| |
الدياسبورا
الأمازيغية في السياسة الثقافية والإعلامية المغربية (وصف ونقد واقتراح)
بلقم: ميمون أمسبريذ (بلجيكا)
«Quien cruza los mares cambia de cielo,
pero no de espirito» (Homero)
"إن من يعبر البحار تتغير سماؤه، لكن لا تتغير روحه" (هوميروس)
الهجرة الأمازيغية وتحولاتها
ليس من باب الصدفة أن يكون معظم المهاجرين المغاربة من الأمازيغ. لقد هاجر ويهاجر
من ضاقت بهم الأرض بما رحبت بفعل سياسة التهميش والإقصاء والعقاب الجماعي التي
سنتها الدولة المغربية في حقهم؛ فلم يكن لهم من خيار غير البحر أو الفقر؛ فاختاروا
البحر مكرهين عزة من عند أنفسهم؛ وتركوا خلفهم آباء كبارا وذرية صغارا من غير عون
ولا سند؛ وتقطعت بهم الأسباب، فلا يعودون مريضهم ولا يحضرون مع محتضرهم ولا يمشون
في جنازة ميتهم. ذهبوا ولا شيء يشد من عضدهم غير حلم العودة إلى أرض الميلاد
وجغرافية الوجدان. ثم طال بهم الأمد وتبخر الحلم؛ ولم يجدوا بدا من إلحاق أسرهم بهم
في بلدان الإقامة؛ فكان الجيل الثاني ثم الثالث...
وليست الأجيال التالية كالجيل الأول في نمط العلاقة بأرض الآباء والأجداد. فلئن كان
الجيل الأول، الذي قضى أكثره الآن، تربطه بها صلات القرابة المباشرة مع من بقي بها
من الأهل، أو صلات الصداقة أو الجوار، فضلا عن صلة الانتماء الوجداني إلى مسقط
الرأس وأرض النشأة الأولى – فإن أمر الأجيال اللاحقة يختلف طبيعة ونوعا. لقد صار
هؤلاء مواطنين للدول التي آوت آباءهم من قبل؛ ولم تعد الصلة بينهم وبين المغرب
تحكمها الضرورة الجينيالوجية التي كانت تحكم صلة الجيل الأول به. إن العلاقة بين
هؤلاء والمغرب صارت علاقة رمزية، ومن ثمة فهي علاقة حرة، خالصة من كل تحكمية
بيولوجية أو اجتماعية أو قانونية آو إدارية، تجعلهم يولون وجوههم شطر المغرب
بالضرورة، كما كان شأن آبائهم من قبل. لقد كانت علاقة هؤلاء ببلاد الاستقبال تنحصر
في الحد الأدنى الحيوي (العمل حصرا)؛ بينما ظلت أرض الوطن تشكل المرجعية الاجتماعية
والثقافية والفضاء الأوحد لإثبات الهوية وممارستها بكل أبعادها. لذلك لم يكونوا في
حاجة إلى أي سياسات تحفيزية من جانب حكومات بلادهم المتوالية من أجل ربطهم بوطنهم.
بل إنهم ظلوا يتحدون كل العراقيل والصعاب التي تتفنن أجهزة الدولة في وضعها أمامهم
في الحل والترحال، ليحيوا صلة الرحم ويجددوا الأواصر عاما بعد عام. وخلال ذلك
يساهمون في الإعمار والاستثمار وجلب "العملة الصعبة" (حقا ما أصعبها عملة¡)، حتى
لقد ظلوا على مر العقود المصدر الأول لها.
لقد كان الجيل الأول بمثابة الجسر بين الوطن والمهجر؛ لكن هذا الجسر آخذ في التآكل
الآن؛ وعما قليل سينهار. ولئن كانت الطبيعة بالأمس تغني عن السياسة في الربط بين
المهاجرين المغاربة وبلادهم الأصلية، فان الطبيعة قد استنفذت طاقتها الآن، وحان وقت
السياسة لتقوم مقامها.
