| |
افتتاحية:
الأمازيغية وعاهة التفسير
العروبي المؤامراتي للانسحاب من مجلس إدارة معهد الأمازيغية
بقلم: محمد بودهان
غالبية الصحف الوطنية تناولت حدث انسحاب سبعة أعضاء من مجلس
إدارة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، ليس كخبر فحسب، بل كموضوع للتحليل
والمناقشة، للموقوف على الأسباب «الحقيقية» وراء هذا الانسحاب. ذهبت الكثير من هذه
التحاليل إلى أن الأسباب التي ذكرها المنسحبون في بيانهم ليست هي السبب «الحقيقي»
لـ«مغادرتهم الطوعية» لمجلس الإدارة، بل ربما يكون الانسحاب، حسب بعض هذه الصحف،
عملية محبوكة دبرتها دسائس القصر لـ«تدفع الإركام نحو المأزق لكنها تمنح ورقة رابحة
للسلطة السياسية للاستفادة من كل ما يزكّي شرعيتها» («الأسبوعية الجديدة»، عدد 19).
بل هناك من ذهب إلى القول (الأسبوع لـ 11 مارس 2005) إن وراء الانسحاب أيادي
أميريكية (اللهم استجب واجعل ذلك حقا وصدقا!). وكل هذا يعني أن أسباب الانسحاب ليست
قرارا احتياريا صادرا عن الإرادة الحرة للمنسحبين، بل إن هؤلاء ليسوا سوى منفذين
لمخططات استعملتهم، تتجاوز إرادتهم وقناعاتهم.
لماذا لابد من البحث عن أسباب افتراضية ووهمية وعدم تصديق الأسباب الحقيقية
المذكورة في بيان المنسحبين؟ لماذا الميل دائما إلى التفسير المؤامراتي «العالِم»
والإعراض عن التفسير الحقيقي البسيط؟ ما مصدر هذه العاهة الفكرية التي تشوه
الحقيقية وتحول دون الفهم السليم لما يقع؟
إن مصدرها هو الفكر العربي الشرقاني الذي يفسر كل الظواهر والأحداث إما بالغيب
والخرافة كما فعل الإسلامويون عندما قالوا بأن "تسونامي" أسيا عقاب إلهي، أو
بالمؤامرات والدسائس، لأن تاريخ المشرق العربي هو نفسه سلسلة من المؤامرات والدسائس
والانقلابات الغادرة، تحركه في الغالب أيادٍ خفية وأجنبية. فكل قرار سياسي أو موقف
إيديولوجي لا يتماشى مع مصالح الطبقة الحاكمة يفسر أن وراءه مؤامرة الصهيونية أو
الإمبريالية الأميريكية أو عداء الغرب للعرب والإسلام!
إن هذا النوع من التفسير بالمؤامرة هو إذن تفسير عروبي بامتياز، بل هو خاصية ذهنية
وفكرية وثقافية للعقل العربي. وبما أن الثقافة العربية هي السائدة لدى المثقفين
والمفكرين والمحللين والصحفيين المغاربة، فمن الطبيعي أن يطغى هذا النوع من التفسير
المؤامراتي في "تحليلاتهم" لحدث انسحاب سبعة أعضاء من مجلس إدارة المعهد الملكي
للثقافة الأمازيغية.
ومن جهة ثانية، وارتباطا بالمغرب وثقافته السياسية، فلقد أصبح من المسلمات أن كل
قرار له علاقة بالرأي العام أو مؤسسات الدولة، كتأسيس حزب أو إصدار جريدة أو إنشاء
جمعية أو انشقاق حزب أو شن إضراب عن العمل أو حتى تنظيم مسيرة ضد إدماج المرأة في
التنمية... كل ذلك تكون وراءه جهات نافذة تحرك خيوطه من بعيد، جهات غالبا ما تكون
قريبة من مصدر القرار السياسي بالمغرب.
