| |
رصد لمادة التراث الشعبي في كتب التراجم:
«كتاب التشوف إلى رجال التصوف
وأخبار أبي العباس السبتي» أنموذجا.(1/2)
بقلم: اليماني قسوح جمال أبرنوص (جامعة
محمد الأول –وجدة-)
تقديم:
يستند كل مبحث في التاريخ الاجتماعي أو في التراث إلى عدد من المصادر والمراجع
لاستخلاص المادة وتأصيلها ومقارنتها في إطار ما يقتضيه موضوع ومنهج البحث والمقاربة.
وفي هذا السياق، تطرح بعض الأسئلة من قبيل: ما قيمة وأهمية كتب التراجم كمصدر
للباحث والدارس في التاريخ الاجتماعي بصفة عامة، وفي التراث الشعبي بصفة خاصة؟ وكيف
تحضر المادة التراثية داخل متن هذه الكتب؟ وكيف يمكن استغلالها واستثمارها؟ وما هي
بعض الكتب التي يمكن للباحث في التراث الشعبي بالغرب الإسلامي العودة إليها؟ وهل من
أنموذج من بين هذه الكتب يمكن من خلاله مقاربة مثل هذه القضايا المطروحة؟
سنحاول مقاربة هذه الأسئلة معتمدين التصميم الإجرائي التالي:
1-التعريف بكتب التراجم، ظهورها وموضوعها.
2-أهميتها وقيمتها المعرفية.
3-قراءة تراثية في أنموذج «التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي».
4-خلاصة.
5-بيبليوغرافيا لبعض كتب التراجم.
I- التعريف بكتب التراجم، ظهورها وموضوعها:
هي كتب شبه متخصصة في التعريف بطبقة من الأعلام، في مجال من المجالات الدينية
والعلمية والأدبية(1)... ارتبط ظهورها بتدوين علم الحديث، بدليل أن كتب الطبقات
الأولى ألفت في سيرة النبي (ص) وصحبه والتابعين خلال القرن 3ه/6م... واتسع هذا الفن
باتساع الإمبراطورية الإسلامية، وتعدد مناحي الحضارة الإسلامية كفنون وعلوم
واتجاهات فكرية وعقائدية... فألفت كتب الطبقات في الفقه والحديث والطب والأدب
وغيرها.(2)
عرف هذا النوع من التحليل الأدبي-التاريخي(3) ازدهارا خاصا بالأندلس منذ أن وضع
أسسه العامة ابن الفرضي مؤلف «تاريخ علماء الأندلس» وهو الذي صار على منواله أكثر
من ذيل عليه من أصحاب التكملات والصلات المغربية-الأندلسية(4). ويعتبر كتاب
المستفاد(5) وكتاب صلحاء ركراكة(6) من المصادر المغربية الأولى في مجال التراجم
والمناقب.
هذا الإنتاج البيوغرافي يعتبر أداة أساسية لضبط الشخص المترجم له، ومعرفة شخصيته
وإنتاجه الفكري ونشاطاته المختلفة... وهذا التوظيف «القاموسي» يتمشى وهدف هذا
الإنتاج الأدبي-التاريخي(7). كما أن الترجمة تقصد إخراج المترجم له «من دائرة
المجهول إلى المعلوم كسمات مشتركة عامة بين كتاب التراجم»(8).
أما بخصوص المنهجية التي تخضع لها كتب التراجم، فقد أكد الباحث محمد الشريف(9) على
«أنه وبالرغم من تباين الأصناف الكتابية للترجمة واختلاف نظام تقديمها بين مؤلف
وآخر، فإنها تحمل في تركيبها مجموعة من الثوابت بقيت قائمة على طول مختلف الفترات
والأمكنة. أما المتغيرات الموجودة في الترجمة فإنها غالبا ما ترتبط بالأهمية
المعطاة لهذه النقطة أو لهذا الجانب (مثل الإطناب في لائحة الشيوخ والاستطرادات على
هامش الترجمة أو الاستشهادات إلخ)»
وفي نفس السياق، أورد الباحث نموذج الترجمة عند ابن الفرضي(10) -والذي سينسج على
منواله كتاب التراجم اللاحقون- والتي تخضع للشكل التالي:
الاسم- النسبة- المذهب- مكان الازدياد (من أهل...)- الكنية- اللقب- الشيوخ- المواد
العلمية- الأسفار والدراسات- المواد الدينية- والثقافية- النعوت والأوصاف- من ذكره-
تاريخ وفاته ومن ذكره.(11) ويضيف نفس الباحث أن الترتيب الأبجدي ما هو إلا تطويرا
لأسباب عملية، للتصنيف الأصلي حسب الطبقات. إذ أن الاهتمام بالرجال والسن قد تحكمت
فيه في الأصل محددات دينية «علمية» متعلقة بالثقة في الرواة وسلسلة الإسناد وصحة
الأحاديث إلخ(12).
