| |
التجريد
كخلاص وهروب الأمازيغ من التجريد كخلاص
بقلم: إبراهيم عينأني (أسيف ن دادس،
ورزازات)
أن تاريخ"تمازغا"، كما اعتادت بعض الدراسات
الإثنوغرافية الاستعمارية أن تصفه، ليس الا تاريخ الهيئات الخارجية ابتداء من
الفنيقيين ووصولا إلى الأوربيين. لكن ما يثير الأنتباه في هذه الأطروحات
الأنثربولوجية هو اعتبار هذه الهيمنات بمثابة المرجعية الوحيدة التي تركت لنا تاريخ
هذا الشعب المسكوت عنه حين اكتفت بالحديث عن طرق وظروف هيمنتها وتجاهلت الذاكرة
الشعبية واللاشعور الجماعي الأمازيغيين. فعوض ترجمة الثقافة الشفاهية لهذا الشعب
المغلوب على أمره وتدوين ردود فعله اتجاه هذه الثقافات المفروضة عليه، اكتفت هذه
الدراسات بالحكم على أن الأمازيغ يتقبلون وعن طريق السلم كل حضارة آتية من المشرق.
أن الرجوع إلى تلك الحكايات الأمازيغية التي طالما تجاهلها المهيمن سيبين من جهة أن
الأمازيغ لم يكونوا شعبا متوحشا أو مجتمعا "باردا بدون تاريخ"، كما يحلو للبعض أن
يقوله، وسيبين أن هذا "التفكير البدائي" الذي يدخل في بنية المجتمع الأمازيغي هو في
الحقيقة مجموعة من المقاطع الفكرية لخلق شيء جديد. فالبنى الفوقية للأمازيغ، من
أساطير وحكايات وطقوس، تشكل نظاما حركيا وجسديا أو لغويا للتعبير عن شيء مفقود
وغائب داخل البنى الوافدة على الرغم مما تدعيه من تفكير علمي ـ هندسيي. فاستمرار
هذا التفكير "البدائي" عند الأمازيغ إشارة واضحة لاستحالة وفشل الفكر الوافد في
تأكيد وتطبيق تلك"الكليانية" أو"نظرية الكل" التي ينسبها إلى نفسه. فإذا كان
العالم، كما يشير إليه المفكر الأنثربولوجي"لفي سترأوس"، يضم اختلافات فنية لا يمكن
تقليصها إلى مفهوم الكليانية، بدليل أنه لا توجد لغة نظرية أو نظراتية كاملة تحيط
بهذا العالم المحدود والغني بالخصوصية، فإن استمرار الروايات الكبرى للأمازيغ قد
عمل على تشطيب كليانية الميتافيزيقيا العربية لأن هذه الاخيرة ميدان محدود لمجموعة
من الاستبدالات الغير النهائية في تاريخ شمال إفريقيا مند الفراعنة. فاللعب
بالاستبدالات وإرساء خرافات وأساطير محل أخرى هو ما أدى"بدريدا"derrida إلى hنتقاد
hطروحة لفي سترأوس حول مفهوم الكليhنية حين قال”لكن الكليانية يمكن تعريفها بطريقة
أخرى: ليس من زأوية مفهوم النهائية والمحدودية ـ كإقصاء لما هو إمبريقي؛ لكن من
زأوية مفهوم اللهو”. إن الإشهاد على هروب الأمازيغ من التجريد العربي الوافد عليهم
لا يتجسد فقط في الهروب الواقعي إلى لجبال والكهوف كمأمن من العنف والاضطهاد؛ أو
بسبب محدودية الكائن الأمازيغي في عدم استيعابه لذلك الكم الهائل من القواعد لتلك
النظرية الكليانية؛ وإنما بسبب طبيعة اللغة والفكر العربيين وفشلهما في تغطية
تمازغا وثقافتها الشفاهية، وفشل الفكر المسجدي في توفير كل المراكز المهمة من تقدم
وازدهار وديمقراطية في نواة التجارب اليومية للكائن الأمازيغي. وهذا ما أدى إلى
إقصاء الكليانية وشرعن الهروب من التجريد كخلاص من الخلاص المزعوم.
