|
تداعيات مغربية بقلم: ميمون أمسبريذ الجانجاويد في المغرب شهد عدد من الجامعات المغربية خلال شهر ماي المنصرم أعمال عنف خطيرة أوقعت قتلى وجرحى واعتقالات في أوساط الطلبة. وإذا كان بعض المنابر الإعلامية لم ير في هذه الأحداث إلا مواجهات عرقية بدائية، يجري على مجتريحها حكم "القاتل والمقتول قي النار" (لاحظوا الحياد!)، فإن القرائن تشي بأن رهان هذه المواجهات أعظم: إنه، لا أقل ولا أكثر، رهان الوحدة الترابية للوطن. لقد أفضت سياسة تدليل أبناء "الجمهورية العربية الصحراوية" طمعا في أن يتحولوا عن ولائهم للبولساريو إلى أن استأسد هؤلاء على زملائهم الطلبة المغاربة الذين ليس لهم ما يساومون عليه؛ فتوالت منهم الاستفزازات للمشاعر الوطنية للطلبة واستغلوا واستكبروا مطمئنين من عدم الحساب. ولما كان الطلبة الأمازيغيون ـ أسوة بآبائهم وأجدادهم من قبل ـ لا يرضون أن تداس كرامة الوطن ـ الأم، فقد انبروا لهؤلاء الجانجاويد الجدد الذين يبدو أن انتماءهم العرقي إلى العروبة يمنحهم الحصانة لدى المخزن العروبي. وبدلا من أن تحييي الصحف المشار إليها غيرتهم على الوطن سارعت إلى تصنيف موقفهم في خانة المناوشات الإثنية، مصدرة (الصحف) عن قبلياتها الإيديولوجية ضد الأمازيغيين. وعلى ذكر الجانجاويد، فبينما كانت الصحف تتداول أعمال العنف التي أشعل فتيلها هؤلاء الجاجاويد المتمرنون، كان رئيس النظام السوداني وزعيم الجانجاويد في دارفور يطل علينا من شاشات الشركة الوطنية للسمعي ـ البصري. إنها المرة الثانية التي يدنس فيها هذا الرئيس، المتابع من طرف المجتمع الدولي بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في حق سكان دارفور، أرض الوطن هذه السنة. ومرة أخرى لم تنبس الجرائد الحزبية ولا "المستقلة" ولا منظمات وجمعيات وعصب حقوق الإنسان المغربية ببنت شفة: أين أخفي وجهي؟ أي مرض نادر هذا الذي أصاب العروبيين؟ ففيما تقاوم الشعوب دكتاتوريها في آسيا وأمريكا الجنوبية وإفريقيا ما تحت الصحراء، ولا تكف عن الاحتجاج والتظاهر مهما تحملت من تضحيات حتى تفرض مطالبها الديمقراطية، نجد العروبيين يهيمون في حب مستبديهم ولا يتصورون الحياة بغيرهم. وإذا دالت دولتهم وألقى بهم التاريخ في مزبلته، لطموا الخدود وشقوا الجيوب وأقاموا المآتم وأحيوا الأربعينية وقرأوا الفاتحة في البرلمان (أي نعم: لقد قرأ "الديمقراطيون" الفاتحة في البرلمان المغربي على دكتاتورهم: ديمقراطيوت يبكون دكتاتورا؟! من وجد هذا السلوك غريبا فليتذكر أنه في المغرب!). إنه الإدمان على الاستبداد؛ فالمدمن على شيء لا يقوى على الاستغناء عنه وإن علم بمضاره واستيقن بوائقه. المؤكد بالنظر إلى هذه السلوكات الارتكاسية لـ"الديمقراطيين" العروبين أنهم سيحتاجون إلى عقود، وربما قرون، من العلاج المزيل للإدمان ( cure de désintoxication) قبل أن ينفطموا عن دكتاتوريهم ويكفوا عن تمجيدهم ويفكروا ويتصرفوا كديمقراطيين.