلية في الثقافة الأمازيغية, فإن هذه الكلمات أو المفاهيم
تبين قدرة الطفل على اختراع لغة افتراضية منبثقة من اللغة الأم وتبرهن أساسا, وهذا
هو الأهم, على الابتكار والتجديد المستمر للغة كما تنادي به الكفاية اللسنية
بمفهومها التشومسكي وتبين أنها وبوضوح مدى اكتسابه للكفاية الثقافية» كمجموعة
مندمجة ووظيفية من المعارف والمهارات To know how» فهو يستطيع الآن وبدون مساعدة
أمه أن يهيئ الطعام لنفسه وعبر الكفاية اللسنية يتم النزول من المعارف العامة نحو
المعارف التنفيذية لتصبح المعرفة ليس من أجل المعرفة فقط بل من أجل الفعل.لن أخوض
المغامرة في مسألة أصل وتطور القدرات الإدراكية عند الطفل الأمازيغي أو مدى علاقة
النسق الإدراكي بالانتماء الطبيعي وتأثير هذا الأخير على الجانب الجيني عند الطفل
بصفة عامة، بل سأكتفي بتفكيك كفايات الطفل الأمازيغي داخل هذه الأغنية القصيرة
كنمودج أصلي للثقافة الأمازيغية بشكل عام. وسيكون الهدف من وراء كل ذلك تبيان مدى
وجود الكفايات – لسنية أو غير لسنية – عند الطفل الأمازيغي قبل ولوجه فضاء المسجد.
لمقاربة هذه الكفايات ومعرفة كيفية انشغالها سننطلق من ملاحظة كل الإنجازات داخل
هذه الأغنية: فكل نشاط كفاياتي ينبني على الفعل». فالطفل يعرف أن يتكلم,أن يغني, أن
يهيئ الطعام,الخ.ولكل عملية أو نشاط ما يقابله من الكفاية الخاصة به، فقط ما يجري
داخل دماغه من أنشطة كيميائية يبقى رهين التساؤلات التالية: هل للطفل الأمازيغي
استعداد متجذر لبناء الكفايات قبل ولوجه فضاء المسجد,أم أنه مستعد لتعلم هذه
الكفايات بشكل عفوي؟ كيف يقوم بتوظيف الموارد المعرفية لإنجاز كل الكفايات داخل هذه
الأغنية؟ ما علاقة هذه الموارد المعرفية بحسن أدائه وحسن توظيف هذه الأغنية؟ هل في
إنجازه لهذه الأغنية يتعلم إعادة تركيب لعناصر قديمة ثابتة؟ هل يكرر ما قاله
الأولون أم أنه يقوم «بتوليد» الكفايات التي تناسب وضعيته الخاصة؟ هل سينصب التقويم
على إنجازاته كسلوك وكعملية لإتمام وظيفة سوسيو-تقنية, أم أنه سينصب على طاقته
التوليدية وقدرته على إحداث عدد لا نهائي من التصرفات المناسبة لعيد عاشوراء ولعدد
لا نهائي من وضعيات سيواجهها في تنفيذ هذه الأغنية أو نمادج أخرى أصلية في ثقافة
أمه؟ يستدعي الجواب عن هذه الاسئلة تحليلا أنتروبولوجيا شاملا لكل أطوار التمثيلية
–على شكل مراسيم الزواج كما يجريها الأطفال عند خروجهم كل مساء من فضاء المسجد وحيث
يتم تفجير المكبوت حول الإشكال القائم بين الكفاية والمعرفة من جهة وبين المعرفة
والثقافة المسجدية من جهة أخرى.
القرءة الصائتة: استمرار للأمية ونهاية لتطور الدماغ.
انطلاقا من التحليل الفزيولوجي لعملية القراءة داخل المسجد, يمكن القول إن الطفل
الأمازيغي وبعد مرور 15 قرنا من هذه القراءة البدائية لازال يتخبط في الأمية
والتخلف –لنستمع إليه وهو يردد بصوت عال تللك اللغة الافتراضية التي تبنى عليها
نظرية اللغة داخل فضاء المسجد:ابث Abatin وتجح Tajahin خددKhadadin فانطلاقا من عدد
محدود من الحروف أو الأصوات phonemes وليس القواعد, يمكن تكوين عدد لا نهائي من
سلسلات حروف. نحن أمام كفاية كسلوك ميكانيزمي يتعارض مع وضعية الطفل الأمازيغي،
وتأسيس لسيرورات من دوافع واستجابة لعدد محدود من الآثار التي تستجيب لعدد محدود من
الأسباب. إنها عملية لبناء ما يمكن أن نسميه كفاية توليد الأمية. فعندما يأخد الصبي
على ترديد هذا العدد اللانهائي من الكلمات التي ليست لها علاقة بوجوده اليومي, فإنه
سيطبق القاعدة التوليدية على النصوص التي سيحفظها عندما يكبر وتكبر معه عادة ترديد
نصوص بدون معنى أو نصوص تكون حقائقها بالأساس موضوع إدراك مختلف في الزمان والمكان.
