|
مولاي محند والحركة الريفية (الجزء الأول) بقلم: القجيري محمد البدايات الأولى لملحمة مولاي محند: في جبال الريف الشامخة المنيعة، وفي منطقة آيت ورياغل القوية نشأت دولة الريف الأمازيغية، آخر الدول الأمازيغية، هذه الدولة الأمازيغية التي استطاعت أن توحد قبائل الريف المتصارعة، وتجعل من هذه القبائل الريفية دولة الريف الأمازيغية، أسسها رجل عالم من علماء الريف هو محمد بن عبد الكريم الخطابي المعروف في بلاد الريف باسم مولا محند. ولد في سنة 1882 في ناحية أجدير القريبة من مدينة الحسيمة، تلقى تعليمه الأول في مساجد أجدير ثم تطوان ثم بعدها تلقى تعليمه الابتدائي في مدينة مليلية مع أخيه الأصغر أمحمد الخطابي. هذا الأخير التحق بعدها بمدرسة المعادن بمدريد الإسبانية. في حين التحق مولاي محند بمدرسة العطارين ثم الصفارين بفاس قصد ولوج جامعة القرويين السلفية، وفعلا دخلها وحصل منها على الشهادة بعد أن أنهى درا سته الفقهية فيها. وخلال مقامه بفاس تأثر بخرافات القرويين وبتعليمها السلفي خاصة من طرف أساتذته، ومنهم محمد القادري ومحمد جعفر الكتاني والتهامي كنون ونجله عبد الصمد كنون... وعن هذا الموضوع يقول الأنتروبولوجي الأمريكي دافيد مونتغمري هارت David montgomery) Hart) صاحب أطروحة دكتوراه حول قبيلة آيت ورياغل إن مولاي محند قد «تشبع بفكر الإصلاح السلفي خلال المدة التي تمتد بين 1903 و 1906 حينما كان يتابع دراسته بجامعة القرويين بفاس»، ثم يضيف ويقول لقد «تشبع ابن عبد الكريم بأفكار الحركة السلفية ونما وتوقد فكره خصوصا خلال الرحلة التي تمتد بين 1906 و 1919» (1). وبعد رجوعه من فاس إلى أجدير، أرسله والده عبد الكريم الخطابي إلى مدينة مليلية قصد الاطلاع على الثقافة الإسبانية والعمل هناك. فعين في سنة 1906 مترجما في مكتب خاص بشؤون الأهالي بمليلية. وفي الوقت نفسه عمل مدرسا لأبناء مليلية في المدرسة البلدية للتعليم الابتدائي وأستاذا للغة الريفية. وعن هذا الموضوع يقول جاك بيرك: «كان عبد الكريم يمارس في الوقت نفسه وظيفة مدرس في المدرسة البلدية للتعليم الابتدائي ووظيفة أستاذ اللغة الأمازيغية في الأكاديمية العربية»(2). وما يفيد أيضا أن مولاي محند كان يدرس اللغة الريفية الأمازيغية، مقال كتبه بنفسه في جريدة «برقية الريف (el telegrama del rif) التي كانت تصدر في مليلية، ومما ما جاء فيه أن «الأهمية الكبرى لدراسة ‘الشلحة‘ بالنسبة للإسبانيين بنجاح الجنيرال جوردانا لاقتراح تنظيم تدريسها رسميا. إن الأمازيغية أو ‘شلحة‘ تقدم لهجات مختلفة (...) بالنسبة لي، وفي مهمتي كأستاذ سيدعمني محمد طحطاح، وسأتبع منهجيته في العرض وأستعمل المواضيع والتمارين التي يحتويها الكتاب. (يقصد كتاب «اللغة الريفية» 1905-1925 الذي ألفه الإسباني ساريونا نديا) إن التمارين اليومية ستكون من الكتابة في الألواح وتترجم، وعندما يكتسب التلاميذ المستوى الضروري المتقدم ستكون لنا تطبيقات المحادثة. متمنياتي هو أن كل من يوجد في هذه الأقسام، من عسكريين أو مدنيين، سيقدر على امتلاك لغة جد ضرورية هنا، وأطلب من الله أن يكون كذلك» (3). وما يوحي أيضا كون مولاي محند كان أستاذا يدرس اللغة الريفية في أكاديمية «تمزخت»، الرسالة الجوابية التي كتبها مولاي محند إلى أحد تلاميذته الإسبان بمليلية جاء فيها «حمدا وصلاة، صديقي الأكرم أنخيل مونيوز بوسكي، أراك