في هذا السياق، وبما أن الأمر يتعلق في هذه الورقة بتداعيات، يحضرني بنعتيق، زعيم الحزب العمالي المغربي الفتي؛ لقد سمعته مرة يقول على القناة الثانية إنه زين مكتبه بصورة الرجل الثاني في نظام حزب البعث العربي العراقي البائد، علي عزت إبراهيم! (أخمن أن بعض منافسي بنعتيق من المتياسرين العروبيين قد يكون زين مكتبه أو صالونه بصورة علي الكيميائي زميل عزة إبراهيم في الحكم. ياللبؤس!). لقد بدا الفتى بنعتيق أثناء حديثه عنه مفتونا بالرجل، وترك انطباعا قويا بأنه جعل منه مثله الأعلى. يا ويح المغاربة! لم يزين بنعتيق المغربي الأمازيغي مكتبه ببورتريه لـ"ميس ن سي عبد كريم" (هكذا يسمي المسنون عندنا محمدا بن عبد الكريم الخطابي)، أو محند أمزيان أو موحى أو حمو أزيان أو واحد من متصوفة التراب هؤلاء الذين توحدوا بالأرض التي أنجبتهم حتى الفناء. فما هؤلاء في عرف ورثة "الحركة الوطنية" إلا بدو برابرة قصار النظر، لا يرقون إلى مقام الزعامات الشرق ـ أوسطية، التي وحدها تستحق التمجيد. *** الحكومة المغربية والأمازيغية يتضح من ملاحظة المشهدين الثقافي والإعلامي المغربيين أن إستراتيجية الحكم هي على المدى المتوسط والطويل: إقبار الأمازيغية؛ أما الاحتفاء المناسباتي البلاغي (من باب "كلنا أمازيغيون" و"الأمازيغية أحد مكونات الهوية الوطنية"، الخ.) وأشباه الإجراءات الموجهة زعما إلى النهوض بالأمازيغية (إدماج تجريبي وجزئي جدا للأمازيغية في التعليم الابتدائي لا كلغة تدرس لذاتها بل كسند بيداغوجي لتدريس العربية ("استئناس" الميثاق الوطني للتربية والتكوين)؛ برنامج إثنوغرافي شهري آخر الليل عن الأمازيغية، وبريمج أسبوعي لا تتعدى مدته ربع الساعة (أرحال)؛ نشرة أخبار نهارية لا يشاهدها أحد يذيعها صحفيون يمارسون نوعا من الترجمة الفورية لأوراقهم المكتوبة بالعربية، فتأتي لغتهم لا هي أمازيغية ولا عربية...) ـ أقول: أما ما ذكر فليس سوى تاكتيكات (des tactiques) الغرض منها ذر الرماد في عيون الغيورين على الأمازيغية و"إعطاء الوقت للوقت" لتنجز عوامل التعرية اللغوية والثقافية وظيفتها المتمثلة قي تفتيت الكيان الهويتى للأمازيغيين بقتل الأمازيغية في الألسنة والأفئدة. أعني بتلك العوامل على الخصوص: المدرسة ووسائط الإعلام السمعية ـ البصرية والمؤسسة الثقافية. وإذا تجاوزنا المدرسة التي أدخلت إليها الأمازيغية على نحو رمزي جدا، وبحثنا عن موقع الأمازيغية لغة وثقافة وحضارة وتاريخا وإنسانا في السياسات الإعلامية والثقافية لوزارتي الثقافة والاتصال، سنتأكد من حقيقة ما قدمناه أعلاه من وجود أجندا ثانية (un agenda bis) لدى الحكم بخصوص المسألة الأمازيغية: الإماتة التدريجية للأمازيغية. هذه الأجندا لم تتخل عنها الطبقة السياسية العروبية أبدا؛ كل ما هنالك أنها غيرت من أسلوب صياغتها (أو بالأحرى تخلت عن صياغتها صراحة) مراعاة لروح العصر و"السليم سياسيا" (le politiquement correcte). فلم يعد مستساغا في بلد يقول حاكموه إنهم يريدونه