إن الترحال والتيه في الجبال كظاهرة قديمة عند الأمازيغ لا يجب التفكير فيها خارج
اللسان وصوتية الحكايات الشفاهية؛ فإذا تعذر على الأمازيغ اختزال وترجمة ويلات
ومصائب هذا الترحال والتيه بطريقة غير طريقة الصوت؛ فهذا يعني أن الفكر الوافد لا
يؤمن باختلاف في الأبجديات، ويعني أيضا أن اللسان كصوت لن ينفصل عن الروابط
الاجتماعية والإثنية. وهذا ما توضحه هذه الحكاية التي ترددها الأمهات لأطفالهن كلما
طرح عليهن سؤال حول تاريخ وأصل الأمازيغ في المنطقة الجنوبية الشرقية للمغرب. ولقد
سبق أن نشرت في عدد سابق لتأويزا تحليلا حولها تحت عنوان: زيلو – حكاية اإرهاب قبل
الإرهاب”. تقول الحكاية:
- lhdijt alahdijt
- iqsn awurdu.
- talj aflla nudrar.
- artks tarubya.
- manzak abab ntghanimt
- istgid zilu.
إن اختزال تاريخ مليء بالترحال والمعاناة من دماء وصراعات إلى كلمة "زيلو" ككلمة
نادرة في المنطوق الأمازيغي، وكحجرة مميزة بلونها وشكلها وسط مياه النهر، لدليل
واضح على ارتباط اللاشعور الأمازيغي بنوع من الأصولية داخل الهجر؛ كسفر من أجل
الاكتشاف وحفر الذاكرة. إنه شغف طفولي للعودة إلى الوسط الداخلي بعدما وجد نفسه في
الوسط الخارجي على الهامش. فإذا كانت ظاهرة الترحال والتيه عند الأمازيغ معروفة مند
عهد الرومان، فلقد ازدادت حدتها عند الفتوحات الإسلامية ولها علاقة تواطؤ وتناحر مع
المؤسسات المهيمنة كفضاء للشك والمغامرة وكانفلات من شفرات مؤسسة المسجد كفضاء
للرصد والمراقبة والضبط. فالترحال هنا يحرض الهامش ضد المؤسسة وأعرافها. إنه تمرد
ينشر البلبلة ـ "البربرة" ـ أو الهرهرة (نسبة إلى"اهرارو"كنص تاريخي. أنظر العدد
السابق من تأويزا). إنه عبور نحو تخوم الوجود ومغادرة المعهود للاعلان عن الانهيار،
فأصبحت الكلمة أسطورة، وتجددت اللغة بدون توقف خارج القواعد النحوية للاهوت الوافد؛
فأصبح الهامش خطرا على سير المؤسسة كتدمير لاحق. فإذا كانت اللغة، كما يقول
البنيويون، هي الشرح المطلق لكل شيء؛ فهذا يعني أن المحكايات الأمازيغية عملت طول
تاريخها على اختزال كل ما هو وافد عليها إلى لغة وطقوس أو سلوكات لا توجد في الداخل
و لا في الخارج، لكنها تحيط وتحدد المعاني الوافدة عليها، مما يعني أن النصوص
الميتافيزيقية المفروضة لا تملك التحكم الذاتي الذي تظن أنها تملكه.
كان من الطبيعي أن لا يحدث أي شيء رهيب عندما تعايش الأمازيغ مع وثنيتهم، لكن من
الغريب أن تحدث الطامة الكبرى عندما اعتنقوا ديانات حاربت تلك الوثنية. فالعيش في
الأدغال والكهوف هي أكبر مصيبة يلقيها الله على عباده. فالمفارقة الكبرى في تاريخ
الأمازيغ هي الانتقال من"المطبوخ" إلى"النيىء" باستعمال تعابير لفي سترأوس. فهروبهم
من القدسي كخلاص ومن خطاب سائد كخلاص يؤكد الشر المنبثق من التجريد ويزكي فكرة "كانط"
القائلة بأن "المقدس يمثل الطابع التاريخي والرمزي للشر الجذري". فلو كانت كل
المقدسات التي عرفها الكائن الأمازيغي تتجسد من الأخلاق وفي المعاملات، لما بقي
الأمازيغ في أوطأنهم الأصلية، ولما دخلوا تجربة "الخلاص من الخلاص المزعوم"، وهي
نفس الإشكالية التي طرحها "دريدا" في ندوة حول "عودة الاديان" حينما قال "هل يتوجب
علينا البحث عن خلاصنا بالفرار إلى التجريد أم الفرار منه". أين هو الخلاص؟. إن
تعريفه للدين"كإعلان عن السلم المستأنف للحرب بطرق أخرى"، ينطبق على تجربة الأمازيغ
مع الديانات السمأوية التي عرفتها تمازغا مند القدم. فإذا كان وجود اليهود مثلا
مرتبطا بالتيه في الصحراء حينما قال الرب لإبراهيم "ارحل من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك
إلى الأرض التي أريك"؛ فإن قدر الأمازيغ في غياب اله غيور عليهم يجعلهم غرباء ليس
فقط عن أرض أجدادهم كما هو الحال عند اليهود، وإنما غرباء في أرض أجدادهم. وهي
الصورة التي تتكلم عليها كل من حكاية "زيلو" و"اهرارو"، ولو بشكل مجازي بغية تفسير
سلبية التجريد الوافد كخلاص وهروب الأمازيغ إلى الجبال كخلاص منه.
