|
الافتتاحية: القضية الأمازيغية بين التقدم البطيء والاعتراف الرسمي الناقص والمتردد بقلم: محمد بودهان تقدم بطيء: عندما نتأمل، من الناحية العامة، الوضع اللغوي والثقافي والتعليمي والإعلامي والسياسي بالمغرب، يسهل التأكيد أن الأمازيغية لا تزال غائبة بشكل يكاد يكون تاما وكاملا. فلا يزال المغرب "عربيا" وعضوا بالجامعة العربية، ولا تزال لغته الرسمية والمؤسساتية والإدارية عربية، وتاريخه المدرسي عربيا، وانتماؤه عربيا، وتلفزته عربية، وإعلامه عربيا، وموسيقاه عربية، وأفلامه عربية، وشعره عربيا، واتحاد كتابه عربيا، وثقافته عربية، ومدرسته عربية، وحكومته عربية، وحكامه عربا، ومشاعره القومية عربية، وتخلفه عربيا... ولا يهم أن الشعب المغربي أمازيغي وأن أغلبيته تتكلم الأمازيغية ما دام أن الأقلية التي تتحكم في الإعلام والتعليم تؤمن أنها عربية، وبالتالي تستعمل هذا الإعلام والتعليم لنشر وترسيخ وفرض كل ما هو عربي ومشرقي وإقصاء وقتل كل ما هو أمازيغي وإفريقي. لكن من ناحية أخرى، وعلى مستوى جزئي ورمزي، يجب الاعتراف أن للأمازيغية نوعا من الحضور الرسمي والرمزي، المحدود حقا، بالمغرب الذي هو دائما "عربي"، خصوصا بعد إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الذي هو العلامة البارزة على هذا الحضور الرسمي والرمزي للأمازيغية، والذي بفضله أصبحت الأمازيغية تدرّس كلغة إجبارية للتلاميذ وبحرفها العريق تيفيناغ. هناك إذن تقدم ملموس، لكنه محدود وبطيء لم يؤدّ بعد إلى رد الاعتبار الكامل للأمازيغية، لغة وثقافة وتاريخا وهوية. أقول تقدم محدود وبطيء لأن المأمول والمفروض، بعد إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، أن يكون هناك إسراع في الاعتراف الشامل والكامل بأمازيغية المغرب، خصوصا على مستوى الوثيقة الدستورية وغيرها من النصوص القانونية الأساسية. لكن إذا كان هذا التقدم بطيئا ومحدودا، فالمهم أنه تقدم إلى الأمام لا رجعة ولا تراجع فيه. فهل هذا صحيح، أي هل لا رجعة ولا تراجع فيه؟ مسألة الهوية في خطاب 20 غشت 2004: جاء في الخطاب الملكي بمناسبة ثورة الملك والشعب لـ20 غشت 2004: «فهويتنا تقوم على ثوابت راسخة، لا قوام لشخصيتنا المغربية بدونها، من عقيدة إسلامية سمحة، وملكية دستورية.». فهل نفهم من هذه الفقرة أن الأمازيغية لا تدخل ضمن "الثوابت الراسخة" للهوية المغربية؟ إذا كان الأمر كذلك فهل يعني هذا "تراجعا" عن اعتبار أن الأمازيغية «تمتد جذورها في أعماق تاريخ الشعب المغربي» (ظهير أجدير المنشئ للمعهد)، وهو ما يعني أنها سابقة عن العقيدة الإسلامية والملكية الدستورية؟ لن نستشهد بفصول من ظهير أجدير تؤكد كلها على الطابع ”التعددي“ للهوية المغربية التي «بنيت على روافد متنوعة أمازيغية وعربية وصحراوية...»، لأننا لسنا بصدد "مناقشة" الخطاب الملكي بخصوص هذه النقطة المتعلقة بالهوية، لأن مثل هذه "المناقشة" ليست موضوع تحليلنا، فضلا على أن الخطابات الملكية لا يمكن أن تكون موضوعا لأي نقاش (الفصل 28 من الدستور، بخصوص مجلسي البرلمان). وإنما نريد قراءة ـ وليس مناقشة ـ الخطاب الملكي لنفهم ونستخلص الموقف الرسمي للدولة من الأمازيغية: ماذا يريد هذا الموقف أن يعطي لها؟ وماذا يريد أن يمنع عنها؟ وإذا لم تكن الأمازيغية من "الثوابت الراسخة" للهوية المغربية، فما هو الدور الحقيقي ـ أي السياسي ـ للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية؟ سيكون، كما شرحنا ذلك في مقالات سابقة، هو فصل مسألة الهوية، كموضوع سياسي بالأساس، عن مسألة اللغة والثقافة كموضوعات علمية ولسانية وتراثية تُعالج في إطار البحث الأكاديمي واللسني بعيدا عن أي نقاش سياسي يخص الهوية. وتلك هي مهام المعهد وأهدافه واختصاصاته بالنسبة للسلطة السياسية، أي فصل الثقافي واللغوي عن السياسي بخصوص المسألة الأمازيغية. وهنا قد نفهم كذلك أن الموقف الرسمي يعطي إشارة واضحة بأنه يُسمح للأمازيغية بالاشتغال على لغتها وثقافتها، لكن يُمنع عليها إثارة مسألة الهوية لأن الأمازيغية ليست من "ثوابتها الراسخة". وهذا لأن الاعتراف بالهوية الأمازيغية للمغرب يعني انقلابا سياسيا حقيقيا، لا تريده الطبقة السياسية والحاكمة وليست مؤهلة لقبوله. لنكتف ونقنع إذن بـ"منحة" اللغة ونواصل الاشتغال عليها والاجتهاد في تدريسها وتعليمها. لكن هنا كذلك، بصدد اللغة، تطرح مشكلة كبيرة قد تؤثر سلبا على تعليمها وتدريسها، مشكلة مرتبطة أصلا بعدم الاعتراف بالهوية الأمازيغية للمغرب. ما هي هذه المشكلة؟ مسألة اللغة في خطاب 20 غشت 2004: جاء في الخطاب الملكي: «وإننا لحريصون على أن يتعزز هذا الشعور الوطني المتجدد، بترسيخ الوحدة الوطنية، لغة وثقافة، وتحديثهما، مع النهوض بكافة الروافد اللغوية الأخرى وثقافاتها». يتعلق الأمر إذن: أ ـ بترسيخ الوحدة الوطنية عبر ترسخ وحدة اللغة والثقافة. وهو ما قد يعني أن المغرب لن تكون له سوى لغة وطنية ورسمية واحدة. وإذا كانت هذه اللغة هي العربية، فما هو الوضع القانوني والدستوري الذي سيكون للأمازيغية؟ ب ـ يتعلق الأمر ثانيا بـ«النهوض بكافة الروافد اللغوية الأخرى وثقافاتها». هذه "الروافد اللغوية الأخرى" تثير تساؤلات عدة: ـ إذا كانت اللغات الوطنية بالمغرب هي: الأمازيغية والعربية العامية والعربية الفصحى، فما المقصود "بكافة الروافد اللغوية الأخرى"؟ هل هي العربية العامية باعتبارها من "روافد" العربية الفصحى؟ أم اللهجات الأمازيغية الثلاث بالنظر إليها كـ"روافد" للأمازيغية الأم؟ أم مختلف اللهجات العامية المحلية ـ التي لا اختلاف كبيرا فيما بينها ـ كالجبلية والفاسية والسطاية والشاوية والمراكشية والصحراوية... والتي أصبح ينادي البعض بضرورة الاعتناء بها بجانب الأمازيغية لمنافسة هذه الأخيرة والتضييق عليها؟ أم أن المقصود بهذه "الروافد اللغوية" هي الأمازيغية نفسها؟ ـ إذا كان المقصود هي الأمازيغية فسيكون في ذلك جواب عن السؤال الذي طرحناه أعلاه حول الوضع القانوني والدستوري للأمازيغية: ستكون مجرد "رافد" للغة الوطنية والرسمية الواحدة التي هي العربية، كما ينص على ذلك الميثاق الوطني للتربية والتكوين نفسه الذي اعتبرها "رافدا" يساعد على تعلم العربية. كل هذا يعني أن الأمازيغية، بهذا الوضع الذي يجعل منها مجرد "رافد"، لن تكون لغة وطنية ورسمية، كما تطالب بذلك الحركة الأمازيغية. وإذا كان هذا هو معنى ومضمون ما جاء في الخطاب الملكي بخصوص تعزيز الوحدة الوطنية بالوحدة اللغوية والنهوض بالروافد اللغوية الأخرى، سندرك إن ما سبق أن صرح به السيد حسن أوريد، الناطق الرسمي للقصر الملكي، من أن «مقتضى الوحدة الوطنية يفرض أن تكون لبلدنا لغة رسمية واحدة، وأرى أنها اللغة العربية»، لم يكن سوى تمهيد لما سيأتي. ج ـ إذا اعتبرت الأمازيغية من "الروافد اللغوية الأخرى"، فسيكون من المنطقي أن لا تكون من "الثوابت الراسخة" للهوية المغربية. وهكذا تتكامل، داخل خطاب 20 غشت 2004، الفقرة الخاصة بالهوية والفقرة الخاصة باللغة، حيث تفسر إحداهما الأخرى وتكمّلها وتوضّحها. موقف رسمي متذبذب وغامض: كل هذه القرائن والإشارات والاستنتاجات تدل على أن الموقف الرسمي من الأمازيغية يشوبه الغموض والتردد والتذبذب، وتحركه حسابات وممانعات ومراوغات لاستبعاد الترسيم الدستوري للأمازيغية وتوجيه القضية كلها وجهة ثقافوية وتراثية ولسانية، مفصولة ومستقلة، عن الجانب الهوياتي والدستوري للقضية الأمازيغية، لتبقى العربية والعروبة تسيطران بلا حق وبلا منافس. وهذا موقف لا يبشر بأي خير، مثلما أن الرهان على المعهد لإقبار الأمازيغية، كقضية سياسة في جوهرها وأساسها، رهان فاشل وغير حكيم. فكل هذا الغموض والتردد والمراوغة ليس إلا مضيعة للوقت، ليس للأمازيغية فحسب، بل للمغرب والشعب المغربي، والديموقراطية وقيم الحداثة والعقلانية. لقد كانت السلطة هي السباقة، قبل الأحزاب السياسية، إلى الاعتراف بالأمازيغية وإنشاء معهد للنهوض بها. لكن إذا وقفت هذه السلطة في منتصف الطريق ورفضت، تحت ضغط اللوبي العروبي المرتبط بالمشرق، الاعتراف بالأمازيغية كلغة وطنية ورسمية وبالانتماء الهوياتي الأمازيغي للمغرب، فإن الحركة الأمازيغية هي التي سيكون عليها الحصول على السلطة لحماية الأمازيغية وترسيمها الدستوري. وللحصول على مثل هذه السلطة ينبغي على هذه الحركة إنشاء تنظيم سياسي معترف به، يكون أحد أهدافه الرئيسية الدفاع عن أمازيغية المغرب. فلا معنى لمنع تسييس القضية الأمازيغية مع الاستمرار في منع الترسيم الدستوري للغة الأمازيغية، الذي هو منع سياسي. إنه بالأحرى تحريض على العمل السياسي في إطار ملف المطالب الأمازيغية.
|
|