من أجل استراتيجية ثقافية وإعلامية تنبني على الانتماء الحضاري للمغاربة.
إن المغرب محتاج إلى كل أبنائه؛ لذلك فهو مدعو إلى سن إستراتيجية ثقافية وإعلامية
إرادوية وبعيدة المدى. إستراتيجية تجعل من الحضارة المغربية الجسر الرابط بين
المغاربة وذوي الأصول المغربية في الخارج وبين الأرض التي أنبتت تلك الحضارة التي
ينتمون إليها.
لكن أية استراتيجية مبنية على الانتماء الحضاري لابد لها، لكي تحقق غاياتها، من (إعادة)
تعريف للحضارة المغربية. هذا التعريف يقتضي بدوره من الطبقة السياسية المغربية
قطيعة إيديولوجية وايبستمولوجية. قطيعة تعيد النظر في التعريف الذي صاغته وسوقته "الحركة
الوطنية" وورثها الذين عملوا بمقتضياته من داخل الحكم أو من خارجه منذ الاستقلال
إلى الآن.
يقوم تعريف "الحركة الوطنية" على معيارين، أحدهما عرقي (المغرب بلد عربي) والآخر
ديني (المغرب بلد إسلامي)؛ وهو ما يعطي التعريف المانع غير الجامع "المغرب بلد عربي
إسلامي". هذا التعريف المانع للأمازيغيين والأمازيغية الذين هما – هل أحتاج إلى
التذكير – الجذع من شجرة الحضارة المغربية، أقول هذا التعريف المبتور، والعنصري
فضلا عن ذلك، هو المعتمد رسميا والذي يحكم، من باب التبعية، سياسة الدولة في
الإدارة والقضاء والتعليم والثقافة والإعلام. تلك السياسة التي أعطت النتائج
الكارثبة المعروفة، التي لم يستطع حتى التقرير الرسمي عن الخمسين سنة من التنمية
البشرية إخفاءها، رغم العتاد البلاغي الضخم الذي استنفره صائغوه.
فعلى صعيد التنمية البشرية تحديدا، تثبت الإحصائيات الحكومية نفسها فشل كل سياسة
تنموية – على افتراض وجودها – لا ترتكز على الإنسان في بعده الحضاري؛ الإنسان بما
هو موضع للمعنى لا مجرد منتج - مستهلك للخيرات. إن التصور الوظيفوي الاختزالي الذي
يتجاهل الحضارة والثقافة واللغة – أي هذه الأنظمة التي تحكم نمط الإقامة في العالم
(تقطيعه، مفصلته، تسميته، تأويله، بناء التراتبيات القيمية داخله... ) لدى المجموعة
المستهدفة بفعل التنمية، إن هذا التصور إذن محكوم عليه بأن يخطئ هدفه لا محالة؛
لأنه يجعل المجموعة موضوعا لفعل التنمية لا ذاتا لها؛ متلقيا سلبيا لا منتجا
ايجابيا. بعبارة أخرى، لا يجعل منه شريكا يتبنى المشروع ويتملكه من خلال إخضاعه
لعمليات التكفل الثقافي (تكييفه وفق المقولات/المفاهيم/الأنظمة الذهنية-اللغوية من
أجل توطينه). (لذلك لا يستغرب أن يبوئ التقرير ألأممي عن التنمية البشرية بلادنا
الصف الثامن والعشرين بعد المائة إلى جانب زيمبابوي والرأس الأخضر وناميبيا وساء
أولئك رفيقا).