وما حدث مع الديانات الفرعونية أو الرومانية يتكرر مع الديانة الإسلامية إلى حد
اعتبار بعض الطقوس أو العادات الأمازيغية هروبا مختزلا على شكل عودة إلى ما هو
روماني، فنيقي أو فرعوني (ولنا عودة إلى هذا الموضوع لاحقا). وما يهمنا في مفهوم
التكرارية استبدال ‘بني‘ بـ‘بني‘ أخرى قديمة أو جديدة بسبب وجود فراغ أو شيء مفقود
في نظام علامات الميتافيزيقية العربية. وهذا يعني أن هناك دائما زيادة. وفكرة
الزيادة تطرح عدة تساؤلات. ويمكن التفكير في بعض الطقوس الأمازيغية كزيادة أو كفائض
يدعم الميتافيزيقا العربية، فائض مضاف إلى الكل وخارج عنه، لكن إذا كان الكل
المزعوم كاملا فلا شيء يمكن أن يضاف إليه. إذا كانت الإضافة شيئا ـ خرافة ـ حكاية ـ
أسطورة"، وليس لاشيئا". إذن فالإضافة تبين نقصا أو إعاقة الكل ـ الكامل لأنه بدون
شك سيفتقر إلى شيء بداخله (وهذا ما سماه دريدا بمنطق الزيادة). وفي إطار الحديث عن
التكرارية يمكن أن نؤكد أن التاريخ ليس مسارا واضحا من الغزوات ومن خلاص البشر، بل
هو ركام هائل من الأنقاض كمجال لما هو عابر ولا معنى له حيث تصبح وظيفة الكون كما
يقول "برغسون" آلة لصنع الآلهة". وبما أن المكانة الحقيقية للقيم في نظر "نيتشه"
توجد داخل ذهن الإنسأن الذي خلقها من أجل المنفعة الحيوية، فإن التاريخ يتكرر سلبا
كشكل اختلافي لذلك المسار الجذري للقلب البشري. فالكائن الأمازيغي، وباكتسابه لقيم
طبيعية وواقعية، لم ولن يريد شيئا جديدا ولا صفة جديدة لأنه عادة ما يكون الوافد
عليه هو خالق القيم. وكما قال زرادوشت"إن الناس قد أعطوا أنفسهم كل خيرهم وشرهم،
والحق أنهم لم يتلقوه... ولم يهبط إليهم من السماء. "ويمكن أن تناول هذه المعضلة في
إطار الحديث عن تاريخ العرب في شمال إفريقيا: فلقد وحدتهم قيمهم الدينية لتجاوز
البداوة وتكوين قوة غزوا بها كل البلدان المجاورة. وبعد تشتيتها عادوا إلى بدواتهم
وصراعاتهم القبلية. وهذه المرة ليس في بلدانهم الأصلية وإنما في بلدان الأمم التي
شتتوها في الجبال والأدغال. حاليا كلما تقدم العرب في بداوتهم ـ الكبرياء ـ الرئاسة
ـ الافتخار بالنسب ـ وكلما كثرت الحدود الوهمية واستمر تشتت الأمازيغ في بلدانهم.
