| |
النصرنفوبيا أو الوجه الآخر للأمازيغوفوبيا
بقلم محمد بودهان
مع الألفية الثالثة، أو قبلها بقليل، بدأت عدد
من الجرائد تنشر، وبشكل لافت ومتكرر، أنباء وتحقيقات عن حركات تبشير مسيحية تستهدف
المغرب والمغاربة (وكذلك الجزائر وزالجزائريين)، وترمي إلى تنصيرهم وتحويلهم عن
الإسلام.
وليست هذه الأنباء نتاجا لوساوس الإسلامويين تعكس كراهيتهم للغرب المسيحي، ويسعون
بها (الوساوس) إلى تعبئة واستقطاب المزيد من الأتباع و"المجاهدين" لمواجهة "المد
الصليبي الجديد"، بل هي أنباء وصلت ـ مما يؤكد جديتها ـ أصداؤها إلى البرلمان حيث
استفسر مجموعة من البرلمانيين وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السابق (2002) "عن
التدابير التي ستتخذها الوزارة لمواجهة النشاط التنصيري في المجتمع المغربي خارج
دائرة المساجد"، كما استفسرت كذلك وزير الداخلية "عن الخطوات التي ستعتمد لتطويق
التنصير وتتبع الأشرطة والنشرات والأناجيل التي تمر عبر الحدود المغربية أو تطبع
داخليا في البلاد" (التجديد في 17/05/2002). "كما ناقش مجلس المستشارين المغربي (الغرفة
الثانية في البرلمان) ـ وفي سابقة هي الأولى من نوعها ـ موضوع الارتداد عن الدين
الإسلامي، والعواقب الوخيمة التي يمكن أن تنتج عن هذه الظاهرة التي تحدثت عنها صحف
مغربية، وقدمت بشأنها معطيات متضاربة حول عدد المغاربة الذين اعتنقوا الديانة
المسيحية" (الشرق الأوسط في 21 مايو 2005). وإذا كانت وزارة الأوقاف لم تؤكد رسميا
وجود حركات تبشيرية لتنصير المغاربة، فإنها مع ذلك كانت، في السنوات القليلة
الأخيرة، قد وجهت مذكرات إلى نظار الأوقاف والشؤون الإسلامية والمجالس العلمية
تحثهم على توعية المواطنين بخطورة التنصير، حيث نظم عدد من هذه المجالس ندوات حول "مخاطر
التنصير"، وهو ما يعني أن الوزارة تعترف، ولو بشكل غير مباشر، بانتشار ظاهرة
التبشير المسيحي داخل المغرب.
أما الصحافة المكتوبة ـ ولن أتحدث عن "التجديد" التي تشكل ظاهرة التنصير بالمغرب
مادتها المفضلة ـ العربية والفرنكوفونية، فقد نشرت تحقيقات واستطلاعات وملفات خاصة
عن حركة التبشير بالمغرب، كما حُركت متابعات في حق مواطنين اتهموا بالردة واعتناق
المسيحية، مثل ذلك الشاب الذي حكمت عليه إحدى المحاكم الابتدائية بثلاث سنوات سجنا
نافذا بتهمة الردة قبل أن تبرئه محكمة الاستئناف في فبراير الماضي.
كل هذه المعطيات، وغيرها كثير، تؤكد أن الأمر لا يتعلق بحالات قليلة ومعزولة وخاصة،
بل بظاهرة عامة ومتنامية، هي ظاهرة التنصير بالمغرب كما تسميها الصحافة.
لكن من جهة أخرى، لا تقدم كل هذه "المعطيات" الكثيرة حول ظاهرة التنصير أية معطيات
حقيقية وواقعية تثبت أن حركات التنصير موجودة وقائمة بالفعل وتتوفر على كل الخصائص
المميزة والمحددة "للظاهرة". الأكثر من ذلك أن كل ما يقال ويكتب وينشر عن ظاهرة
حركات التبشير المسيحي بالمغرب لا يتضمن أية معطيات عن نتائج هذه الحركات
التبشيرية، مثل عدد "المرتدين" عن الإسلام المعتنقين للمسيحية. فحتى ذلك المواطن
الذي توبع بتهمة "الردة" بعد أن ضبطت لديه كتب "مسيحية" برأته محكمة الاستئناف بعد
أن كانت المحكمة الابتدائية قد أدانته بثلاث سنوات سجنا نافذا، كما سبقت الإشارة.
