|
شرور التربية "المسيدية" بقلم: محمد شفيق إن قضية التربية والتعليم لقضية شائكة جد معقدة، لأنها تتصل بالإنسان بصفته كائنا اجتماعيا. ومن أصعب الأمور وأكثرها استعصاء على المحللين والباحثين، ما يتعلق بالنفس والذات، لأنها تتمنّع عن الفحص الموضوعي بقوة فائقة. فعلى سبيل المثال يلاحظ أن المرء يتقبل أن يقال له إنه فقير، وحتى أن يقال له إنه ضعيف البنية مهزول؛ لكن لا يقبل أن ينعت بضَعف في عقله، ولا بنقص في أخلاقه أو في قدرته على التمييز. والسبب سببان، أحدهما ذاتي (subjectif)، لأن الصفات العقلية والخلقية من قبيل القيم المعيارية؛ والآخر موضوعي، لأن "فاقد الشيء لا يعطيه" كما يقال؛ يستحيل على ناقص العقل أن يشعر بما به من نقص... إلخ. ولذا يرى كل إنسان، عادة، أن الطرائق التربوية التي نُشِّئ بواسطتها هي أفضل الطرائق، وأن الأساتذة الذين علّموه هم خيرة الأساتذة، وهكذا. فيظل المنظر لشؤون التربية والتعليم حائرا في أمره، والحالة هذه. لكن فلاسفة العمل التربوي اهتدوا مع ذلك، إلى إيجاد معيار يصلح لتقييم كل نظام تعليمي، وهو معيار يُعبَّر عنه في شكل سؤال: ما هي درجة التوافق بين حاجات المرَبَّى (والمتعلم)، في الزمان والمكان اللذين يعيش فيهما، وبين النظام التربوي الذي ينشِّئه؟ (قصة قنص الأرانب). لقد كان نظام التعليم "المسيدي"، في المغرب وغير المغرب، هو لبنة الأساس في الجهاز التربوي المنشِّئ لصفوة النخبة الاجتماعية المرشحة لسياسة العباد والبلاد، وللقيادة المادية والمعنوية، واستمر هذا الوضع قائما أكثر من ألف سنة. كانت تلك النخبة تسمي نفسها بالخاصة، وتسمي غيرها من فئات المجتمع الأخرى بالعامة، احتقارا لها واستعلاء عليها. ولذا يمكن القول إن التربية ”المسيدية“ هي أحد الأسباب الرئيسية في تأخرنا الحضاري وتخلفنا؛ ذلك لأن الاعتماد عليها جاوَزَ بعدة قرون ـ أربعة قرون على الأقل ـ عهدَ صلاحيتها. فبينما أصبح غيرنا من الآدميين يُربّوْن بأساليب تعليمية مجدَّدة، أساليب تحريرية، تحظر العنف وتتجنب الغِلظ والجفوة مع المربَّى والمتعلم، وتجنح إلى إثارة اهتمام الناشئة بما يزكّي نفوسهم ويفتّح عقولهم ويهذّب أخلاقهم، دونما إخلال بما يكمن في أعماق ضمائرهم من قوى ذهنية ووَجدانية. بينما أصبح غيرنا من نخب المجتمعات البشرية الأخرى، في أوروبا خاصة، تجدّد أساليب التفكير والتدبير، ظلت "الخاصة" عندنا، نحن المسلمين، تولّد نفسها من نفسها، ثقافيا، في نوع مما يسمى اليومَ بالاستنساخ (le clonage)، وعلى نمط يخيّل إليها أنه هو الأجود والأليق حتى الأبد، لأن الحواجزَ الدينية حالت دونها والتواصلَ مع الذين أحدثوا التغييرات الإيجابية في أنظمتهم التربوية، من جهة، ولأن أصوات من نادى بالتغيير من بني جلدتنا، لم تكن لتسمع في نسق ثقافي ساده التعصب لكل ما هو تقليدي، كما يدل على ذلك الحديث المأثور "كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار". التربية القهرية لم يحدثها الإسلام، بل كانت هي المعتمدة عند المصريين القدماء، وعند اليونان (phalaggos >الفلاقة)، وعند الرومان. ومما استرعى انتباه المهتمين بتاريخ الأنظمة التربوية، كون المفكرين القدماء الأول الذين نددوا بالطرائق القسرية في تعليم الصغار، ينتمون إلى إفريقيا الشمالية (المغرب الكبير). كان أولهم القديس أوغوستينوس (Saint augustin)، وكان ثانيَهم القاضي أبو بكر بن العربي، وكان ثالثَهم وأكثرَهم وضوحا في التعبير وصدقا في الرؤية، عبدُ الرحمان بن خلدون. فلنقرأ ما كتبه المفكران الأخيران، إذ هما الأقربان إلينا زمانيا وثقافيا. كتب ابن العربي ما يلي، في كتاب رحلته: «... يا غفلة أهل بلادنا!... أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أول أمره! يقرأ ما لا يفهم، ويَنصَب في أمر غيره أهم عليه!». وكأن ابن خلدون قصد إلى توضيح هذا وتفصيله، إذ كتب «في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم، وذلك أن إرهاف الحد في التعليم مضر بالمتعلم، سيما في أصاغر الوُلد، لأنه من سوء الملكة؛ ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين والمماليك والخدم، سطا به القهر وضيّق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحُمل على الكذب والخبث، والتظاهر بغير ما في ضميره... وعلّمه المكر والخديعة فصارت له عادة وخُلقا...». والمعروف هو أن ما كتبه ابن خلدون لم يُؤبه له في العالم الإسلامي، ولم يُطبع ويُنشر حتى اهتم به المستشرقون؛ ولا يزال فكر ابن خلدون يضايق الطبقة التقليدية من مثقفينا. هذا في الوقت الذي يجني فيه غيرنا من الأمم والشعوب الثمار اليانعة لتفطنهم منذ خمسة قرون إلى مساوئ التربية القسرية، وإلى ضرورة نبذ القسوة والجفاء والعنف من طرائق التربية والتعليم. فكأن الأوروبيين من أصحاب المذهب "الإنسي" (les humanistes)، واليسوعيين (les jésuites) والمفكرين من أمثال مونطيني (Montaigne) هم الذين قرؤوا ما كتبه ابن خلدون. فنتج من ذلك أن الآباء اليسوعيين عمدوا إلى التجربة البيداغوجية في مدارسهم، فقارنوا لمدة 35 سنة (1564 ـ 1599) بين ما يحصّل من حصائل تربوية في مجموعة من مدارسهم التقليدية السائد فيها القهر والعنف، وبين ما يُحصّّل في مدارس أخرى أحدثوها وحظروا فيها اللجوء إلى القسر أو التعذيب، وأوصوا بالرفق واللين وتغيير أساليب التلقين بحيث تكون منشطة مشوقة ما أمكن. ومن مدارس اليسوعيين الجديدة تخرج، في القرن السابع عشر، مفكرون من معيار ديكارت (Descartes)، وتخرج في القرن الثامن عشر الفلاسفة الكبار أمثال فولتير (Voltaire). ولم يظهر في العالم الإسلامي، من جديد، من يستنكر ما يتصف به عمل المدرِّرين من العنف والقسوة والجفاء، إلا في النصف الأول من القرن العشرين. فألّف طه حسين "كتاب الأيام" المشهور. وأصدر أحمد حسن الزيّات حكما غير قابل لأن يُعقَّب عليه، إذ كتب: «فقد كنت أكره الكُتّاب كراهيتي للموت». أما في المغرب، فلم يجرؤ أحد أن ينتقد أساليب التعليم في "المسيد" حتى ظهور كتاب "الزاوية" لمؤلفه التهامي الوزاني سنة 1999. وهذا بعضُ ما كتبه الوزاني: «... والخلاص من هذه الشدائد (شدائد التعليم في "المسيد") إنما هو بالرضوخ للفقيه، بالعطاء والتقرب... فمن وجد سعةً، أو كان في وجهه صباحة، نجا من تلك المصائب. ومن فقد هذين الأمرين جملة فويل له ثم ويل...». ويضيف الوزاني في نزاهة فكرية يحسد عليها: «أما أنا، فقد عصمني الله من كثير من هذه الأهوال. لقد كان المعلم يأمر من يمحو لوْحي ويهيئ لي الدواة والقلم...». ومع ذلك لجأ الوزاني نفسه إلى التحايل قصد التخلص من جو "المسيد" المشحون بالرعب والكآبة، فتظاهر بأنه مصاب بالكساح رغم أنه لا يستطيع القيام... إن من الواضح، أيها الزملاء، أن تربية "المسيد"، نظرا لما يطبع أساليبها من السلبيات، هي التي علّمت أجيالا من نخب مجتمعاتنا الإسلامية الخنوع والخضوع للأقوى المسطر بالعنف (السيف في العلم)، والتزلف إلى كل ذي جاه؛ يظهر ذلك حتى في طريقة المثول أمام من تنسب إليهم "المهابة" عند الوقوف بين أيديهم تُطأطأُ الرؤوسُ، وتغَضّ الأبصارُ، كما يفعل "المحضري" أمام "الفقيه" تماما بالتمام، حتى إنه يحدث أن يتضايق من الأمر المطأطأ له نفسه. إني لا أريد أن أسيء إلى أحد ولا أن أعرّض بأحد، لأن الواقع هو أن الأغلبية الساحقة من المغاربة الذين تعلموا في "المسيد" عانوا شرور التربية القسرية. كلنا، نحن المثقفين ضحايا "المسيد"، بدرجات متفاوتة. لقد جاء الوقت لنفهم ذلك، ونفهم أن شرور القهر والعسف قد تسرب مفعولها، في العقود الأخيرة، إلى المدارس التي كان يراد منها أن تكون عصرية في مستوى المدارس الضامنة للدخول في ما يسمى بالحداثة من بابها الواسع. ولا حاجة في هذا التدخل إلى البحث عمّن هو مسؤول على ذلك التسرب الذي تحول شيئا فشيئا إلى زحف عارم بمفعول عاملين إثنين هما: تغلب عقلية المدِّر التقليدي على عقلية المعلم الطامح إلى تحديث طرائقه، ثم ترجيح كفة المواد التقليدية في البرنامج على كفة المواد العلمية بالمفهوم الحديث. فلو علم المسؤولون علم اليقين أن التربية ”المسيدية“ هي التي تكرّس استمرارية الأمراض التي تعانيها مجتمعاتنا الإسلامية، لما جنحوا إلى تعميم طرائق التدريس التقليدية. يكفينا التأملُ فيما سبق من القول في سلبيات التعليم القسري، كي ندرك أن ”المسيد" كان، ولا يزال في بعض البلدان الإسلامية، هو المستنبت الرئيسي لظاهرة الإيمان بفاعلية الرعب والعنف(1)، وهو المنشِّئ على العمل بالرشوة والارتشاء والمحسوبية، وعلى الميل إلى الخداع والتحايل، ولزوم التقية، والولوع بالتآمر والوشاية والنميمة، وعلى الخوف الدائم من المؤامرة والوشاية، وذلك ما يقصد إليه المتنبي بقوله: إذا ساء فعل المرء، ساءت ظنونه وصدّق ما يعتاده من توهّم ولن يفوتني أن أَلفِت النظر، بالإضافة إلى هذا كله، إلى أن ما كان عرب المشرق يسمونه بـ"الشَّفْنَتَة" هو السبب الأول في انتشار مرض اجتماعي لاحظ المستعمر الفرنسي في أوائل القرن الماضي أنه يكثر في المناطق المغربية التي تكثر فيها "المسايد" ويقوم فيها مقام البغاء المنتشر في مناطق أخرى. وإلى هذه الظاهرة أشار مؤلف "الزاوية" بقوله: «... (ومن) كان في وجهه صباحة، نجا من هذه المصائب».
|
|