وهذا هو تاريخ الترحال والبداوة
فمند أن تأقلم الكائن الأمازيغي مع الفكر العربي الوافد عليه كلعبة للحفاظ على
بقائه ـ وليس من أجل الزيادة في المعارف كما هو الحال بالنسبة للهجرة إلى أوربا ـ
فإنه لم يعمل أي شيء الا تفكيك ملايين من البنيات واختزال عناصرها وتقليصها بشكل
يستحيل معه إعادة إدماجها. إن كل أنشطة هذا الفكر الوافد عندما نفحصه عن قرب نجده
نوعا من"سكون آلي منتج" حيث إن قوة هذه الآلة الوافدة على تمازغا وسرعتها وبدون
نهاية تفوق كمية التناغم والتنظيم الموجود داخلها. وبشكل عام فهذه الحضارة الوافدة
آلة معقدة غريبة تؤدي إلى شيء منظم في اتجاه وضعية أو حالة من السكون أو الشلل ـ
شلل الأمازيغ في الجبال، فهي كقوة داخلية تعرقل نشاط الهوامش، تنمو لكي تكون يوما
نهائية. فأصحابها ينظرون إليها كأمل في بقاء العنصر العربي، لكن وظيفتها الحقيقية
هي ما سماه الفيزيائيون "بالأنتروبي""entropy”، وتعني قياس الفرق بين حرارة الآلة
المنتجة للحرارة وبين حرارة الشيء الذي يستهلك أو يستقبل تلك الحرارة. فحالة الشلل
واللاحركة – التخلف بشكل عام ستصل إليه تمازغا عندما تنتشر فيها حرارة الآلة
الوافدة كلية (ولحسن الحظ فمعظمهم في المناطق الباردة). فلحد الأن ولسوء الحظ،
فجميع المؤسسات والسلوكات التي حاول الكائن الأمازيغي أن يتعلمها أو يكتسبها تكون
آنية ومرحلية، فدورها كآلة متقنة يجعل من نشاطها التسريع بالانحطاط الذاتي. فعوض
الحديث عن علم “الأنثربلوجيا”entropology كدراسة تصف صيرورة وعدم الاندماج أو
الوحدة، وبتعبير آخر دراسة صيرورة وأسباب تشتت الأمازيغ. فظهور البداوة من جديد
وانعدام التواصل بين القوى السياسية داخل تمازغا، وبالتالي بين الأمازيغ أنفسهم هو
ما أدى إلى خلق مجتمعات أمازيغية “باردة” بدون تاريخ”. وهذا هو التاريخ المشؤوم
الذي كانت تشير إليه فلسفة “تشوبنهاور” حينما قال: “ابتدأ العالم بدون الجنس البشري
وسينتهي بدونه”. ونفس الفكرة يدعمها لفي ستروس حين اعتبر أن: “العالم يتجه وبسرعة
نحو خرابه الذاتي الإيكولوجي.”
عقول متوحشة لكن أصولية
إن الحديث عن فلسفة التاريخ المشؤوم لشوبنهاور سيجرنا إلى تناول مفهوم اللاشعور
الجماعي كقيمة مشتركة بين”ليبيدية فرويد” والنماذج الأصلية “لكارل يونج”، مرورا
بالصور الهائجة لبنيوية لفي ستراوس ووصولا إلى مفهوم الأصالة عند”هيدكر”. إن
استمرار نشاط الذاكرة الشعبية أو اللاشعور الأمازيغي على هامش فلسفة مركزية تدعى:
“فلسفة الأنوار والكليانية” ما هو إلا عودة إلى الأصولية الأمازيغية. لقد شاءت
الأقدار أن تصطدم الثقافة العربية بالحالة الطبيعية والبشرية للكائن الأمازيغي حيث
أصبحت تتحكم تعسفيا في طاقة حياته، فحرمته من المتعة واللذة باسم قيم عليا، فسخرت
الجسم والجنس الأمازيغيين خدمة لأهدافها وبالتالي تحولت الثقافة من تعبير عن
الإنسأن إلى أداة لقمعه وكبت غرائزه. وبإيجاز، فعندما تكون الثقافة ذات طابع أخلاقي
صارم ومضاد للحياة أو للطبيعة، فإن نتائجها تحدث التعصب والأمراض النفسية على نطاق
واسع.
فالبنية الأنطلوجية للكائن الأمازيغي تشبه إلى حد ما الخاصية الزمنية للوجود لدى
“هيدغر” في كتابه “الكائن والزمان”. فبالإضافة إلى إمكانية الوجود كظاهرة للمستقبل
وانفتاحه على الوجود كجميع الكائنات، هناك سمة القذف، فوجوده في الجبال والكهوف
وأنعزاليته جعلته غير قادر على إقامة علاقات مع الأشياء والأشخاص خارج ذاته، إنه
نوع من الاستلاب ممزوج بذلك المفهوم البطولي في اتخاد القرار في وجه عالم غامض
ومنعدم، حتى أصبح مع مرور الوقت كائنا غير تاريخي. ثم هناك سمة السقوط حيث وجد
الكائن نفسه مسبقا في بيئة روحية، مادية وتاريخية مشروطة حيث فضاء الامكانيات
محدودة. إنه السقوط بعد الترحال ليجد نفسه موجودا وسط موجودات هي في نفس الوقت
موجودة أو غير موجودة. وكثيرا ما نسمع داخل اساطير “ترير” قصة المرأة التي تضع ماء
وحجارة داخل قدر وتشعل له النار لتوهم أطفالها بأنها تطبخ لهم طعاما فيسكتوا.