فمنذ أن بدأت تروج الأنباء، منذ عشر سنوات تقريبا، عن انتشار الحركات التبشيرية
بالمغرب تستهدف تحويل المغاربة عن الإسلام، لم يثبت أن مغربيا واحدا غير دينه
واعتنق المسيحية، مع أنه لو فعل ذلك لكان الأمر شأنا خاصا به ولا يلام عليه. ولا
يعني انتفاء معتنقي المسيحية، كنتيجة لحركات التنصير، أن هؤلاء ربما هم موجودون
لكنهم يخفون عقيدتهم المسيحية الجديدة خوفا من اضطهاد الإسلامويين أو المتابعات
القضائية. فهناك العديد من المغاربة المقيمين بأوروبا وأميريكا بصفة قارة ونهائية،
والحاملين لجنسيات هذه البلدان والمزوجين بأوروبيات وأميركيات، ومع ذلك فإن كل
الذين كتبوا عن "مخاطر التنصير" عاجزون عن ذكر واحد من هؤلاء المغاربة يكون قد
اعتنق المسيحية كدليل على ما يكتبون وينشرون حول استهداف الحركات التبشيرية
للمغاربة، رغم أن اعتناق هؤلاء المغاربة، المقيمين بالخارج بصفة دائمة وقارة
للمسيحية، لن يعرضهم لأي تهديد أو مضايقة، بل على العكس من ذلك قد يكسبون منها
منافع ومزايا اجتماعية واقتصادية.
فكثرة الحديث عن حركات "تنصير المغاربة" مع غياب لأي مغربي متنصر، لا يختلف كثيرا
عن كثرة الحديث عن "الغول" دون أن يسبق لأحد أن رأى هذا الغول ككائن موجود.
فعندما نريد إذن أن نحلل ما تقدمه لنا الصحافة والإسلامويون كظاهرة تنصير تستهدف
المغاربة، لا نجد شيئا من هذه الظاهرة ولا ما يرتبط بها من حركات تبشيرية وكل ما
كان يمكن أن ينتج عنها من اعتناق مجموعة (مهما كان عددها صغيرا) من المغاربة
للمسيحية. فليست هناك حركات تبشيرية منظمة، كما تروج ذلك الأدبيات النصرنفوبية،
تمولها وتوجهها دول غربية "مسيحية". كل ما هناك هو توسع وسرعة الاتصالات عن طريق
الإنترنيت والقنوات الفضائيات، الشيء الذي جعل بعض المغاربة يتعرفون على مواقع
تبشيرية مسيحية على الإنترنيت، أو يشاهدون قنوات فضائية تقدم برامج حول المسيحية.
وقد يتوصل هؤلاء المغاربة، عن طريق المراسلة، بوثائق أو كتيبات حول المسيحية، وهو
شيء لا يعني إطلاقا اعتناقهم لهذه الديانة. وقد يكون هناك عمل فردي ـ أقول فردي ـ
محدود لمسيحيين معدودين على رؤوس الأصابع يعملون على تعريف الآخر المختلف بمميزات
دينهم المسيحي، وهو شيء يجري به العمل دائما وفي كل زمان ومكان، وليس في هذا الوقت
بالذات وفي المغرب وحسب. فليس معقولا إذن الكلام عن حركة تبشيرية ولا عن ظاهرة
تنصير لأن ذلك ببساطة غير ممكن في بلد دينه الرسمي هو الإسلام. فمن شروط التنصير أو
التبشير بدين آخر وجود أنظمة علمانية تحمي حرية اختيار العقيدة وتغييرها كلما رغب
الفرد في ذلك. فبفضل هذه الأنظمة العلمانية انتشر التبشير الإسلاموي في الغرب،
والذي (التبشير) يلجأ في بعض الحالات حتى إلى تفجير القطارات والعمارات لإقناع
المسيحيين على الدخول في الإسلام.