أما على الصعيد الحضاري العام فقد أفضى اعتماد تعريف "الحركة الوطنية" المذكور
للهوية المغربية إلى استلاب جماعي لجماهير واسعة من المغاربة، أخضعت لعملية غسل
منهجية للمخ من خلال المدرسة والوسائط السمعية-البصرية والصحافة المكتوبة. لقد تم
العمل على تحييد الهوية الأمازيغية الأصلية للمغاربة بالسكوت عنها وتغييبها من مجال
المقول والمفكر فيه، وتضخيم شأن العنصر العربي وإبرازه على أنه الهوية ذاتها؛ بحيث
تم تحجيم البعد الديني ذاته في ذلك التعريف، في تجاوب مع سيطرة القومية العربية في
المشرق (والتي كان روادها من المسيحيين العرب كما هو معلوم). هكذا تحول المغرب من "بلد
عربي مسلم" في تعريف "الحركة الوطنية" إلى" بلد عربي" وكفى في الدعاية القومية
للعروبيين، مع وصول الناصرية والبعثية إلى الحكم في المشرق العربي. ويلاحظ أن
التشديد ينتقل من أحد المكونين لذلك التعريف (العروبة، الإسلام) إلى الآخر حسب تقدم
أو تراجع أحد التيارين، القومي والاسلاموي، في المشرق العربي. هكذا يعدم المغرب كل
هوية أصيلة لتصير"هويته" المقترحة مجرد رجع صدى للتموجات السياسية-الثقافية في
الشرق الأوسط. وما ذلك إلا لأن الركيزة التي عليها قوام الهوية المغربية وأصالتها
ودوامها جرى تحييدها وطمسها كما رأينا. وقد رأينا بعض الآثار المدمرة للاستلاب
الحضاري على بلادنا في الصورة المفزعة لشباب عاق لا يتورع عن المس بحرمة الوطن
الأم، فضلا عن انخراط عدد كبير منه في صفوف الأممية الإرهابية التي يتزعمها "شيوخ"
الدم والظلام المشارقة. والبقية تأتي.
من أجل إعادة بناء الذات المغربية
تلك أسباب الداء؛ وذلك تشخيصه؛ فما هو العلاج؟
لقد ألمعنا إليه من قبل بقولنا إن المغرب مدعو إلى تبني استراتيجية ثقافية وإعلامية
مبنية على إعادة النظر في التعريف المعتمد للهوية المغربية والذي يحكم التصورات
والممارسات الحكومية في هذا المجال. فلنبسط القول الآن في مضمون هذه الإستراتيجية.
وبما أن موضوع المقال هو "مغاربة الخارج"، فقد حصرت هذا المضمون في مجالين رئيسين
يتصلان بهؤلاء، هما الثقافة والإعلام. فهذان القطاعان يسمحان للمغرب بهامش لا بأس
به للعمل، بحكم عدم خضوعهما كليا لسيادة دول الاستقبال.
الثقافة
تعد الثقافة المغربية واحدة من أعرق ثقافات العالم تاريخا وأوسعهن مجالا وأبقاهن
ذاكرة وأنشطهن تواترا في التناقل. وهي بذلك ليست ركيزة للشخصية المغربية فحسب، بل
وثيقة لا غنى عنها للبشرية في بناء معرفتها بذاتها. وليس تقريري هذا من باب
الاقتصاص من مكر التاريخ بكيد الأسطورة (على قول الأستاذ أحمد التوفيق في بعض دروسه
الحسنية)، وإنما هو ثمرة أبحاث ودراسات رصينة في الأركيولوجيا (الحفريات)
والباليوغرافيا والتاريخ والأنتروبولوجيا الثقافية في شمال أفريقيا وحوض البحر
الأبيض المتوسط. وليس المقام صالحا لتعدادها ها هنا. وإنما ألمع إليها لأذكر بأن
المغرب ليس مؤتمنا على الحضارة الخاصة به فحسب، بل هو مطوق بمسؤولية حفظ جزء كبير
وجوهري من الذاكرة البشرية – هذه الذاكرة التي تمثل الحضارة الأمازيغية العينة
الحية الوحيدة منها ضمن المجال الجغرافي المذكور.