ومن خلال المثاقفة اضطر الكائن الأمازيغي إلى الانفصال عن طبيعته الأصلية كمبدأ
للنمو والقوة، وفقد أو نسي المعنى الحقيقي لوجوده. فباستعماله للغة مفروضة عليه لا
يفهمها ـ العربية ـ فإنه لم يعد يعرف ماذا يعنيه لأن تلك اللغة الوافدة تؤجل المعنى
الحقيقي لوجوده كما هو موجود. وعادة ما يتم تشييء تلك التجربة على شكل نمادج أصلية
داخل اللاشعور الجماعي تتردد داخل الأساطير. قد نجد هذه الصور من حكايات “الغول” أو
“ترير” حينما يتقمص الغريب شخصية الأب أو الأم الأمازيغيين من أجل الاستيلاء على
أطفالهم وممتلكاتهم. فقوة وأهمية هذه التمثيلات الجماعية تشكل وترشد تجارب الكائن
الأمازيغي في الجبال والكهوف. فهذه النمادج الأصلية كما يعرفها “كارل يونج” نظام من
الرموز تظهر في الأساطير لتشخص العقد الموجودة داخل اللاشعور الجماعي.
وباطلالة سريعة على كل االأساطير وكل الأشعار الوجدانية الأمازيغية، سنجد أن هذه
“الروايات الكبرى” تشترك ليس فقط في مفهوم الهروب أو الفرار، بل أيضا في مفهوم
اقتراب الموت بعد الهروب من الموت. وهذا موضوع سماه “هيدغر” “الكائن في اتجاه الموت”
ويشبه إلى حد ما “تأملات الموت” عند s.augustine في الفكر الذيني. وهذا ما تشير
إليه أطروحة “هيدغر” حول الوجود. إمما عندما نعيش الحياة في أقصاها أو نقابل
نهايتنا، آنذاك نستطيع أن نضع جانبا حالة حياتنا اليومية، لنصل إلى علاقة حميمية مع
ذواتنا.
إن الكائن الأمازيغي عندما يعي أنه يوجد على تخوم أو هوامش الموت يستجيب لنداء “عيش
الحياة”، ويسترجع أصالته. ولتحقيق الأصالة كما يقول “هيدغر”، يجب اتخاذ القرار
للاستجابة لنداء القدر. وبما أن قدر الكائن الأمازيغي محدد من طرف قوى خارج نطاقه،
فبعيدا أن يكون شيئا يخلقه أو يغيره، فإن قدره أو مصيره يوجد قبل وجوده في الجبال
والكهوف، إذن فاتخاد القرار والهروب من الأخلاق السائدة هو ما حدد مصيره. لكن تحقيق
الأصالة هنا يعني عكس تطبيق الحرية، إنها استجابته لمصيره فكرة معكوسة للأطروحة
التي تجعل لسنيا من كلمة “أمازيغي”ذلك الكائن الحر الذي يهرب إلى الجبال لأنه لا
يقبل من يملي عليه القوانين. بالتأكيد فهروبه من الميتافيزيقا العربية، والتي قامت
بتزوير وتأجيل التجربة الأولية لوجوده، كان مشروعا لاسترجاع المعنى الأصلي لوجوده.
وكما يقول “هيدغر” يمكن تحقيق الوجود... عن طريق صدمات المصير فقط لأنه في أعماق
الوجود يوجد المصير... الوجود قدري داخل العزم... فالكائن يكون متفتحا على وجوده في
العالم من أجل... الظروف السعيدة التي تأتي في طريقه، وكذلك من أجل شر الحوادث.