تتقدم في تعلم اللغة الريفية ويسرني جدا أن أرى سيادتكم متمتعين براحة البال والسعادة والهناء والسلام، صديقك محمد بن عبد الكريم الخطابي»(4). وحسب الباحثين في هذا المجال، إن تلميذه بوسكي كان قد راسله باللغة الريفية مكتوبة بحروف إسبانية لاتينية. علاوة على مهنة التدريس فقد اشتغل مولاي محند في شتى الميادين وزوال مهنة القضاة التي ارتقى فيها إلى قاضي القضاة لمنطقة مليلية بأجمعها سنة 1914، وبموازاة مع ذلك مارس مهنة الصحافة وكتب عدة مقالات باللغة الإسبانية في بعض الصحف الإسبانية وفي مقدمتها يومية إيل تلغراف ذيل ريف el telegrama del rif) ) التي عمل فيها أيضا بقسم الترجمة العربية كناشر بالملحق العربي، حيث خصص له رئيس تحرير اليومية «لوبيزا» صفحة كاملة بالعربية التي أشرف عليها مولاي محند كمحررالها حتى عام 1915. وابتداء من سنة 1914 سيصبح مولاي محند أكثر قربا من ذاته وشعبه، إذ أنه منذ بداية تلك السنة بدأ يدرك أكثر أهمية اللغة والحضارة الأمازيغيتين والقضية الريفية. وقد كتب في هذا الموضوع عدة مقالات حول الثقافة الريفية والحضارة الأمازيغية وفي الوقت نفسه كان ينشر مقالاته المعادية لإسبانيا يعبر فيها عن آراءه ومواقفه وميولاته السياسية الداعية لاستقلال الريف. وهكذا، فبعد أن أصبح أكثر رديكاليا ومتشددا في مواقفه الداعية لاستقلال الريف، ومعارضا للسياسة الإسبانية التوسعية بالمنطقة الريفية، تعرض للاعتقال وذلك لأنه رفض أوامر السلطات الإسبانية علاوة على نشاطه الداعم لاستقلال الريف وأيضا بسبب دعمه ومساندته العلنية لألمانيا وتركيا في الحرب العالمية الأولى. هذا دون أن ننسى اتهامه بالعمالة لألمانيا، ويقال إن مولاي محند قد وقع اتفاقا مع الألمان مفاده أن يحمل مولاي محند السلاح من ألمانيا لمحاربة إسبانيا وطردها من المنطقة الريفية ومن ثمة تأسيس دولة الريف التي ستحظى بدعم من الحكومة الألمانية مقابل مصالح اقتصادية لهذه الأخيرة بالمنطقة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن والد مولاي محند عبد الكريم الخطابي اتهم هو أيضا بالعمالة لألمانيا لدرجة أنه تعرض للتشهير من طرف الريفيين في أهزوجة ريفية، وقد سجل في هذا الصدد يوسف السويكي (5) أهزوجة ريفية التي التقطها وسجلها من عمه شعيب أفلاح الذي كان أحد القادة العسكريين في حرب الريف. تقول الأهزوجة الريفية «ssi oabd krim atarehyant uba reoman ira yidjja dasbanyo ruxa idwar daliman» ومعناها بالعربية «عبد الكريم صاحب لحية عصفور دوري، بعد أن كان اسبانيا أصبح اليوم ألمانيا». بسبب هذه العوامل الواردة أعلاه ألقي القبض على مولاي محند وسجن في قلعة (cabrerizas altas) في مليلية. وقد حاول الفرار من السجن خلال الاعتقال باستعمال حبل شده إلى إحدى شرفات السجن، غير أن الحبل انقطع فسقط من جدار عال وأصيب بكسر في ساقه الأيمن، وبذلك خرج من المغامرة بساق معطوبة سيعرج بها طول حياته. ولما أطلق سراحه، غادر مليلية وعاد إلى مسقط رأسه بأجدير ومن هناك أعلن الثورة على اسبانيا، وقام بتنظيم شؤون الريف الداخلية والخارجية، وأسس الحكومة الريفية في يوليوز 1921، كما وضع دستورا للريف مبدأه سلطه الشعب الريفي، وكانت معظم بنوده يعتمد على أعراف الريف «izerfan n arif». ويقال إن دستور الريف كان يشمل على 40 مادة، لكن للأسف ضاعت وثيقة الدستور كما ضاعت مختلف وثائق