فهل سترتقي الدولة المغربية إلى مستوى هذه المسؤولية الوطنية والكونية في آن،
لتتحملها بصدق وأمانة؟ إن دولة تقايض حضارة بلادها بخمسين سنة من الوهم الإيديولوجي
لهي حقا دولة غير مسئولة. وقد آن الأوان أن تثوب إلى الرشد؛ وتسمع هذا الصوت العميق
الذي يأتيها من قلب الأرض والوجدان المغربيين؛ صوت أعارته صفوة من المغاربة
المخلصين ألسنتها وأقلامها، لا تسأل عليه أجرا.
لقد آن الأوان أن تعبر الدولة المغربية، من خلال سياساتها ومؤسساتها وأجهزتها، عن
مجتمعها الحقيقي، بعد أن كانت تعبر عن "مجتمع" مصطنع اتخذته بديلا عن المجتمع
المغربي. وفيما يتصل بمغاربة الخارج، ينبغي على الدولة المغربية، إن كانت تريد -
كما تزعم – أن توطد الصلة بين هؤلاء ووطنهم الأصلي، أن توجد الأدوات العملية
القمينة بتفعيل تلك الإرادة. من ذلك إنشاء مراكز ثقافية في عواصم الجهات التي
يتمركز فيها المغاربة وذوو الأصول المغربية. يعهد إليها بالوظائف التي تؤديها
المراكز الثقافية من قبيل المراكز الثقافية الفرنسية والأسبانية وغيرها. بحيث تتوفر
على مكتبة متخصصة تشتمل على أمهات المصادر في التاريخ والأدب وعلوم الإنسان
والمجتمع؛ وعلى "ميدياتيك" تستوعب الوسائط السمعية والبصرية من أفلام سينمائية
وأشرطة وثاثقية وتسجيلات موسيقية... وتتولى هذه المراكز تنظيم محاضرات وأيام دراسية
ومعارض حول الحضارة المغربية؛ كما تنظم دروسا لتعليم الأمازيغية والعربية لأبناء
المغاربة ولمن يرغب في تعلمهما من الأجانب. ويكون من أنشطتها أيضا تنظيم رحلات
ثقافية لهؤلاء إلى المغرب ليعايشوا في الواقع ما اطلعوا عليه في الوثائق وتعلموه في
الفصول...
وجملة القول أن المراكز الثقافية المغربية المنشودة ستضطلع بدور ثلاثي الأبعاد.
- توفير فضاء ثقافي للالتقاء والتعارف بين أبناء المغاربة أنفسهم بما يجعلهم
يستشعرون الآصرة الحضارية التي تجمع بينهم؛
- التعريف بالحضارة المغربية لدى هؤلاء ومواطنيهم من غير ذوي الأصول المغربية؛
والمساهمة بذلك في التعارف والتعايش الايجابي بينهم؛
- ربط الصلة بين أبناء المهاجرين المغاربة والمغرب.
الإعلام
مع الثورة التي تعرفها تكنولوجيا الإعلام، أصبح في إمكان وسائل الإعلام
السمعية-البصرية المغربية الوصول إلى المغاربة أينما وجدوا. لكن التكنولوجيا بدون
مضمون مغربي حقيقي لن تجعل هؤلاء يقبلون على القنوات المغربية. إن المنتظر من هذه
القنوات هو أن تعكس الحقيقة المغربية في برامجها شكلا ومضمونا، من خلال نشرات
الأخبار والأشرطة الوثائقية والبرامج الثقافية وحصص التنشيط والترفيه. وهو ما
يستوجب القطع مع المعمول به حاليا من تغييب للمادة الأمازيغية، لتتبوأ اللغة
والحضارة والثقافة الأمازيغية المكانة التي هي أهل لها في وسائل إعلام يمولها
المواطن الأمازيغي. لقد أنتجت عقود من إغراق المشاهد المغربي بالرخيص من
الميلودراما المصرية جمهورا من المراهقين الأبديين؛ وسيفضي التوجه الملاحظ أخيرا
إلى المادة التلفزيونية الشامية (السورية خاصة) إلى إنتاج جمهور من المتشنجين. وبغض