II- أهمية وقيمة كتب التراجم:
1- ثراء معرفي متعدد المادة:
إن الخاصية الأساسية للمتن المعرفي الذي تزخر به كتب التراجم كونه يقبل أن يتناول
من زوايا وجوانب مختلفة، ولإيضاح ذلك نورد بعضا من الحقول المعرفية التي يمكنها
اعتماد هذا الصنف من المصادر:
- يحتاج الباحث في علم الأديان الموازنة بشكل عام، أو في ظاهرة التصوف الإسلامي على
وجه التخصيص الإطلاع على ما يرد ضمن هذه المصادر من معطيات ظاهرة صريحة أو متخفية
تحتاج إلى جهد قراءة أو تأويل. وتعتبر الكرامات والتي تزخر بها كتب التراجم معطى
خصبا للبحث والمقارنة(13).
- اللهجاتيون بدورهم والمشتغلون باللسانيات الدياكرونية (التعاقبية) عموما يجدون
ضمن هذه المصادر مستويات لغوية مرجعية هامة، وهو ما أشار إليه عبد الوهاب بن منصور
في تقديم تحقيقه لكتاب «جذوة الاقتباس» والذي يقول عنه إنه: «مشحون بعبارات وكلمات
هي – وإن كانت من العامي المحض أو العامي الفصيح- مفيدة جدا في معرفة تطور اللغة
واللهجات»(14).
يمكن أن يعثروا أيضا على مادة معجمية عظيمة الأهمية تتجلى في أسماء الأماكن:
الطوبونيميا والميكروطوبونيميا، وهي مادة تتضح قيمتها اللسانية بسبب ندرة النصوص
الأمازيغية القديمة المكتوبة*.
- اعتبارا للحضور اللافت للمعطى الاجتماعي ضمن هذه المصادر، يمكن لفروع سوسيولوجية
عديدة اعتماد كتب التراجم مصادر أساسية وكمثال تطبيقي يمكن الإشارة إلى الدراسة
السوسيولوجية لظاهرة «الزوايا» والأدوار الاجتماعية والسياسية التي اضطلعت بها طيلة
فترات طويلة من تاريخ المغرب.
إننا وإن اقتصرنا على تخصصات معرفية محدودة، فإن مناحي استغلال هذه المادة المصدرية
الثرة يتسع ليشمل حقولا ومجالات معرفية كثيرة، وفي هذا السياق نورد ما قاله عبد
الوهاب بن منصور في معرض حديثه عن كتاب «جذوة الاقتباس» لصاحبه ابن القاضي: «مرجع
مهم من مراجع التاريخ والأدب والاقتصاد والاجتماع للمغرب عموما ولفاس خصوصا، لا
يمكن أن يستغني عما ورد فيه من فوائد عالم أو أديب»(15).
2- مادة تاريخية فريدة:
يتفق كل الدارسين في مجال الدراسات التاريخية، مغاربة ومستشرقين على القيمة
التراثية والعلمية لكتب التراجم، باعتبارها رافدا محوريا – ليس الوحيد- له أهمية في
سبيل تحقيق معرفة أوضح وأشمل بتراثنا وتاريخنا الوطني...(16). فهي تتضمن معلومات
عدة تكون مادة خاما للمؤرخ والباحث، يتم توظيفها وتسخيرها للإحاطة بأحداث وتطورات
فترة من الفترات، سواء تعلق الأمر بالجانب الثقافي أو الاقتصادي أو الاجتماعي(17).
وهذه القيمة التاريخية الكبيرة لكتب التراجم لم تغرب عن بال البحثين المحدثين، فقد
اعتبرها «فرانز روزنتال» جزء من المؤلفات التاريخية، وهي بنظره أثبت صور التعبير
التاريخي(18).
وأبرز»ليفي بروفنصال» هذه الأهمية قائلا: «إن مضمونها يظهر لنا أكثر غنى وأكثر
حيوية وأقل تصلبا، وإن أردنا القول أقل «رسمية» من مضمون الإنتاجات الإستوغرافية
لهذه الفترة [ق 10م] والتي هي موجهة دائما تقريبا نحو السلطان وحاشيته، وعلى عكس
ذلك فإن الأدب المتعلق بالقضاة والقضاء يقبل الالتفات إلى الطبقات الدنيا في
المجتمع، وبالتالي يظهر لنا بعض مميزات واقعها ونفسيتها»(19).