الدولة الريفية التي احترقت بنيران الحرب أثناء الغزو الدولي الغاشم على بلاد الريف. غير أن ما يثير الاهتمام في هذا الصدد هو قيام مولاي محند ما بين سنة 1922 و 1923 بتغيير بعض بنود الدستور الريفي. ووضع أحكام الشريعة الإسلامية مكان أعراف الريف العريقة. خاصة في القانون والقضاء الجنائي. وعلاوة على مولاي محند، فإن الذين أدخلوا أحكام الشرع إلى مؤسسات جمهورية الريف هم على وجه الخصوص بولحية والشرقي وهما من قبيلة آيت توزين، الذين تخرجوا من جامع القرويين السلفي بفاس. وتجدر الإشارة إلى أن معظم الريفيين الذين درسوا في جامع القرويين بفاس لما عادوا إلى الريف عادوا محملين ومخدرين بأفكار الحركة السلفية الغريبة عن المنطقة وحاولوا أن يفرضوا تلك الأفكار العربية البعيدة عن تقاليد الريف في مكان أعراف الريف العريقة وخاصة في المجال القضائي. ولا بأس هنا أن نذكر ونشير إلى وجود وثيقة تاريخية تعود إلى القرن 19 تحتوي على 500 صفحة تفيد أن كل المتعلمين الريفيين تقريبا درسوا في جامع القرويين وحينما عادوا إلى الريف عادوا محلمين معهم بأفكار جامع القرويين ومارسوا القضاء في الريف. ومن خلال ما سبق يمكن القول وبدون تردد إن قيام مولاي محند باستبدال بعض أعراف الريف بأحكام الشريعة الإسلامية كان نتيجة تأثره بأفكار الحركة السلفية الإسلامية أيام تواجده بفاس، المدينة القرسطية. وعن هذا الموضوع لا بأس أن نورد بعض ما قيل وذكر عن سلفية مولاي محند!! ضمن أعمال ندوة عالمية حول مولاي محند نظمت بباريس في يناير 1972. فهذا ريجيس يلاشير يتساءل ويقول: «هذا الذي ذهب للدراسة في جامع القرويين، والذي تلقى تكوينا جد متيسر، ولكنه قوي، معلم المدرسة هذا عندما عاد إلى الريف، عاد حاملا معه شيئا آخر. هذا «الشيء الأخر» ماذا يمكن أن نسميه؟ الفكرة الإسلامية؟ وأدخل عناصر أخرى في الريف، وهنا أود أن أكون شديد الحذر، ما هذه العناصر البعيدة وهذه التأثيرات البعيدة؟»(6). أما بول إيزوار فيقول ضمن أعمال نفس الندوة «ظاهريا يبدو أن زعيمها تدفعه الفكرة الإسلامية، ولكن أيضا هم لضمان استقلال المنطقة الذي يعيش فيها»(7). في حين يقول دانيال ريفيه وإن كان مبالغا شيئا ما «هذه الثورة تعني بالمقابل تحطيم التقاليد المحلية بواسطة الصراع المستمر ضد تأثيرات الأولياء من جهة، ومن جهة أخرى، محو كل الملامح الاجتماعية- الثقافية السابقة، سواء كانت أعيادا أو مظاهر أخرى، والتي كانت محرك الحياة السياسية السابقة، ومحو الحقوق العرفية السابقة واستبدالها بالشرع. إذن اصطدمت الثورة بالشرفاء وبصغار الزعماء المحليين، الذين تم سجن الكثير منهم، باختصار تم الاصطدام بكل ما كان يؤطر العالم الريفي (..) إنها ثورة وطنية –دينية. تسير باتجاه التحديث الإسلامي»(8) بينما يذهب الجنرال سيمون بعيدا في مقابلة أجرتها معه صحيفة «لوتان» قبيل مفاوضات وجدة في سنة 1925، ويرى أن ثورة مولاي محند تتم بواسطة القطع مع التقاليد الريفية الأمازيغية بقوله «إنه أراد أن يفرض زعماء من بطانته، من قضاة وقادة، حسب الصيغة العربية، على هؤلاء البربر الذي صدم بهذه الطريقة تقاليدهم، إنه حاول أن ينزع عن شمال المغرب طابعه البربري»(9). ونفس الشيء يذهب إليه الجنرال مونتابنو صاحب أطروحة السيطرة على الريف بواسطة استمالة «الإمغارن» وبواسطة احترام الحقوق العرفية الريفية، قائلا: «يمكن تلخيص نزعات الحكومة