النظر عن هذا وذاك، فإن المرء لا يرى وجها لتسخير المقدرات المغربية المحدودة أصلا
لخدمة ثقافات شعوب أخرى؛ اللهم إلا إن كان هذا يدخل في نطاق نكران الذات (على
الحقيقة والمجاز معا). إن الأمازيغي المغربي لا يسمع صوته ولا يرى صورته في القنوات
المغربية إلا استثناء؛ وحين يقع ذلك يصلان إليه محرفين، مشوهين عبر مرآة الفلكلرة
والتقزيم والمسخ المقصود وغير المقصود. إن الوسائل السمعية-البصرية الرسمية تعامل
الأمازيغية معاملة اثنوغرافية متعالية؛ فهي لا تبث برامج أمازيغية، بل برامج (حين
توجد) حول الأمازيغية. إذ الإطار الميتا-لغوي لهذه البرامج ليس أمازيغيا، لا لغة
ولا خطابا؛ فلا تزال الأمازيغية في هذه الوسائط مؤطرة ضمن لغة أخرى وداخل حدود
ميتا-نصية مفارقة ومحيدة لها؛ وكأنما يخشى أن تنفلت الأمازيغية من عقالها لتتقدم
معلنة عن نفسها، مستقلة بذاتها من غير وساطات ولا عتبات. إن استعراض عناوين بعض
البرامج التلفزيونية التي تتناول الواقعة الثقافية الأمازيغية كاف لفضح
الاستراتيجية الخطابية (والايدولوجيا الثاوية خلفها) التي تحكم التصور الرسمي
للأمازيغية؛ فمن (وحي الطبيعة) إلى (كنوز) إلى (تراث) الخ... يتبدى الإنسان
والمجتمع الأمازيغيان جزء غير متمفصل من المتصل الطبيعي، أو أعجوبة من الأعاجيب
نسيها الزمان ككنز مطمور، أو تراثا عتيقا يستحضر بنوستالجيا للإمتاع والمؤانسة
التلفزيونية ... وفي جميع الأحوال لا يحضر الإنسان الأمازيغي في البرامج
التلفزيونية باعتباره هيئة تلفظية تتكفل بذاتها خطابيا، مرتكزة إلى مرجعية حضارية
هي التي تعطي أفعالها وأقوالها وأشكالها معانيها. هذا الموقف الاثنوغرافي
الاستعلائي لم يسلم منه حتى البرنامج الشهري (¡) الذي يرعاه المعهد الملكي للثقافة
الأمازيغية؛ فرغم العنوان الأمازيغي (تيفاوين) الذي أسقط إحدى العتبات الميتالغوية،
ورغم الجهد المحمود لخديجة رشوق صاحبته، فإن المشاهد الأمازيغي يشعر أن البرنامج
يتحدث عنه لا إليه.
إن الخطاطة الإيديولوجية التي تحكم إنتاج الخطاب "الإعلامي" الراهن حول الأمازيغية
تقوم على اعتبار أن "تمازيغت" هي نوع من أمية العروبة أوهي ثقافتها الشعبية أو
فلكلورها، وليست حضارة وثقافة ولغة قائمة الذات. هكذا نجد هذا الخطاب يميز بين
أغنية "عصرية" (افهموا "أغنية كلماتها عربية") وأغنية أمازيغية. الأولى لا يمكن أن
تكون إلا عصرية ما دامت عربية؛ حتى وان كان شكلها ومضمونها تراثيا أو شعبيا؛ وحتى
وإن كان المغني أميا أو شبه أمي (كما هو الأمر في الغالب)؛ والثانية (الأمازيغية)
شعبية، تراثية، حتى وإن كان كاتبها جامعيا وملحنها متخرجا من أوبصيرفاتوار للموسيقى
ومغنيها فنانا يعيش في أحدث عواصم العالم¡
إن الإعلام الحكومي (أستعمل نعت "حكومي" بدل "عمومي" لأن هذا الإعلام يعبر عن وجهة
نظر الحكومة لا عموم المغاربة. إنه ليس "عموميا" إلا بما هو ممول من المال العام،
أي مال عموم المغاربة الذين لا يعبر عنهم¡) – أقول إن الإعلام الحكومي مدعو إلى
القيام بثورته الكوبيرنيكية، ويكف عن اعتبار العروبة مركزا والأمازيغية جسما صغيرا
غير واضح المعالم يدور حوله.