إن الحضور المتميز (غير النمطي) للمعطى التاريخي ضمن هذه المصادر يبرره لاوعي
المؤلف بتهريبه مادة خبرية مفتقدة ضمن مصادر التاريخ المباشر. وهي مادة جعلت من هذه
المؤلفات البيوغرافية في السنوات الأخيرة مصادر أساسية يقصدها الباحثون في مختلف
فروع الدرس التاريخي خاصة المهتمون بالديموغرافية التاريخية(20)، والتاريخ
الاجتماعي(21)، والثقافي والديني.
لقد ألمحنا في اقتضاب شديد إلى القيمة العظيمة لكتب التراجم وفائدتها في إغناء
حصيلة العديد من التخصصات المعرفية، ولكي نبرز ما يرتبط بالشق التراثي ضمن هذه
المصادر، سنقوم بقراءة في كتاب «التشوف» لصاحبه «ابن الزيات».
ІІІ- رصد المادة التراثية في كتاب التشوف:
عنوان الكتاب: التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي.
مؤلفه: أبو يعقوب يوسف بن يحيى التادلي المعروف بابن الزيات (ت 627ه- 1220م)(22).
موضوعه: تراجم عدد من الصلحاء والمتصوفة، جلهم مغاربة عاشوا خلال القرنين 5 و 6 ه/
11و12 م.
حققه : الأستاذ أحمد التوفيق .
وهو من منشورات: كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة بحوث ودراسات رقم:
22 . الطبعة الثانية 1997.
اعتبر أحد الدارسين(23) كتاب التشوف من الكتابات المبكرة في التصوف الإقليمي... هذا
ولا شك جاء بتأثير كتابات مشابهة اهتمت بنفس الموضوع في مناطق وأقاليم إسلامية أخرى
سواء بالمشرق أو الأندلس. واعتبره الأستاذ أحمد التوفيق(24) من كتب التراث، يضم في
ثناياه مادة حافلة مغرية يكاد يهم باستثمارها غير واحد من هؤلاء «القراء الجدد» (يقصد
المهتمين بتاريخ المغرب عامة و بتاريخه الوسيط خاصة).
إضافة إلى ما يتضمنه الكتاب من أخبار الرجال الذين تنتهي إليهم معظم الأسانيد
الصوفية في المغرب الأقصى، يعثر الباحث في التاريخ الاجتماعي وبالذات في التراث
الشعبي على العديد من المعلومات والإشارات التي لا سبيل للاستغناء عنها. ولتوضيح
هذه النقطة أكثر سنقوم بجرد لعدد من المواضيع التراثية التي ترد بمتن هذا الكتاب في
سياقات غير مباشرة في الغالب الأعم.
الموضوع الأول: حول بعض الأطعمة والمأكولات وبعض العادات المصاحبة:
في إطار الترجمة رقم: 10 لأبي جبل يعلى، ورد أن هذا الرجل «لما قرب من فاس وقد
أصابه جوع شديد وأبصر الحصادين قد سقيت لهم ثردة الفول بالسمن...»(25)
كما جاء في الكتاب في إطار الحديث عن الفقيه أبي محمد عبد السلام التونسي نزيل
أغمات والمتوفى بتلمسان أنه «كان... يأكل الشعير الذي يحرث بيده، فإذا اشتهى اللحم
اصطاد السلاحف في البرية فأكل لحمها». وفي سياق آخر ذكر التادلي وهو يتحدث عن نفس
الرجل عندما قدم إليه مزدلي بن تلكان وهو أمير تلمسان، صنهاجي لمتوني أمير من أقارب
يوسف بن تاشفين للتبرك به والأكل من طعامه، «خبز شعير ولحم سلحفاة في قدر...»(26)
جاء في مكان آخر أن أبو يعزى يلنور (ق 6ه/ 12م) لما كان راعيا كان يحصل من أرباب
المواشي التي يرعاها على رغيفين في اليوم فقط وأنه كان يأكل رغيفا واحدا ويعطي
الآخر لرجل منقطع في مسجد لقراءة القرآن، ثم انقطع في المسجد رجل آخر فآثره على
نفسه بالرغيف الثاني وجعل يأكل من نبات الأرض، فلما رأى أنه يكفيه النبات عن
الطعام، قال: ما أصنع بالطعام ونبات الأرض يكفيني(27).
وحول بعض العادات ذات الصلة بالأكل والمأكولات جاء في التشوف «أن أبا عمران موسى
ابن إسحاق المعلم (ت 592/ 1195-96) ما مر قط بطعام في الأرض إلا رفعه»(28) وهي عادة
لازالت مستمرة حتى اليوم يؤكدها الاحترام الكبير الذي يكنه المغاربة للخبز والمتجلي
في التقاط فتاته وتقبيله، وحفظه في مكان معين حتى لا يدنس أو يداس بالأقدام.