في ظل هذه الثقافة السياسية، ذات الطبيعة الكليانية رغم تعدديتها الصورية البراقة،
والتي تنعدم معها ثقافة المبادرة الحرة والقرارات الإرادية الشجاعة، يصبح الانسحاب
من مجرد حزب يفسر على أنه من تدبير جهات مخزنية تريد تقسيم الحزب عقابا له على
مواقفه التي لم ترق تلك الجهات التي تتحكم في اللعبة السياسية الحزبية، فبالأحرى
إذا تعلق الأمر بالانسحاب من مؤسسة ملكية ترتبط مباشرة بأعلى سلطة في البلاد. من
البديهي إذن، في ظل هيمنة هذا النوع من الثقافة السياسية وسيادة نظرية المؤامرة
العربية، أن يفسر الانسحاب من مجلس إدارة المعهد على أنه عمل دبرته أطراف قريبة من
المحيط الملكي، خصوصا أن المعهد تابع للمؤسسة الملكية نفسها.
إلا أن الخطأ الذي ارتكبه أصحاب هذا التفسير هو أنهم استعملوا، للوصول إلى
استنتاجاتهم وخلاصاتهم، آلية قياس الغائب على الشاهد، وهي آلية تميز العقل العربي
كما هو معروف وتستخدم لمعرفة المجهول (الغائب) بقياسه على المعلوم (الشاهد). وهكذا
قاسوا قرارا يتعلق بالقضية الأمازيغية على القرارات المتعلقة بقضايا عربية غالبا ما
تكون نتيجة، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك، لمؤامرات ودسائس تدبر من طرف جهات تحرك
أصحاب القرار من بعيد.
وقد نسي أصحاب هذا التفسير المؤامراتي الذي طبقوه على قرار يتعلق بالأمازيغية أن
العرب أنفسهم يقولون: "لا قياس مع وجود الفارق". والفارق هنا هو أن الذهنية
الأمازيغية مختلفة جذريا عن الذهنية المشرقية العربية، مع ما يستتبع ذلك من اختلاف
في طريقة التفكير والثبات على المبادئ ومكانة الحرية والقناعة في اتخاذ القرارات.
إلا أن الغريب في الأمر، والمؤسف جدا، هو أن بعض الأمازيغيين أنفسهم فسروا الانسحاب
تفسيرا عروبيا مؤامراتيا. فهذا السيد امحمد صلّو، عضو مجلس إدارة المعهد،لا ينفي أن
تكون وراء الانسحاب أسباب وخلفيات أخرى غير التي ذكرها المنسحبون في بيانهم ("بيان
اليوم"، 25 فبراير 2005). وهذا الأستاذ أحمد أرحموش، ناشط جمعوي أمازيغي، يقول بأنه
يخشى أن «تكون وراء هذه الاستقالة حسابات سياسية يدبرها أشخاص لهم مسؤوليات كبيرة
جدا في مؤسسات الدولة» ("التجديد"، 24 فبراير 2005). أما الأستاذ احمد الدغرني،
مدير جريدة "تامازيغت"، فقد كان أوضح الجميع حين كتب يقول: «ولن يخفى على أحد أن
الانسحاب أوحى به إليهم من طرف الذين صنعوهم» ("تامازيغت"، العدد 69).
فكيف لنشطاء ومناضلين أمازيغيين يتبنون نظرية المؤامرة العربية لتفسير الانسحاب من
مجلس إدارة المعهد مع أنهم في نفس الوقت يناضلون لتحرير الثقافة المغربية من هيمنة
الفكر العروبي الشرقاني؟ كيف يحاربون العروبة بالمغرب وهم يفكرون بها ويستعملون
استدلالاتها ومنطقها؟ لماذا استمر هذا النوع من التفكير العروبي حاضرا ومهيمنا لدى
بعض الأمازيغيين رغم أنهم ينادون ببديل أمازيغي يقطع مع النموذج العربي الشرقاني؟
هذه المفارقة هي أحد العراقيل الكبيرة التي تعاني منها الحركة الأمازيغية والتي
تشكل عائقا حقيقيا أمام تقدمها وتحقيق مطالبها. فالمشكلة ليست في الأفكار التي قد
تكون أمازيغية، بل في طريقة التفكير، أي طريقة إنتاج تلك الأفكار، والتي (الطريقة)
تبقى عروبية شرقانية تنظر إلى الأمازيغية بعيون عربية وعقل عربي، مما يحول دون
سيرها إلى الأمام بالشكل المطلوب.
|