لقد انتقل هذا الإعلام في تعامله مع الأمازيغية من إستراتيجية التغييب (لا وجود
للواقعة الحضارية الأمازيغية) إلى إستراتيجية الإلحاق (الأمازيغية شأن عربي يدبر
بما لا يمس بمركزية العروبة). كان هذا الانتقال بمثابة الجواب الرسمي على تصاعد
المد المطلبي الأمازيغي. وواضح أن الطبقة السياسية العروبية لم تفهم (أو تتظاهر
بأنها لم تفهم) طبيعة الحركة المطلبية الأمازيغية. فهذه الأخيرة، كما كتبت في غير
هذا الموضع، حركة حضارية منبثقة عن وعي راسخ بالانتماء إلى حضارة متميزة؛ وعي يدفع
الأمازيغيين إلى النضال من أجل تأمين وسط إيكولوجي ملائم لبقاء وتفتح وازدهار
حضارتهم بما هي كلية قائمة بذاتها، تتفاعل مع غيرها دون أن تفقد هويتها. ومن ثمة
فإن استراتيجيات الإلحاق والإدماج والتجزيء والتبعيض ليست هي الجواب المناسب عن هذا
التطلع الحضاري. لن أقول إنها غير منتجة، بل هي تنتج نتائج عكسية لتلك المتوخاة
منها (تسوية المسألة الأمازيغي بثمن بخس ودون "خسائر" تذكر للمنظومة الإيديولوجية
المرجعية). وأسوأ هذه النتائج الشعور بالإحباط لدى المناضلين الأمازيغيين إزاء هزال
(بل وهزل) الجواب المقدم لمطلبهم. والإحباط ناصح سيء كما لا يخفى.
إن الجواب الملائم الوحيد عن المطلب الحضاري الأمازيغي هو رفع الحجر عن الحضارة
الأمازيغية وتمكينها من التعبير عن ذاتها بدون استراتيجيات وقائية تتوخى تحجيمها
وتحييدها. ووسائل الإعلام تقدم – في عصرنا هذا - الفضاء الأكثر ولوجيه والأقرب
منالا. فلتحمل مضامين هذه الحضارة إلى جمهور المغاربة ليغذوا بها انتماءهم الحضاري
ويجددوه؛ ليخرجوا من هذا اليتم الحضاري المفروض عليهم والذي يجعلهم ضحايا سهلة
لسماسرة "القضايا" من كل نوع. لقد أفضى ضعف المناعة الحضارية، بسبب السياسة
التعليمية والثقافية والإعلامية المتبعة، إلى تحويل بعض أبناء المغاربة إلى عناصر
يسهل تجنيدها كمرتزقة للجنة أو كجنود مجندين "للقضايا" من كل صنف وجنس. حتى لقد
أصبح اسم المغرب مقترنا بالإرهاب. هكذا يجني المغرب والمغاربة في الداخل والخارج
الثمار المرة للاختيار الإيديولوجي للطبقة الحاكمة في شكل انتشار مشاعر كراهية
المغاربة؛ مما يؤثر سلبا على التعايش مع مواطنيهم في الدول التي تبنتهم؛ وفي شكل
تشويه لسمعة المغرب كبلد للتسامح والتفاعل الايجابي.
