|
|
قراءة في كتاب " الحقوق اللغوية "* بقلم: لحسن ملواني
كثيرة هي الأحاديث التي طرقت أسماعنا وهي تتحدث عن حقوق الإنسان عبر الإعلام بكل أنواعه، إلا أنه من النادر أن يتطرق المهتمون والمفكرون لما يسمى بحقوق الإنسان اللغوية. ويأتي الكتاب الذي سنقوم بتلخيص لأهم أفكاره متناولا لهذا الموضوع تناولا تنويريا يستحق القراءة والنقاش.. وقد قدم الكاتب لمؤلفه بإشارته إلى كون الحقوق اللغوية أصبحت تعالج في إطار ما ينعت بالدراسات القانونية. واعتبر اللغة كائنا حيا له وظائف وحقوق وواجبات، ويخضع وجودها لنفس مراحل الكائن الحي من نشأة وصبا وشباب وكهولة وشيخوخة وفناء، لهذا فقد يطول أو يقصر عمره، ورغم ذلك فهي تمتلك خصوصية تميزها عن الأحياء. وقد وقف الكاتب على مفهومين أساسيين: مفهوم اللغة ويفضل الكاتب أن يطلق عليها "المخلوق الحي" بدل "الكائن الحي" استنادا إلى بعض آي القرآن الكريم منها "ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم". وقد عرفت في بعض القواميس وفق خصائصها الصوتية ودورها الاجتماعي مع الإشارة إلى التعدد اللغوي. فهي في القاموس المحيط مثلا: ( أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم). ويتعلق المفهوم الثاني بالحق اللغوي الذي يحيل "على الحق في تكلم هذه اللغة أو تلك. كما يشير إلى المعيار التشريعي المتعلق بالتدبير السياسي للأوضاع اللغوية. ويحيل المفهوم المذكور في المستوى الثالث على مجال من مجالات المعرفة العلمية، ليشمل فرع "حقوق اللغات" الذي ينتمي إلى حقل القانون المتعلق باللغات، ثم فرعا آخر هو فرع التشريع اللغوي الذي ينتمي إلى مجال اللسانيات التي تهتم بالجوانب القانونية التي تخص اللغات." ص 19 – 20. الفصل الأول: ما هي الحقوق اللغوية؟ يميز الكاتب بين مجموعة من الحقوق اللغوية ومنها: ـ الحقوق الشخصية وتتعلق بحق الإنسان في استعمال اللغة الأم في حياته الخاصة وممارساته الثقافية والدينية، ونقلها إلى ذريته، علاوة على حقه في تعلم اللغة الرسمية لبلده إن كانت مخالفة للغة الأم.. ـ الحقوق الجماعية وترتكز على قيمة الهوية التي يجب المحافظة عليها وتوفير سبل استمراريتها. وهي قسمان: - الحقوق المتعلقة بالمجموعات الإثنية ولا يجوز المساس بها – والحقوق المتعلقة بالمجموعات الوطنية ويمكن أن يلحقها التغيير وفق مشيئة الدولة. أسس الاعتراف بالحقوق اللغوية: ـ الهوية فاللغة جزء من الهوية الإنسانية ـ المساواة لأن"العلاقة بين لغتين مثلا قد تكون علاقة قائمة على المساواة، ومن ثم ضرورة العمل على تحقيق المساواة بينهما." ص 26. ـ التاريخ فهو الشاهد على مساهمة المجموعة المعنية في بناء البلاد، وكذا اعتراف الدستور بها. ـ البيئة فالتعدد اللغوي يفضي إلى التعدد الثقافي المُثري للتراث ويساهم في الإبقاء على اختيارات متنوعة بالنسبة لعيش الإنسان. ويشير الكاتب إلى صعوبة تحقيق استقلال مجال حق اللغة وبسبب صعوبة جعل الحقوق اللغوية مجالا خاصا ضمن التخصصات القانونية يعمد المختصون إلى مقاربتها بمفاهيم قانونية في مقدمتها حقوق الأقليات التي تشكل الحقوق اللغوية قسما منها. وصياغة الإعلان العالمي للحقوق اللغوية سنة 1996ببرشلونة شكل وثيقة بالغة الأهمية حيث ملأ فراغا اتسمت به كل الإعلانات السابقة لحقوق الإنسان التي لم تتطرق للحقوق اللغوية. "لقد وضع الإعلان المبادئ العامة التي تتضمن الحقوق المخولة للغة، وأقر الحقوق اللغوية الشخصية والجماعية." ص 29. الفصل الثاني حق اللغة في الوجود. يرى الكاتب أن اللغة الأم تعتبر الثروة الأهم بالنسبة لأمة. فبها تنقل تراثها وتدبر لمستقبلها. لذا فلكل طفل الحق في اكتساب لغته الأم