لسنا إذن أمام ظاهرة التنصير التي لم نعثر لها على أثر، بل أمام ظاهرة التغويل (من
الغول) والتهويل من التنصير، وهو ما سميته "النصرنفوبيا"، أي الخوف الوهمي الغير
المبرر من التنصير. وهو بالفعل خوف وهمي وغير مبرر لأن هذا التنصير خيالي وغير
موجود في الواقع. إنه مجرد وسواس وفوبيا. فالظاهرة التي تستحق إذن الدراسة والتحليل
ليست ظاهرة التنصير التي لا وجود لها، بل ظاهرة "النصرنفوبيا"، أي هذا الوسواس
والخوف الغير المبرر من تنصير متخيل للمغاربة.
ولفهم هذه الظاهرة ـ النصرنفوبيا ـ ينبغي الانطلاق من الأسئلة التي تطرحها هذه
الظاهرة:
لماذا إذن انتشرت النصرنفوبيا في السنين الأخيرة بالمغرب؟ لماذا كثر الحديث عن
حركات تبشيرية تستهدف تنصير المغاربة والجزائريين دون أن يكون لذلك أي أساس في
الواقع؟ لماذا لم تظهر بالدول العربية حركات تبشيرية كالتي يعرفها المغرب والجزائر،
مع أن جزء كبيرا من العرب هم مسيحيون أصلا، الشيء الذي كان سيسهل ويشجع انتشار
التبشير بهذه البلدان أكثر من المغرب والجزائر؟ ولماذا حركات تبشيرية مسيحية تستهدف
مسلمي المغرب والجزائر دون باقي المسلمين في العالم؟
هذا السؤال الأخير هو الذي سيقودنا إلى فهم أسباب انتشار النزعة النصرانفوبية
بالمغرب والجزائر.
إذا كان المغرب والجزائر هما البلدان الإسلاميان اللذان يتعرضان لغزو تبشيري أكثر
من البلدان العربية والإسلامية الأخرى، فلأنهما ينفردان بشيء يميزهما عن البلدان
العربية والإسلامية الأخرى، وهذا الشيء هو ما يجذب الحركات التبشيرية إليهما. ما هو
هذا الشيء الذي يغري الحركات التنصيرية بالمغرب والجزائر؟ إنه طبعا الأمازيغية.
ولماذا الأمازيغية؟
الأمازيغية تبرر سهولة انتشار النصرنفوبيا لأن هناك استعدادا مسبقا لتصديق ما يشاع
عن تكالب وتهافت الحركات التبشيرية بالمغرب والجزائر، هذا الاستعداد الذي رسخته
"الحركة الوطنية" كلاشعور جماعي يتمظهر في العداء للأمازيغية والنفور منها
لارتباطها في الأذهان بـ"الظهير البربري" الذي استعملها لتنصير الأمازيغيين
والتفرقة بينهم وبين العرب. وهكذا يكون الخوف والتحذير من التنصير بالمغرب والجزائر
ليس سوى امتداد، على مستوى اللاشعور الجماعي العروبي، "للظهير البربري" الذي هو
أسطورة خلقتها "الحركة الوطنية" للتنفير من الأمازيغية ورفضها وإقصائها وتغويلها
كمصدر للتنصير والتفرقة. فالنصرنفوبيا إذن أسطورة تشكل استمرارا وإحياء لأسطورة
"الظهير البربري". وكما أن المستهدف من أسطورة "الظهير البربري" ليس هو الاستعمار،
بل الأمازيغية التي استعملها ـ كما تزعم الأسطورة ـ هذا الاستعمار لنشر النصرانية
بالمغرب وتحويل الأمازيغيين عن الإسلام، فكذلك المستهدف من ترويج الأسطورة الجديدة
للنصرنوفوبيا هي الأمازيغية التي تُستحضر لاشعوريا كسبب ومصدر للتنصير كلما أثيرت
مسألة التنصير بالمغرب والحزائر. إن النصرنوفوبيا جاءت إذن لتذكّر بدور الأمازيغية
في تنصير المغاربة، وبالتالي فهي تجدد المعاداة للأمازيغية بربطها بالتنصير كما
تقول أسطورة "الظهير البربري". فالنصرنفوبيا ليست إذن إلا الوجه الآخر
للأمازيغوفوبيا. إنها إحياء "للظهير البربري"، أي إحياء ـ وهل سبق أن مات؟ ـ للعداء
للأمازيغية والتنفير منها.