وإذا لم يكن الهم الحضاري كافيا لتحفيز الطبقة الحاكمة للعمل من أجل تقوية التواصل
الحضاري بين المغرب وأبنائه في الخارج، فلتكن الانتهازية السياسية، على الأقل،
رائدها. لنشرح ذلك. تراهن الحكومة المغربية على السياحة والاستثمار الأجنبي كقطاعين
لاستدرار العملة الصعبة وخلق مناصب للشغل. وإذا كانت أساليب الماركتينغ قد تنجح في
استقطاب السواح والمستثمرين الأجانب، فإن من الغباء استعمال هذه الأساليب محدودة
التأثير وغير مضمونة النتائج مع أبناء المهاجرين المغاربة، بدلا من الاشتغال على
رصيدهم الحضاري الذي تلقوه عن آبائهم في شكل شذرات لغوية وعناصر ثقافية وشعور
بالانتماء، ولو عاطفيا، إلى وطن أصلي هو المغرب. الاشتغال عليه من أجل تنميته
وتحويله إلى رأسمال قار لا يتأثر بالظرفيات.
ويبدو أن الحكومة المغربية استشعرت أهمية البعد الثقافي في التعامل مع أبناء
المهاجرين المغاربة؛ لكن العمى الإيديولوجي يمنعها – كالعادة – من رؤية الأشياء على
وجهها وكما هي. لذلك يكون الفشل مآل سياساتها وتدخلاتها في الداخل (التنمية البشرية)
كما في الخارج (التعامل مع المهاجرين المغاربة وأبنائهم). ففيما يتعلق بهذا الأخير،
وانسجاما مع عقيدتها الإيديولوجية عن عروبة المغاربة، ضاعفت وزارة الاتصال من
القنوات التلفزيونية والبرامج المفترض أنها موجهة إلى "الجالية" والناطقة كليا
بالعربية. وإذا كان المرء قد يفهم – دون أن يجعله ذلك يتفهم – أن تسلك الدولة هذه
السياسة الإعلامية الأحادية اللغة مع مغاربة الداخل اعتمادا على أن التعليم المعرب
يهيئ الذين لم يغادروه من المواطنين مبكرا (وهم - أي المغادرون – الأغلبية) لفهم
العربية – فإن ما ليس مفهوما ولا متفهما هو أن "تتواصل" الدولة المغربية مع أبناء
الأمازيغيين من المهاجرين المغاربة باللغة العربية وهم الذين لا يعرفون منها قليلا
ولا كثيرا، لأنها ببساطة ليست لا لغة أمهاتهم فيكتسبوها منهن بالتنشئة، ولا لغة
المدرسة فيتعلموها بالتمدرس¡ إن من البديهيات أن التواصل، لكي يكون ممكنا، يقتضي
قناة اتصال ملائمة؛ والقناة هنا هي اللغة؛ فهل يمكن اعتبار اللغة العربية قناة
مناسبة للاتصال بأشخاص لا يعرفونها وليست لهم بها أي ألفة؟ إذا كان الغرض هو فعلا
التواصل والتحاور مع هؤلاء، وليس إنتاج مونولوجات يستمرئ فيها المرسل كفاءاته
اللغوية والبلاغية غير عابئ بالمتلقي، فإن الجواب هو بداهة، هو لا. إن اللغة التي
يستأنس بها أبناء المهاجرين الأمازيغيين في أوربا هي اللغة الأمازيغية. قد تصدم هذه
الحقيقة البسيطة عقول إيديولوجيي عروبة المغاربة، ولكن ذلك لا يمنعها من أن تكون هي
الحقيقة. فإذا كانت الدولة المغربية ترغب فعلا في التواصل مع "جاليتها في الخارج"
فما عليها – وهي التي تخطب ودهم - إلا أن تخاطبهم بلغتهم¡ وبما أني ذكرت الود،
فلنبق في السجل العاطفي لنضيف أنه بما أن الغاية من التواصل مع أبناء المهاجرين هي
ربطهم بأرض آبائهم وأجدادهم، فإن أفضل وسيلة إلى ذلك، بل الوسيلة الوحيدة الناجعة،
هي لغة الأم؛ إذ هل أجدى وأجمل من التواصل مع الوطن الأم من لغة الأم؟ إن هذا البعد
العاطفي المرتبط بلغة الأم، التي هي لغة الأرض، هو الذي سيكون المعيار الذي يحدد
قرار الأمازيغي الأوروبي فيما يتعلق باختيار وجهته السياحية أو تحديد البلد الذي
ينجز فيه مشروعه الاستثماري. إن اللغة الأمازيغية – لا العربية – هي التي ستحدث
الفرق لصالح المغرب عندما يتعلق الأمر باختيار الأمازيغي لوجهته. وإنه لمن البلادة
– في عصر التنافس بين الدول على استقطاب السواح والمستثمرين – أن يضحي المغرب بهذا
العامل الحاسم على مذبح الدوغمائية العروبية. إن تقديم المغرب نفسه لهذه الأجيال
الجديدة من الأمازيغيين الأوروبيين على أنه بلد عربي كأي بلد عربي آخر لن يجعلهم –
وهذا أقل ما يمكن أن يقال – يتحمسون لاختياره وجهة لقضاء عطلهم أو استثمار أموالهم.