فالمصير (أو القدر) لا ينبثق من تصادم الأحداث والظروف، حتى بالنسبة لمن هو غير
عازم ، يمكن قيادته أكثر من الذي اختار. ومع ذلك لا يستطيع أن يبقى بدون مصير”. إذن
فالمشكلة الموجودة ليست هي حريتنا في خلق المصير أو تغييره، بل هي هل بامكاننا أن
نتقبله وننفتح عليه أو نخضع له. فالمصير له مضمون سياسي ويحدد عن طريق الاعتراف
الرسمي بمجموعة من الناس مرتبطين بعنصر الجنس والإرث واللغة. فعندما يربط الكائن
نفسه بإرثه وينادي إلى”الانتماء إلى..” وبداخله ذلك الصراع من أجل الأصالة، فإنه
ينتج الاختلاف بين ما هو أصالتي وما له مصير وبين من هو لا أصالتي، وذلك بتأجيل
عالم لكائن اللاأصيل. وبالكشف عن الفاني من هذا التاريخ وتسليط الضوء على هذه
الميتافيزيقا الخالدة وتحطيم أصنامها لأن مقولاتها اللغوية لا تصلح لهذا الزمن،
سيتمكن الكائن الأمازيغي من تحقيق التجربة الأصلية للوجود عندما كان الحضور حاضرا.
وهذه التجربة لها علاقة بمفهوم المصير واللاشعور الجماعي كما يعرفها “كارل يونج”
حين أشار إلى أن: “سيكولوجيتنا الشخصية ما هي إلا غلافا رقيقا... فالعامل القوي
الذي يغير حياتنا بكاملها ويغير سطح عالمنا المعروف، والذي يكون التاريخ هو
السيكولوجيا الجماعية. فهذه الأخيرة تعمل تماشيا مع قوانين مختلفة كليا عن قوانين
وعينا. فالنمادج الأصلية هي القوى التي تقرر أكثر... وليس منطقنا الشخصي ولا
تفكيرنا التطبيقي... بالتأكيد فالصور النمودجية”archetypal images” هي التي تحدد
مصير الإنسان.”فقيمة الهروب والرجوع إلى الأصل ـ كنمودج أصلي تتكرر في أسطورة”
تتبيرت توراغت” – “حمو أنامير” في الرواية السوسية وتتمثل في هروب الرجل الأمازيغي
ببنته الجميلة مخافة أن يأخذها منه السلطان. فهذا الكائن الأصالتي وعى أن هناك
ظروفا خطيرة وربط نفسه بإرثه عن طريق الهروب. فواجبه هو شق الطريق إلى البدايات لكي
تكون النهاية الميتة معوضة ببداية جديدة. فانتهاكه لروابط الدم ـ التخلي عن زوجته
وارتكابه لجريمة زنى المحارم ـ محاولته لاغتصاب ابنته، والكل يشير إلى رغبة الكائن
الأمازيغي في تحقيق أخلاق أو إيطوس مفقودة وليس رغبة في الرجوع إلى ما هو طبيعي
حيواني. إن محاولة الاغتصاب هاته ـ كنمودج أصلي تكشف عن ذلك المكبوت أو ذلك
اللاشعور الجماعي، والذي يؤرخ لفترة وفود الأخلاق العربية إلى شمال إفريقيا، ويفضح
عن تلك المغالطة التاريحية حول مفاهيم الأقارب والأخوة والمحبة، ويؤكد أن ما تدعيه
الثقافة الاسلامية من إخاء وقرابة بعيد عن الواقع. إن الرجوع إلى أمثال من هذه
النمادج الأصلية هي الطريقة الوحيدة لتحقيق الأصالة الأمازيغية وتجاوز عالم الكائن
اللاأصالتي المبني على عقل منطقي وفلسفة أخلاقية تؤرخ للنسيان والقيم المطلقة. إن
الكائن الأمازيغي لا يحتاج إلى زيادة في هذا المنطق وبشكله اللاهوتي، لكن يحتاج
أكثر إلى الأنفتاح تجاه الوجود اللامنطقي واللاعقلي، هذا الوجود الأقرب الينا. وبما
أن العقل ومبادئه مبنية على التزييف،”فمجال اللامنطقي يقول “نيتشه” كان في الأصل
أوسع بكثير من مجال المنطقي. على أن الكائنات العديدة التي كانت تفكر بطريقة غير
تلك التي نفكر نحن بها، قد هلكت، وربما كانت هذه الكائنات أصدق منا... فالميل
الغالب إلى أن نتعامل مع....(التجريد) على أنه مماثل وهو ميل لا منطقي ـ إذ لا يوجد
شيء مماثل في ذاته ـ هذا الميل هو الذي كون كل أسس المنطق منذ البداية....”.
|