هذه الأطعمة التي ورد استهلاكها بالمغرب ضمن كتاب التشوف تخص كما رأينا فئات
اجتماعية محددة (المتصوفة، الحصادين، الفقراء...) ويكاد لا يخلو كتاب من كتب
التراجم من إشارات إلى أنواع أخرى من المأكولات، وكيفية إعدادها وتقديمها. لكن
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: هل تمثل هذه الأصناف من المأكولات أساس النظام
الغذائي العادي في مغرب تلك الفترة (العصر الوسيط)؟
يبدو من الصعب أن تتخذ هذه الأغذية والمأكولات نموذجا عن أغذية معظم السكان(29)،
ومختلف الجهات والمناطق لأن المتصوف رام بالدرجة الأولى المجاهدة والابتعاد عن حياة
البذخ بل والاستنكاف عن الحياة العادية للسكان.(30)
إن أمثال هذه الأسئلة التي تفضي في الغالب إلى صيغة من التعامل الحذر مع ما تقدمه
كتب التراجم –سيما على مستوى التعميم- تسوغ لطرح سؤال أشمل واكبر هو: كيف يجب إذن
التعامل مع هذا النزر من المعطيات الواردة ضمنها؟
وهو السؤال الذي سنحاول مقاربته في إطار مقترحات تكون خلاصة لما سنتوصل إليه بعد
إيراد باقي المواضيع الواردة في متن الكتاب.
الموضوع الثاني: الألبسة والأغطية:
تورد مصادر التراجم مجموعة من الألبسة التي اعتاد المغاربة ارتداءها منها ما هو
مستمر إلى يومنا هذا مثل القشابة والبرنس (الخيدوس)(31) المصنوعة من الصوف أو القطن
أو الكتان. فقد ورد أن الشيخ أبا العباس السبتي، وهو بمراكش بات ليلة مطيرة فغلبه
البرد فغطوه بكل ما أمكن من لحاف وغيره، فلم يرفع عنه ذلك البرد، ولما اشتد به
وآلمه قام وخرج يطوف في الدرب يقرع أبواب الدور إلى أن استجاب له أهل إحداها، فعرف
أنهم لم يناموا لمكابدة البرد، فقال لهم: ما لكم لم تناموا؟ فقالوا: يا سيدي، ابتلت
أثوابنا بالمطر فنحن نجففها، فبعث لهم الشيخ اللحاف ليغطوا به(32).
الموضوع الثالث: قيم الكرم والتضامن والتآزر:
عرف المجتمع المغربي بتضامن وتعاون أفراده، كما عرف بالعديد من الشيم النبيلة ككرم
الضيافة وإيواء الغريب... وتتحدث كتب التراجم – في هذا الصدد- عن حضور العديد من
أمثال هذه القيم بالمغرب في مختلف المراحل التاريخية. ونورد مثالا على ذلك بعض
المقتطفات من نصوص وردت بكتاب التشوف، ففي إطار الترجمة المخصصة لأبي محمد خميس بن
أبي زرج الرجراجي الأسود؛ يقول صاحب التشوف(33): «وحدثوا عنه أنه استحق فدانه
الحصاد تواصي فتيان القرية على حصاده فحصدوه دون أن يعلموه، فأقبل أبو محمد وقد
رآهم قد حصدوا طائفة من فدانه فقال: كفوا بارك الله فيكم فقالوا له: ما حصدنا إلا
طائعين متبرعين».
يوضح النص انتشار نظام تعاوني مبني على التبرع والتطوع بين أفراد الجماعة في فترة
الحصاد، دون أن يحدد اسم هذا النظام الذي نلمس مطابقته لنظام «ثاويزا» أو «ثويزا»
المعمول به إلى اليوم على الرغم من تراجعه بسبب انتشار واكتساح قيم الأنانية
والذاتية وغيرها(34).
وفي موضوع كرم الضيافة ورد في التشوف أن أبا عمران موسى بن الحاج الرجراجي قدم إلى
مراكش مع تلامذته فسلم على رجل فقير من أصحابه، فجاء ذلك الرجل إلى زوجه وقال لها:
إنه جاء ضيف لا يمكن تركه دون ضيافة. فقالت له: ليس عندنا إلا هذا السرير، فبعه
وأنفقه عليه، فلما أضرم الليل أخرج السرير، لئلا يراه الجيران فيشعرون بفاقته
وفقره، فباعه بستة عشر درهما ونصف درهم ثم استدعى لمنزله أبا عمران وأصحابه، وأنفق
عليهم جميع الدراهم(35).
الموضوع الرابع: العادات والتقاليد:
(يتبع في العدد القادم)
|