إذ فضلا عن أن الدول العربية ترتبط في مخيالهم الأوروبي – عن حق – بالاستبداد
والفساد والاعتباط والتخلف (وهذا وحده كاف لجعلهم ينفرون منه نفور الذئب من اليقطين
"تاخساشت")، فلا وجود لأي حافز عاطفي يمكنه أن يميل الكفة لصالح هذا البلد الذي
يقدم لهم على أنه بلد عربي، لا مكان لهم – هم الأمازيغ – فيه.
الذيل والتكملة
إن المرء لا يملك إلا أن يعجب لأمر هذه اللغة الأمازيغية. إنها وهي من أقدم لغات
العالم، وهي التي لا حامل لها من كتابة ولا مكتبات، غير أنفاس متكلميها الذين فرقهم
التاريخ شذر مذر، إنها وهي كذلك لا تزال تحيا وتتفاعل وتتكيف. حتى لقد صارت لغة
عالمية يتداولها ويتواصل بها مواطنون في مختلف دول المعمور؛ وذلك من غير ميزانيات
تصرف على نشرها ولا هبات يغدقها أثرياء على الجامعات الأجنبية من أجل تدريسها...
قلت لقد صارت اللغة الأمازيغية لغة عالمية. وليس ذلك مني مبالغة ولا تضخيما، وإنما
هو تقرير لواقع لغوي-ثقافي يتشكل تحت أبصارنا.
لقد انتشر الأمازيغيون – للأسباب السياسية التي ألمعنا إليها أول هذا المقال – في
مختلف دول العالم المتحضر؛ وقد أنتج هذا الانتشار واقعة لغوية-ثقافية جديدة داخل
هذه البلدان، هي الواقعة الأمازيغية. وبعد أن كانت، مع الجيل الأول، منعزلة داخل
حدود كل دولة على حدة، أصبحت، مع الأجيال الجديدة المتمدرسة، و بفضل شيوع وسائل
الاتصال، وخاصة الأنتيرنيت، واقعة لغوية-ثقافية أوروبية. لقد ترتب عن انتشار أفراد
الأسرة الأمازيغية الواحدة في عدة دول أن أصبحت الأسرة الواحدة، مع توالي الأجيال،
تتكون من مواطنين من دول شتى. وحيث إن لغات هذه الدول تختلف من دولة إلى أخرى
عموما، بحيث يتعذر التواصل بين الأقارب بأي منها، فإن اللغة الأمازيغية هي لغة
التواصل بينهم. وإنه ليسر النفس أن تسمع الصبية والصبي والفتاة والفتى لم يولدوا
بأرض الأمازيغية يراجعون أجدادهم وآباءهم وأقاربهم في كلمة أمازيغية لم يتضح لها أو
له معناها، وردت في هذا "التشات" أو ذلك "الاس ام اس" من قريب مقيم في أسبانيا أو
فرنسا أو ألمانيا أو هولندا أو بلجيكا...
هكذا تنبعث الأمازيغية من رمادها تارة أخرى؛ وتحلق في سماوات لم تحلق فيها من قبل...
(ميمون أمسبريذ)
|