وقد يتربى على حفظ جميع الجمل التي يحتاجها من أجل مسح لوحته. وينعدم الابتكار
والتجديد المستمر كخاصية للكفاية اللسنية عند الإنسان. فهو يعتمد على لائحة محددة
من قبل ويتم استحضار الأجوبة من قائمة جاهزة لأن أسئلة الفقيه لا تتجاوز
اللوحة.إنها كفاية من أجل البقاء البيولوجي أم التسلط التربوي. وأمام هيمنة الثقافة
الوافدة فملاءمته للبقاء Fitness to surivive لن تتحقق عن طريق الكفاية التطورية
للقراءة, وإنما عن طريق توليد الأمية وتوظيف القراءة من أجل البقاء: فالطفل
الأمازيغي "يقرأ" داخل فضاء المسجد من أجل البقاء وليس من أجل التطور
والتقدم.وعندما نتكلم عن التطور والتقدم فإننا نستحضر مفهوم التربية الوظيفية
Functional literacy والتعريف الجديد تقدمت به الليونيسكو حول القراءة الوظيفية
,حيث إنه «من الناحية الوظيفية يعتبر أميا كل من لا يستطيع توظيف القراءة أو
الكتابة من أجل تنمية قدراته وقدرات الجماعة أو الأمة التي ينتمي إليها».كان من
المفروض –كافتراض مثالي وبحكم منطق التاريخ أن يعمل الوافدون على شمال إفريقيا على
تنمية الكفايات والقدرات الملائمة لمحيط الجزيرة العربية أولا قبل الدخول في أي
مشروع لتنمية المعارف في شمال افريقيا. لو حدث ذلك فإننا سنتكلم الآن عن تعريف ثالت
لليونيسكو حول التعليم الوظيفي الذي سيشترط تنمية قدرات الحضارة الوافدة أولا من
أجل بناء وتنمية قدرات الحضارة الأصلية. لو حدث ذلك بالفعل لما كنا نسمع الآن عن
تعريب الحياة اليومية للإنسان الأمازيغي. لن نثير الضجة حول ترجمة معاني القرآن إلى
الأمازيغية ولن نسمع عن تقديم شكايات أو دعوات قضائية ضد كل وزير تعليم جديد لتصحيح
التاريخ أو تغيير المقررات داخل المدارس، ولن نسمع أو نتأسف عن ضحايا قوارب الموت
أو الهجرة السرية, بل بالعكس سنتكلم عن هجرة الأمازيغ إلى دول المشرق العربي. آنداك
سنكتب بكل وضوح أن "البربر" هم من سكان شمال إفريقيا أتوا من الجزيرة العربية عن
طريق البحر الأحمر، وحين ذاك سيحق لنا أن نتكلم عن ذلك النمودج الثقافي المعروف
Salad bowl كنمودج سيقر مشروعية اللغة العربية كاللغة الأم لجميع الأجناس.
نهاية التطور و البقاء للمتخلف
ان تاريخ التربية المسجدية في شمال افريقيا تشبه الى حد ما دلك الطائر التي الهمت
الدروينية و نظرية التطور . Darwinismفهذا الطائر الذي سمي اخيرا «بعصفور دروين»
يعيش دائما على الاسماك دون ان يكون نفسه فرسة لاخرين. ومع توالي الاجيال فقد هذا
النوع من الطيور قدرته في استغلال الاجنحة و الطيران Atrophy.يتشابه تطور هذا
العصفور تطور الوافدون على شمال افريقيا عندما عمدو على تكريس ثقافة الشحن و توزيع
البظائع المعرفية الشرقية من اجل الاستحواد على الثروات الطبيعية و الاقتصادية
الجاهزة للاستهلاك, فتعودوا على الطريقة البدائية الصامتة للتبادل « silent trade
«. و مع مرور الأيام فقدوا القدرة على تحويل معارفهم لتلائم المحيط الجديد في شمال
افريقيا ,فانصرفوا عن تنمية الكفايات و القدرات من اجل السلطة و الاستبداد ففقدوا
التدرب و الاشتغال على معارفهم الاصلية وتفعيل الالتحام بين الموارد في مواجهة
وضعيات الانسان الأمازيغي في شمال افريقيا و التي تتطلب التفكير و الشرح و الملاحظة
و المقارنة .و عوض الاشتغال او تحويل الكفايات القبلية لإنسان الأمازيغي ,عملوا على
تغيير السلوكات المعرفية بتاسيس مشروع «اقرا» يتدرب فيه الطفل الأمازيغي على
الترديد و الخضوع و الببغاوية فقط ليكون مثل حاملي المعارف الشرقية و ينتهي به
الامر –»كعصفور دروين» الى فقدان قدراته وكفاياته القبلية .بل يمكن القول ان قدرات
و معارف الإنسان الأمازيغي بقيت جامدة و على حالها العتيق كما كانت قبل بداية مسلسل
المثاقفة في شمال افريقيا .وكما أشرنا اليه فان ذلك عمل بشكل ايجابي على بقاء
الثقافة الأمازيغية بطقوسها و اساطيرها و كفاياتها الانتروبولوجية.
لقد عملت نظريات التحول على إبراز دور الوسط او البيئة الثقافية في اختيار الاجناس
الملائمة للثقافة الجديدة وفي تنحية العناصر غير الملائمة. و هذا ما يمكن ان نسميه
يالانتقاء الثقافي او الانتربولوجي مقارنة مع نظرية الانتقاء الطبيعي عند «دروين»
التي تقر بالبقاء للأقوى او الأصلح. و عكس النظريات التطورية التي تثبت اختلاف
الأجناس في صراعها ضد العوائق و تمايزها في الاستمرارية ,فان الوسط الثقافي داخل
فضاء المسجد لا يؤمن بالاختلاف على المستوى الميتافزيقي فيلغي الاختلاف المادي
لصالح التماهي و التساوي في المنطق.انها نظرية تكرس المبدا الواحد في الوجود و
الثقافة و ايضا في التطور .ان شرعنتها للا عقل و سلطة التراث اعلان عن تاسيس نظرية
التخلف و»تطوير» مسلسل البقاء من اجل التخلف.
|