وتعلمها بشكل يضمن له إتقانها بشكل كامل. ويشكل الإعلان العالمي للحقوق اللغوية وثيقة هامة أكدت على كون خير وسيلة للحفاظ على لغة وضمان حقوق مستعمليها يتمثل في التوفر على حدود آمنة واعتمادها وسيلة في التعليم ومادة للتعلم عبر البرامج التربوية وبصدد الأوضاع التي تخضع لها اللغة ذكر الكاتب: - وضع اللغة الرسمية: وهو أعلى مكانة تحصل عليها اللغة بالاعتراف بها من طرف الدولة كلغة رسمية واعتمادها في جميع أنشطتها – وضع اللغة الوطنية: الاعتراف بلغة من طرف الدولة كلغة وطنية لا يلزمها باستعمالها في مصالحها، بل يلزمها حمايتها والعمل على تطويرها – التعدد اللغوي الاستراتيجي ونتحدث عنه حين تلجأ الدولة إلى لغتين أو أكثر استجابة لوضعية سياسية أو غيرها- عدم التمييز بين اللغات وذلك بنبذ بعضها على حساب البعض الآخر. "واللغة عنصر أساسي في الثقافة الوطنية، وهي أيضا ظاهرة سوسيو- نفسية، إذ يمكن استعمال اللغة في السنوات الأولى من التعلم من تجنب القطيعة بين المجتمع والمدرسة، وتربوية لأن عملية التعلم لا تكون فعالة إلا بواسطة لغة تم التعود عليها." ص 36، 37. وللغة حق في الوجود ويحميه القانون وأدنى ما يمكن أن يقوم به حظر الإبادة العرقية. الفصل الثالث: حق اللغة في البقاء. يرى الكاتب أن من شروط بقاء لغة ارتفاع معدلا ت التمدرس، ونجاح النظام التعليمي والدور الذي تضطلع به الدولة في بقائها. وتصبح اللغة مهددة حين يصبح انتشارها محدودا، وحين تصبح غير ذات مردودية اقتصاديا، وحين يقل عدد متكلميها وبالتالي يتقلص انتشارها، وهناك تخوفات من انقراض عدد من اللغات الإفريقية قبل نهاية هذا القرن لقلة عدد متكلميها بفعل ضغط اللغات المحلية والتعاطي للغات الأوروبية المفروضة لعولمة التبادل الاقتصادي والثقافي علاوة على السياسات التربوية التي تنهجها حكومات لصالح اللغات الاستعمارية. ويقدم الكاتب أرقاما مخيفة عن انقراض اللغات ومن ذلك أن حوالي 170 لغة انقرضت في البرازيل بعد الاحتلال البرتغالي. ومنه أيضا أن من ضمن 125لغة متحدثا بها في المكسيك انقرضت 113 منها... وتتعرض اللغات الوطنية للتهديد في بقائها لعدة عوامل منها افتقادها للاعتبار حين يدرك الجميع أنها تتموضع خارج السلطة والحياة، وكونها مدعاة للتهميش وأنها لن تعتمد لتحقيق مكسب فردي أو جماعي. مقابل ذلك تظهر اللغة الثانية التي لا علاقة للشعب بها في البداية ولكن اعتمادها في العليم يجعل منها اللغة المهتم بها كتابة وشفويا في الوسط المدرسي وسرعان ما يتم التخلي عن الازدواجية اللغوية لصالح اللغة الوحيدة... ومن الأسباب التي يراها الكاتب وراء انقراض اللغات الغزو العسكري والإبادة الجماعية، وتقلص عدد متكلميها بالإضافة على التشتت الجغرافي والزواج المختلط والهيمنة الاجتماعية والاقتصادية والضعف السياسي، والإمبريالية الثقافية. ويخلص الكاتب إلى كون مسار لغة نحو الانقراض ليس حتميا لأنها ليست جسما بيولوجيا يولد وينمو لينتهي بالضرورة، إنها واقع ثقافي لا يخضع للحتمية البيولوجية.ص 53. الفصل الرابع: حق اللغة في التطور والنماء: هذا الحق يستوجب المسايرة للتطور المعرفي وآلياته الحديثة في الاستفادة من المعلومات ومعالجتها وإيصالها. كما يفرض بصفة عامة انفتاح متكلميها على المعارف التي تسعفهم في تحسين ظروفهم وتعميق رؤيتهم للعالم."