حداثيا ديموقراطيا تسوده حقوق الإنسان والمواطن، وفي عالم معولم حساس لقضايا هذه الحقوق ـ لم يعد مستساغا أن يصاغ مشروع إبادة الأمازيغية بتلك اللغة الفاشية التي استعملها محمد عابد الجابري في السبعينيات ("إماتة اللهجات"). إن هذه الطبقة السياسية التي أصبحت "عصرية" تعرف كيف تراعي الأشكال وتصون الصورة... المشروع يظل دائما هو "تعريب الحياة العامة والخاصة" وما يتغير، تكيفا مع العصر، هي أساليب وأدوات انجاز المشروع. لا شيء في المشهدين الثقافي والإعلامي العموميين ببلادنا يذكر المراقب بأنه في بلد يتسم بالتعدد اللغوي ـ الثقافي. وليست تلك المهرجانات "الثقافية" التي تنظم هنا وهناك في المواسم، ولا بعض الرقصات الفولكلورية والمسرحيات التي تبث في الأوقات الميتة، على سبيل الحشو، نهارا والناس منهمكون في طلب العيش أو ليلا والناس نيام، (ليس ذلك) بالذي يبطل الحكم الذي أسلفناه. إن الغرض من تلك الشذرات "الأمازيغية" المبثوثة هنا وهناك هو أن توظف في السجال حول الأمازيغية كبراهين على أن الأمازيغية حاضرة في السياسات الثقافية والإعلامية للدولة. هكذا يكون دعاة إماتة الأمازيغية الجدد قد أصابوا هدفين بحجر واحد: فهم من جهة يظهرون أنفسهم بمظهر من لا يعادي الأمازيغية، بدليل أنهم يخصونها بحيز في برمجتهم، ومن جهة أخرى فإنهم، بنوعية "الأمازيغية" التي يقدمونها، يشهدون الناس على أن الأمازيغية بطبيعتها ليست جديرة بالاعتبار نظرا لضحالة إنتاجاتها وضعف قيمتها الفكرية والجمالية مقارنة مع غيرها. النتيجة المتوخاة طبعا هي تعميق الشعور بالدونية الثقافية لدى الجمهور المتوسط الأمازيغي لكي يتولى بنفسه مهمة إماتة الأمازيغية باعتبارها الوسيلة الوحيدة للتخلص من الدونية. إذ من المعروف أن الايدولوجيا تشتغل أنجع ما يكون الاشتغال عندما تنجح في أن يتبناها من هم في الأصل ضحاياها. إنهم بدل قتل الأمازيغية يدفعونها إلى الانتحار؛ والنتيجة واحدة. إن الحكومة تراهن على الموت "الطبيعي" للأمازيغية؛ فهي تدرك فعالبة الجهاز الضخم الذي أوكلت إليه مهمة تصفية التركة الأمازيغية: أعني الجهاز التعليمي ـ الإعلامي ـ الثقافي ـ الإداري ـ القضائي. إن هذا الجهاز العملاق يعمل بملء طاقته، خاصة بعد أن بدأ الكلام عن إعادة الاعتبار إلى الأمازيغية رسميا. وليس في الأمر مفارقة كما قد يبدر إلى الذهن: فما كثرة الحديث عن النهوض بالأمازيغية إلا صخب لفظي موجه إلى شغل انتباه الأمازيغيين عن النشاط التخريبي لذلك الجهاز الأخطبوطي الذي يعمل في صمت لكن بنجاعة. وليس على الدولة إلا أن ترافق هذا النشاط بإحصائيات دورية تزف فيها إلى أنصار الحل النهائي بشرى التراجع الواضح لعدد الناطقين بالأمازيغية (تنظر إحصائيات الحليمي مثلا). فهل نوقف ـ نحن الأمازيغيين ـ هذا المسلسل التخريبي الذي يهدد وجودنا ككيان حضاري أم نكتفي بمعابنة الخسائر؟ إن عملية التوريث اللغوي تتوقف يوما بعد يوم في غير جهة من الجهات الناطقة بالأمازيغية تحت ضغط الجهاز المذكور؛ وانقطاع سلسلة التناقل اللغوي كسر غير قابل للجبر: وأعداء الأمازيغية يدركون ذلك ويستعجلونه. تتظافر الإبادة الممأسسة للأمازيغية مع الهجرة القروية نحو المدن المعربة وأوربا، بسبب سياسة التهميش والتفقير التي سنتها دولة الاستقلال في المغرب غير النافع، على إضعاف الأمازيغية عن طريق تفكيك أطرها السوسيو ـ ثقافية وعزل الذوات الأمازيغية في بيئات لغوية ـ ثقافية مهيمنة تنتهي فيها إلى فقدان الهوية والذوبان. ولكن الحكومة المغربية لا تقنع بما تفعله الهجرة في الإنسان الأمازيغي عزلا وتذويبا، بل هي تلاحقه في ملاجئه الأوروبية لـ"تركب" له مكان هويته المهددة بالفقدان أو المفقودة سلفا هوية بديلة تجعل منه عربيا رغم أنف اللغة والثقافة والانتماء. هكذا ينص بند ملحق باتفاقية تعليم اللغة والثقافة الأم المبرمة بين المغرب وبلجيكا، التي وقعها عن الجانب المغربي وزير التعليم الأسبق وعالم الاجتماع الذي لا يتقن العربية، عبد الله ساعف، (تنص الاتفاقية) على تعليم العربية الكتابية (l'arabe littéral) لأبناء المهاجرين "من أجل ضمان التواصل بين الأجيال" (كذا، والعهدة على عالم الاجتماع!). لا أملك ـ أنا الذي ذرعت أوربا جنوبها والشمال ولم أسمع في أسرة مغربية واحدة الأجداد والجدات يخاطبون حفدتهم بلغة أبي جهل أو حتى بلغة "الجزيرة"، وإنما يكلمونهم بلسان أمازيغي مبين ـ لا أملك إلا أن أتساءل: كيف لأجداد وآباء أمازيغيين أن يتواصلوا مع أبنائهم وحفدتهم بالعربية المكتوبة أو حتى الدارجة وهم لا يعرفونها؟! أي مجتمع درسه عالم الاجتماع ساعف؟! هل أبحاثه الميدانية هي التي توصل بها إلى أن العربية المكتوبة هي اللغة التي تتواصل بها الأجيال في الأسر الأمازيغية والمغربية عموما؟! أم هي سوسيولسانيات الجنة أو ربما المدينة العربية الفاضلة أو "الممكنة" (virtuelle)؟! لا الابستيمولوجيا ولا الديونطولوجيا صمدت أمام سطوة الايدولوجيا! لقد نجحت الطبقة السياسية العروبية في تحقيق كل أهدافها من مسخ الشخصية المغربية: حققنا اكتفاءنا الذاتي من الإرهابيين وأصبحنا نصدر إلى الخارج، محتلين الدرجة الأولى بين منافسينا من الدول العربية الشقيقة، والخير أمام...إن ما بقي لمجتمعنا من المناعة مرده، لا شك، إلى ما تبقي فيه من الروح الأمازيغية؛ و هذه الروح تحتضر الآن. لكن ليعلم أعداء الأمازيغية أنهم إذ يخربون الأمازيغية إنما يخربون البيت الذي يسكنون فيه. تذييل آخر أخبار الشأن الأمازيغي تفيد أن القناة التلفزيونية الأمازيغية الموعودة ستقتضي من الأمازيغيين كي يتلقوها التزود بجهاز استقبال رقمي (ولم لا أداء واجب انخراط!؟). ولنا أن نتصور كيف لأرباب الأسر قي تونفيت وأنفكو وغيرهما من القرى والبوادي الأمازيغية المنكوبة، الذين لا يجدون ما يشترون به لباسا يقي أبناءهم البرد القاتل، كيف لهؤلاء أن يفكروا في شراء جهاز لالتقاط قناة تلفزيوتية؟! فذرهم يخوضوا ويلعبوا... (ميمون أمسبريذ، بلجيكا)
|
|