الريفية بكلمة: إنه يجسد احتقار تقليد المخزن والتقاليد البربرية» (10). هذا من جهة، أما فيما يخص لغة الكتابة في مؤسسة جمهورية الريف فقد كانت عادة ما تكتب باللغة العربية القريشية لأسباب خاصة أملتها الظروف السائدة آنذاك. وعن موضوع التعريب في الريف يقول دافيد هارت الذي بالغ هنا إلى حد ما بقوله إن «أهم إنجاز حققه بن عبد الكريم يتمثل في إصلاحاته الفعلية لمكونات المجتمع الريفي بواسطة تعريب مؤسساته الاجتماعية واستبدال يكاد يكون كليا للقاعدة والقانون العرفي الريفيين بنصوص وقوانين الشريعة» (11). وفي الموضوع نفسه يقول دافيد هارت «لقد حاول بن عبد الكريم القيام بتعريب وأسلمة نظامه السياسي الريفي وقانونه العرفي»(12)، لكن في حقيقة الأمر ظروف الحرب جعلته يؤجل ملف الأمازيغية إلى أجل غير مسمى والدليل على ما قلناه بيان جمهورية الريف الذي يحمل توقيع مولاي محند، والذي يعد أحد الركائز الأساسية التي تأسست عليها جمهورية الريف، يقول البيان «إن بلادنا تشكل جغرافيا جزء من إفريقيا، ومع ذلك فهي منفصلة بصورة واضحة عن الداخل، وبالتالي فقد شكلت جنسيا عرقا منفصلا عن سائر العروق الإفريقية التي اختلطت بالأوربيين والفينيقيين قبل مئات السنوات بفعل الهجرة. كذلك تختلف لغتنا بصورة بينة عن اللغات الأخرى، المغربية أو الإفريقية أو سواها. فنحن الريفيين لسنا مغاربة البتة»(13). وطبعا نفهم من خلال هذا البيان الريفي أن اللغة الرسمية للدولة الريفية الأمازيغية ستكون هي اللغة الريفية الأمازيغية، لكن لسوء الحظ ظروف الحرب جعلت مولاي محند يؤجل ملف تمزيغ الريف أو ترييف الريف إن صح هذا التعبير وخاصة في الميدان الكتابي، وهو الميدان الوحيد الذي يتواجد فيه التعريب في الريف بشكل طاغٍ. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأغلبية الساحقة من شعب الريف الأمازيغيى إذاك كانت وحيدة اللسان، بحيث لم تكن تتحدث سوى اللغة الريفية الأمازيغية وخاصة في معقل الحركة الريفية الثورية، وفي علاقة بهذا الموضوع يقول المؤرخ الأمريكي دافيد هارت: «إن الملاحظ في تلك الفترة، أن الأغلبية الساحقة من بني ورياغل كانت وحيدة اللسان أي أنها فيما عدا بعض المفردات العربية والإسبانية، لم تكن تتكلم إلا لهجة الذمازيغت الريفية»(14). كما أن لغة التخاطب الرسمية في مؤسسات دولة الريف الأمازيغية كانت هي اللغة الريفية الأمازيغية، فاللغة الريفية هي جزء من هوية الشعب الريفي الأمازيغي، وبالتالي يستحيل أن يتخلى عنها، عكس التعريب الذي اقتصر منذ الغزو الإسلامي للريف على مساجد حفظ القرآن والزوايا والرباطات وعلى بعض النساخ والكتاب لتحرير الرسوم والعقود الشرعية وفي بعض الأحيان في المراسلة. «بيد أن المؤشر الحقيقي على الخصوصية الريفية يكمن في الصيانة القوية للهجات البربرية بصورة لا يكاد يشوبها انفصام، بحيث لم يكن يوجد سوى بعض النساخ الذين تقتصر معرفتهم للغة العربية على المبادئ الأولية اللازمة لتحرير العقود الشرعية»(15). وفي ختام هذا الفصل لا بأس أن نذكر فيه أيضا أن الحكومة الريفية كانت قد وضعت اللمسات الأخيرة للعملة الريفية الوطنية تسمى ريفان «riffan» (16). غير أن ظروف الحرب حالت دون ترويج أوراق العملة داخل الجمهورية. الحركة الريفية الأمازيغية في مواجهات القوات الأمبريالية: (لقجيري محمد lakjiri@yahoo.fr) ****** (يتبع في العدد القادم)
|
|