|
|
افتتاحية: متى ننتقل من "السياسة البربرية" إلى "السياسة الأمازيغية"؟ بقلم: محمد بودهان
ما هي "السياسة البربرية"؟ ما مضمونها؟ ما هي أهدافها وغاياتها؟ وبالمقابل، ما هي "السياسة الأمازيغية"؟ ما مضمونها وما هي أهدافها ومراميها؟ فيم تختلف عن "السياسة البربرية"؟ هذه جملة من الأسئلة التي يحاول هذا المقال مناقشتها والإجابة عنها. عبارة "السياسة البربرية" مصطلح ظهر واستعمل في فترة الحماية الفرنسية للدلالة "على كل الإجراءات والقرارات الإدارية والقضائية والتشريعية واللغوية والتعليمية التي اتخذتها سلطات الحماية الفرنسية، والتي تخص أساسا، كموضوع رئيسي لها، الأمازيغية كلغة وثقافة وهوية وتاريخ، والأمازيغيين كشعب وإثنية وانتماء. وكأمثلة على هذه الإجراءات والقرارات المشكلة لمفهوم "السياسة البربرية"، نذكر: تدريس الأمازيغية في بعض المدارس بالأطلس المتوسط، إنشاء ثانوية "أزرو" ذات التوجه "الأمازيغي"، إصدار ظهير 30 ماي 1930 المتعلق بتنظيم المحاكم العرفية ـ والذي سمته الحركة الوطنية "الظهير البربري" ـ، تعيين مراقبين مدنيين بالمناطق الأمازيغية، الإجراءات العسكرية والأمنية والتفاوضية التي كانت تعتمدها سياسة "التهدئة"، بما فيها استمالة أعيان القبائل الأمازيغية بتعيينهم قوادا على قبائلهم، دون أن ننسى إصدار ترسانة من القوانين، الموقعة من طرف السلطان، لنزع الأراضي من مالكيها الأمازيغيين ومنع القبائل الأمازيغية من التصرف الجماعي فيها، ومحاصرة القبائل وعزل بعضها عن بعض، مع ما نتج عن كل ذلك من تدمير للبنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للتنظيمات القبلية.(انظر تفصيل ذلك بالعدد 97 من "تاويزا" على الرابط: http://tawiza.ifrance.com/Tawiza97/boudhan.htm).إذا كان هذا هو ـ بإيجاز ـ مضمون "الساسة البربرية" كما ظهرت واستعملت وطُبقت من طرف فرنسا بالمغرب المحتل، فما هي أهدافها وغاياتها؟ لم تكن هذه "لسياسة البربرية" ترمي، كما ادعت وأولت ذلك "الحركة الوطنية"، إلى تقوية الطرف الأمازيغي والرفع من مكانة اللغة الأمازيغية في مقابل إضعاف اللغة العربية ومحاربة الإسلام، وإقامة تفرقة عنصرية بين العرب والأمازيغ، وإحياء الأعراف "الجاهلية" و"الوثنية" الأمازيغية ـ دائما حسب ادعاءات وأكاذيب "الحركة الوطنية" ـ لإبعاد الأمازيغيين عن الإسلام وفصلهم عن العرب تمهيدا لتنصيرهم... لم يكن ذلك ما كانت ترمي إليه هذه "السياسة البربرية"، بل كانت ترمي ـ وهذا هو هدفها الحقيقي ـ إلى إدماج الأمازيغيين في النظام السياسي العربي الجديد الذي شرعت فرنسا في خلقه وتأسيسه بالمغرب، والذي سيتوج بإقامة دولة عربية بالمغرب أنشأها "ليوطي"، الأب الروحي والسياسي للدولة العربية الحالية بالمغرب. لكن، لماذا لجأت فرنسا إلى "سياسة بربرية" خاصة لإدماج الأمازيغيين في النظام العربي الجديد بالمغرب؟ لما قررت فرنسا إنشاء دولة عربية بالمغرب (وهذه هي غاية الحماية الفرنسية بالمعرب: حماية العرب من الأمازيغيين بإقامة دولة خاصة بالعرب وذات هوية عربية)، لاحظ الفرنسيون، من خلال ما جمعوه من معطيات وأنجزوه من تقارير حول الوضع اللغوي والإثني بالمغرب، أن الأمازيغيين يشكلون 90% من سكان المغرب. آنذاك طرح على "ليوطي" السؤال التالي: كيف يمكن إنشاء دولة عربية 90% من سكانها أمازيغيون وليسوا عربا؟ كيف يمكن أن يقبل هؤلاء الأمازيغيون بدولة تحكمهم باسم العروبة فوق أرضهم الأمازيغية؟ الجواب الذي اهتدى إليه "ليوطي" ومساعدوه كان هو "السياسة البربرية" المتمثلة في إعداد خطط وتشريعات وإجراءات ترمي إلى تسهيل إدماج الأمازيغيين في الدولة العربية الجديدة وجعلهم يقبلون العيش تحت حكمها وسيادتها بعد أن يجردوا من سيادتهم الأمازيغية. "فالسياسة البربرية" إذن، إذا كانت قد اعتنت باللغة الأمازيغية وفتحت مدارس لتعليمها، وبحثت في تاريخ الأمازيغيين وثقافتهم وهويتهم وأعادت الاعتبار لأعرافهم وقوانينهم، فليس بهدف أن تكون اللغة الأمازيغية هي اللغة الرسمية للحكم والسلطة، أو تكون الهوية الأمازيغية هي هوية الدولة بالمغرب، بل فقط من أجل "تهدئة" الأمازيغيين وإخضاعهم لحكم الدولة العربية الجديدة وإدماجهم فيها ليصبحوا جزءا منها يقبلون عن طيب خاطر سلطتها وينضوون تحت هويتها العربية راضين بخدمتها والدفاع عنها.لما جاءت فترة الاستقلال، كانت الدولة العربية ناضجة ومكتملة، قائمة وموجودة. فلم تكن هناك حاجة لدى القائمين عليها من رجال "الحركة الوطنية" لينهجوا، كما فعلت فرنسا، "سياسة بربرية" يقبل الأمازيغيون بموجبها العيش تحت سيادة هذه الدولة العربية ذات الأصول الفرنسية، لأن هذه الدولة كانت، كما أشرت، قائمة ومكتملة. بل العكس هو الذي حصل: محاربة كل ما هو أمازيغي بدعوى محاربة بقايا "السياسة البربرية" الاستعمارية التي أعطتها "الحركة الوطنية" ذلك المحتوى المعروف الذي تلخصه أسطورة "الظهير البربري"، التي تقول إن تلك "السياسة البربرية" كانت تقوم على التفرقة العنصرية ومحاربة العربية والإسلام بغاية تنصير الأمازيغيين وإخراجهم من الدين الإسلامي. لكن مع تسعينيات القرن الماضي، بعد ارتفاع وتيرة المطالب الأمازيغية وتنامي الحركة الأمازيغية، لم يعد إنكار الأمازيغية، بربطها بـ"الساسة البربرية" لفرنسا، يجدي نفعا لإسكات الأصوات المطالبة برد الاعتبار للأمازيغية لغة وهوية وثقافة وتاريخا. فكان لا بد من "الاستنجاد"، ولكن بشكل جديد وفي حلة جديدة، "بسياسة التهدئة البربرية" التي لجأت إليها فرنسا أيام الحماية لإدماج الأمازيغيين و"تهدئتهم" ضمن الدولة العربية الجديدة التي كانت فرنسا بصدد بنائها بالمغرب. وقد كان أول إجراء رسمي "للسياسة البربرية" الجديدة ـ "السياسة البربرية" القديمة هي التي رأيناها أثناء الحماية الفرنسية كما شرحنا سابقا ـ هو ما جاء في خطاب الحسن الثاني لـ20 غشت 1994، والذي قرر فيه تدريس "اللهجات البربرية". وهو القرار الذي ـ رغم أنه القرار الوحيد الذي لم ينفذ للحسن الثاني ـ أعطى نوعا من الشرعية للحقوق الأمازيغية بعد أن كانت الدولة تنكرها وترفضها. لقد كان هذا الخطاب تدشينا حقيقيا "للسياسة البربرية" الجديدة التي ستبلغ ذروتها مع إنشاء "ليركام" في 17 أكتوبر 2001 كمؤسسة رسمية لتدبير "السياسة البربرية" الجديدة. لماذا نعتبر كل الإجراءات التي اتخذتها السلطة، لـ"صالح" الأمازيغية منذ إنشاء "ليركام"، "سياسة بربرية" جديدة؟ لأنها، مثل "السياسة البربرية" القديمة، التي نهجتها وطبقتها فرنسا، تتضمن اعترافا باللغة الأمازيغية من خلال تدريسها وإدماجها في الإعلام وإنتاج أفلام ناطقة بالأمازيغية، وتعمل على العناية بالثقافة الأمازيغية ورد الاعتبار لها والتعريف بها. لكن كل هذا الاعتراف والعناية بالأمازيغية، ليس لكي تصبح اللغة الأمازيغية هي لغة السلطة والحكم، أو لتصبح الهوية الأمازيغية هي هوية الدولة بالمغرب، بل كل ذلك، تماما كما كان الأمر في "السياسة البربرية" الاستعمارية السابقة، لمنعها من أن تصبح لغة للحكم والسلطة وهوية للدولة بالمغرب، وذلك بتحييدها سياسيا وحصرها في ما هو لغوي وثقافوي وفلكلوري وهوياتي يخص هويات الأشخاص والجماعات الإثنية، مع استمالة النشطاء الأمازيغيين بالمال والمناصب التي توفرها "السياسة البربرية" الجديدة. وهذا ما يفسر أن التعريب السياسي والعرقي عرف انتعاشا غير مسبوق منذ أن انطلقت "السياسة البربرية" الجديدة التي بفضلها يستمر الإقصاء السياسي للأمازيغية مقابل الاعتراف اللغوي والثقافي والإثني بها. هذه "السياسة البربرية" الجديدة أصبحت العائق الأول أمام استرجاع الأمازيغية لحقها السياسي كهوية للدولة ـ وليس للأفراد والجماعات كما في "السياسة البربرية" الجديدة والقديمة ـ تستمدها (الهوية) من هوية الأرض الأمازيغية للمغرب. ذلك أن هذه "السياسة البربرية" الجديدة، بقدر ما تعطي الانطباع ـ الانطباع فقط ـ بأنها تعمل على إحياء الأمازيغية والنهوض بها، بقدر ما تقتلها وتميتها لأنها تعمّق وتضاعف من إقصائها السياسي الذي تؤدي إليه مباشرة تلك "السياسة البربرية".لتجاوز هذه "السياسة البربرية" الجديدة، ينبغي النضال من أجل الانتقال إلى "السياسة الأمازيغية" التي هي النقيض المباشر "للسياسة البربرية". لماذا تكون "السياسة الأمازيغية" نقيضا "للسياسة البربرية" مع أنهما عبارتان مترادفتان؟ فهل هناك فرق بينهما؟ ما هو هذا الفرق إن كان موجودا؟ تختلف "السياسة البربرية" عن "السياسة الأمازيغية" ـ المأمولة ـ باختلاف مصدري لفظي "بربرية" و"أمازيغية" في العبارتين. فالمعروف أن لفظ "بربر" تسمية يطلقها غير الأمازيغيين على الأمازيغيين. إنها تسمية أجنبية يستعملها الأجانب عن بلاد تامازغا التي هي أرض الأمازيغيين. و"السياسة البربرية" تستمد دلالتها ومحتواها من الدلالة الأجنبية للفظ "بربري". وهكذا تكون "السياسة البربرية" هي السياسة التي يضعها للأمازيغيين من هم أجانب عن الأمازيغيين. إنها السياسة التي يقرر بموجبها غير الأمازيغيين ما يجب أن يكون عليه الأمازيغيون. إنها إذن سياسة "أجنبية" تحدد وتوجه مصير الأمازيغيين. فـ"السياسة البربرية" القديمة وضعها الفرنسيون، الذين هم غير أمازيغيين، ليحددوا بها ما ينبغي أن يكون عليه الأمازيغيون. وكذلك "السياسة البربرية" الجديدة وضعها غير الأمازيغيين، من الذين يعتبرون أنفسهم عربا يحكمون المغرب، ليحددوا بها ما ينبغي أن يكون عليه مصير الأمازيغيين الذي يقرره ويرسمه هؤلاء "العرب" الأجانب عن الأمازيغيين. فالعنصر الأساسي إذن في "السياسة البربرية" هو مصدرها الأجنبي التابع للمصدر الأجنبي للفظ "بربري". وبما أن كلمة "أمازيغي" هي التسمية التي أطلقها الأمازيغيون على أنفسهم بأنفسهم، فإن "السياسة الأمازيغية" هي تلك السياسة التي يقررها الأمازيغيون لأنفسهم بأنفسهم، مع أخذ زمام مصيرهم بيدهم. فـ"السياسة الأمازيغية" لا تعني أكثر من استعادة الأمازيغيين لسيادتهم الأمازيغية على أرضهم الأمازيغية. وهذه السيادة لا يمكن أن تأخذ إلا شكل دولة أمازيغية ـ بالمفهوم الترابي وليس العرقي ـ ذات سلطة أمازيغية وبهوية أمازيغية انسجاما مع الأرض الأمازيغية.وإذا كان الهدف من "السياسة البربرية"، القديمة والجديدة، هو إدماج الأمازيغيين في الدولة العربية الجديدة، ذات الهوية العربية الأجنبية عن هوية الأرض الأمازيغية، فإن "السياسة الأمازيغية"، كنقيض مباشر لذلك، ستعمل ـ هي أيضا ـ على إدماج، لكن ليس الأمازيغيين بل كل الذين يعتقدون أنهم غير أمازيغيين، في الدولة الأمازيغية باعتبارهم ذوي أصول أجنبية يعطيهم استقرار أجدادهم بالأرض الأمازيغية حق الانتماء إلى هذه الأرض الأمازيغية ليصبحوا أمازيغيي الهوية مثلهم مثل الأمازيغيين الأصليين. وإذا كانت "السياسة البربرية" تعامل الأمازيغيين كأقلية تحاول استيعابهم عن طريق التعريب السياسي والعرقي، فإن "السياسة الأمازيغية" ستصحح هذا الوضع وتعامل غير الأمازيغيين كأقلية تعمل على تمزيغهم الهوياتي بناء على ما لهم من حق الانتماء المشترك إلى الأرض الأمازيغية التي هاجر إليها أجداد هؤلاء الأجانب منذ قرون. وإذا كانت "السياسة البربرية" تعامل الأمازيغية كـ"موضوع" سلبي يدرسه الأجانب ويحددون دلالته ومحتواه حسب أهوائهم ومصالحهم، فإن "السياسة الأمازيغية" ستستعيد للأمازيغية دورها كذات ـ وليس كموضوع كما في "السياسة البربرية" ـ فاعلة ومؤثرة تنتج القرارات التي تخصها دون أن تكون مجرد موضوع لقرارات الآخرين الأجانب. إن وضع حدّ "للسياسة البربرية" شرط أول لاستعادة السيادة الأمازيغية المرتبطة بـ"السياسة الأمازيغية" التي يحدد فيها الأمازيغيون مصيرهم بأنفسهم كما تفعل كل الشعوب الحرة والمستقلة. إن الانتقال من "السياسة البربرية" الأجنبية إلى "السياسة الأمازيغية" الوطنية يجسّد "الانتقال الديمقراطي" الحقيقي الذي أصبح مجرد شعار فارغ من أي مضمون لغياب هذه "السياسة الأمازيغية" التي تعطيه مضمونه الحقيقي والممتلئ. فعلى الديمقراطيين الحقيقيين الدفاع عن "السياسة الأمازيغية" إن كانوا حقا يدافعون عن الديمقراطية الحقيقية.
|
|