من هذا المنطلق ارتبط حق اللغة في النماء بالترجمة. الفصل الخامس: حق اللغة في الوحدة: حسب الكاتب لا ينبغي اتخاذ انعدام المساواة بين اللغات مسوغا للتمييز بينها في الحقوق فالتفاوت الطبيعي بين اللغات دليل على اختلافها الضروري الدال على أصالتها ويمثل ثراء للتراث اللساني والثقافي الإنساني. لذا يجب النضال من اجل إحلال المساواة بين اللغات ولا يعني ذلك سعيا نحو القضاء على اختلافها الطبيعي وإنما إحلال تكافؤ بينها من حيث الفرص. وبصدد اللغة الوطنية واللغة الرسمية يرى الكاتب أن مفهوم اللغة الوطنية يشكل اعترافا رمزيا بوجود المجموعة التي تتكلمها. ويعتمد في ذلك على مقياسين: الجغرافية والأصل. وعلى رأس اللغات الوطنية توجد اللغة الرسمية التي يخولها وضعها كلغة رسمية امتيازات كثيرة منها استعمالها من طرف الدولة ومؤسساتها في علاقاتها بالمواطنين... ويحدث أن يوجد أكثر من لغة رسمية، وتختار انطلاقا من صلتها بالهوية ووظيفتها في المحافظة عليها، أو وفق حاجة الدولة إلى وسيلة للتواصل مع جميع المواطنين. إن التشريع اللغوي – حسب الكاتب –يهدف إلى وحدة وتوحد اللغة ويمكن حصر التشريع اللغوي في:- تشريع رسمي محدود الصلاحية والفضاء – تشريع ملزِم وعمومي – تشريع ليبرالي –تشريع تعبيري. وبصدد تدخل الدولة في المجال اللغوي فسيتتبعه التوتر اللغوي الحاصل في معظم الدول والناتج عن المنافسة بين اللغات مما ينجم عنه اضطرابات اجتماعية وسياسية واقتصادية. وقد حدد المؤلف العوامل التي تؤدي إلى تدخل الدولة في:- التعدد اللغوي الموجود في أغلب دول العالم رغم اعترافها بلغة رسمية – حدة التنافس اللغوي – الصراع الاجتماعي – الرغبة في التدخل: فهناك حالات ترى فيها الدولة أن مشكل اللغات يستوجب حله بفعل قوة الأشياء التي تتمثل في استيعابها من طرف اللغة الرسمية. وفي نهاية هذا الفصل يحدد الكاتب مقاييس يجب أن تعتمد في السياسة اللغوية من قبل الدولة وهذه المقاييس هي: - مقياس التوافق الاجتماعي الذي يجب أن تراعيه الدولة الديمقراطية في وضع سياستها اللغوية – مقياس نشدان المساواة النسبية – مقياس يتجلى في المجالات التي تتدخل فيها الدولة- مقياس النتائج الايجابية المتوخاة... وينبه الكاتب على أن تدخل الدولة قد تنجم عنه مخاطر لأنها لا تتحكم بالضرورة في النتائج السلبية لسياستها. و"يمكن القول إن بإمكان الدولة أن تنهج سياسة لغوية مقنعة إذا كانت تستهدف التطور الاجتماعي وحماية اللغات ومستعمليها، والحفاظ على السلم والعدالة الاجتماعية والوحدة السياسية ووضع المعايير اللغوية وتعميمها..." ص 78. خلاصات: يختم الكاتب كتابه بخلاصات أهم ما جاء فيها: ـ رد الكاتب على من يعتقد أن العربية مهددة باللهجات العامية. ـ الإشارة إلى ضرورة تطوير العربية مع اقتراح بعض ما يحقق ذلك. ـ الرد على من يعتقد أن الاعتراف باللغة الأمازيغية يهدد الوحدة الوطنية ويبعث على الانشقاق. ـ كون التعدد اللغوي لا يشكل خطرا على اللغة أو اللغات إلا في ظروف تسيطر فيها لغة أجنبية على اللغة الوطنية. ـ اعتبار الازدواجية الأمازيغية تدخل ضمن المنظومة الثقافية العامة لأنها – حسب الكاتب – أخت العربية، وتنتمي إلى نفس الأسرة اللغوية الحامية \السامية " وهي تمثل إلى جانب العربية أحد الألسن القليلة التي احتفظت بسمات النظام السامي \الحامي، وصمدت أمام التغلغل الأجنبي ومحاولات التهجين والقضاء عليها" ص 86. ونشير في الأخير أن الكتاب الذي قدمناه متميز بأسلوبه السلس، وبأفكاره المبوبة تبويبا متناسقا ييسر فهم مضامينه. وهو كتاب يثير عدة أسئلة جديرة بالطرح للنقاش... وقراءتنا لا تغني عن العودة إلى الكتاب قصد الاستزادة من أفكاره والتعليق على محاوره ومعطياته. هامش: * الحقوق اللغوية: حق اللغة في الوجود، والبقاء، والتطور، والنماء، والوحدة للدكتور عبد الهادي بوطالب – دار الكتاب- الطبعة الأولى 1424- 2003. ** قام الكاتب ببعض التفصيلات لكل من التشريعات المشار إليها، انظر:ص 71-72.
|
|