وكما أن أسطورة "الظهير البربري" وجدت مؤيدين لها بالمشرق العربي هبوا لمناصرة
"أشقائهم" العرب المغاربة، وعملوا على نشر أكاذيب وأراجيف عن الأمازيغيين مثل القول
إنهم اعتنقوا المسيحية وارتدوا عن الإسلام بفعل "الظهير البربري"، كذلك تكرر اليوم
بعض المنابر والفضائيات العربية نفس الأكاذيب والأراجيف حول تنصير الأمازيغيين مثل
الملف الذي نشرته قناة "العربية" على موقعها الإنترنيتي بعنوان "أمازيغيون يعتنقون
المسيحية ويتمنون خروج العرب والإسلام من المغرب"، وكله افتراءات وبهتان وتهويل
وتغويل من مخاطر الأمازيغية والأمازيغيين على الإسلام بشمال إفريقيا، كما فتحت بنفس
الملف منتدى للحوار أشبع المشاركون فيه الأمازيغيين سبا وقذفا ولعنا بناء على
معلومات الملف المتعلقة باعتناق مجموعة من الأمازيغيين للمسيحية وعداؤهم للعربية
والإسلام. إنه "العود الدائم" لأسطورة "الظهير البربري" بأهدافها ومضامينها
الأمازيغوفبية المحرضة على محاربة الأمازيغية ورفضها.
إن هذه العودة أإلى أسطورة "الظهير البربري" من خلال التهويل من مخاطر التنصير، تجد
سببها في عودة المغاربة والجزائريين إلى هويتهم الأمازيغية وما يرتبط بهذه العودة
من نهضة أمازيغية يترجمها ظهور وعي أمازيغي ومطالب أمازيغية ترفعها جمعيات أمازيغية
تشكل ما يعرف بالحركة الأمازيغية، تدافع عن أمازيغية شمال إفريقيا وترفض التعريب
وتنادي بالقطع مع الانتماء العربي المفروض على الأمازيغيين، وتدعو إلى إعادة كتابة
تاريخ شمال إفريقيا وتصحيحه. هذه النهضة الأمازيغية، وهذه المطالب الأمازيغية، وهذا
الوعي الأمازيغي، وهذه الحركة الأمازيغية، وهذا الرفض للتعريب وللارتباط بالعروبة..
هو ما يؤوله العروبيون على أنه نوع من التنصير يهدد بـ"ردة" الأمازيغيين عن
الإسلام، مع أن الصحيح أنه يهدد بالردة عن عروبة المغرب "العربي". فالغاية من
أسطورة التنصير بالمغرب والجزائر ـ كما كانت الغاية من "الظهير البربري" ـ ليست هي
الغيرة على الإسلام الذي لم يسبق لأي أمازيغي أن غيره بدين آخر، بل الغيرة على
العروبة التي أصبحت مهددة بالرحيل ـ كهوية وانتماء وليس كعرق ـ من بلاد تامازغا.
فكما أن أسطورة "الظهير البربري" وجدت في أكذوبة تنصير الأمازيغيين الوسيلة الأنجع
للقضاء النهائي على الأمازيغية، فكذلك أسطورة تنصير المغاربة هي الوسيلة الأنجع
لمحاربة الأمازيغية من خلال التذكير اللاشعوري بدورها في تنصير المغاربة كما روجت
ذلك أسطورة "الظهير البربري". وبالتالي فإن محاربة التنصير بشمال إفريقيا تبدأ من
محاربة الأمازيغية. وهذا هو الهدف من كل ما ينشر من إشاعات وأكاذيب وخرافات حول
حركات التنصير بالمغرب والجزائر. وهذا ما يكشف أن النصرنفوبيا ليست إلا الوجه الآخر
للأمازيغوفيوبيا.
|