|
من الإرهاب المنسي لدولة الاستقلال بالريف: من ”الاحتقال“ إلى عام ”إقبّارن“ بقلم: محمد القجيري (فاس، الحسيمة) بعد انكشاف المجهول (x) في مؤتمر ـ في الحقيقة مؤامرة ـ ”إيكس ليبان“ بين فرنسا والنخبة البورجوازية المغربية، اندلعت الأحداث الدموية بالريف المنسي وبلغت ذروتها سنتي 1958 ـ 1959، والمعروفة عند أمازيغيي الريف بعام ”إقبّارن“، وهي كلمة أمازيغية تعني ”الغطاء“ ومفردها ”أقبّار“، أطلقها السكان على نوع القبعات التي كانت تغطي رؤوس الجنود الذين نقلوا إلى الريف لإبادة قبائله وسكانه. جيش التحرير ونخبة ”إيكس ليبان“: في سنة 1953 تأسس جيش التحرير في الريف الشرقي بدعم ومساندة مولاي محند. وفي شهر مارس 1955 تلقى جيش التحرير الدفعة الأولى من الأسلحة والذخائر الحربية التي أرسلها مولاي محند وحملتها باخرة ”دينا“ إلى شاطئ رأس كبدانة بميناء ”قابو ياوّا“ (رأس الماء) بإقليم الناظور، لتنطلق بعده في اليوم الثاني من شهر أكتوبر الشرارة الأولى للكفاح المسلح بمنطقة مثلث الموت: أكنول، بورد، تيزي وسلي، ضد المستعمر الفرنسي. ثم توسع المجال الحربي إلى مثلث كبير: بورد، إيموزار مرموشة، تافوغالت. وتمكن جيش التحرير من التنسيق مع القبائل الأمازيغية بمنطقة فزاز. في مقابل ذلك قامت الكائنات ”المجلبة“ و”المطربشة“ في شهر دجنبر 1955 بتأسيس الحكومة الأولى تحت وصاية وحماية المستعمر الفرنسي، وضمت مختلف أطياف الأحزاب المنتمية إلى فصيل الحركة ”اللاوطنية“، وتراءسها صديق القصر مبارك البكّاي. وخلال مفاوضات ”إيكس ليبان“(1) كان جيش التحرير ما يزال يواصل معاركه ضد المستعمر الفرنسي والإسباني في الشمال والجنوب من تامازغا. وأصر على حمل السلاح إلى غاية تحرير سبتة ومليلية والصحراء والجزائر وكافة بلدان شمال إفريقيا. في حين كان حزب الاستقلال يغازل فرنسا ويصف رجال جيش التحرير بالإرهابيين(2). ومباشرة بعد خيانة ”إيكس ليبان“ التي اعتبرها مولاي محند اتفاقية ”الخزي والعار“ التي منحت للمغرب استقلالا شكليا أعرج أو ”احتقلالا“ كما سماه(3)، أصبح رجال حزب الاستقلال إلى جانب محمد الخامس أبطالا للمغرب(4)، في حين أصبح جيش التحرير والمقاومون الذين كانوا ما زالوا يحملون السلاح في الجبال متمردين وفوضويين وإرهابيين، حسب أدبيات حزب الاستقلال. واصل جيش التحرير كفاحه المسلح ضد الاستعمار، بينما كان حزب الاستقلال والقصر يتنافسان حول السلطة لتتشكل بعد ذلك حكومة كارطونية من نفس طينة الحكومة الأولى. وكان معظم وزرائها من حزب الاستقلال ويرأسها صديق الملك البكّاي. لقد كانت حكومة البكّاي «حكومة فرضتها ظروف مصطنعة خلقتها مفاوضات إيكس ليبان»(5). كان موقف جيش التحرير من إيكس ليبان واضحا: لم يعترف قط بهذا الإيكس المعلوم، ولا بالحكومة المنبثقة عنه، مما أصبح يهدد القصر وحزب الاستقلال، بالإضافة إلى فرنسا التي كانت تخشى من احتمال أن يتحالف مع جيش التحرير الجزائري، خصوصا أن كليهما كانا تحت إشراف ”لجنة تحرير شمال إفريقيا“ بقيادة مولاي محند. أمام هذا الوضع أرسل محمد الخامس الضابط السابق في الجيش الفرنسي المحجوبي أحرضان إلى الريف ليتوسط بينه وبين زعماء جيش التحرير من أجل التخلي عن السلاح وحل الجيش وإدماجه في القوات المسلحة الملكية. أما قادة حزب الاستقلال فقد حاولوا ربط جيش التحرير ودمجه في الحزب كي يتمكنوا بسهولة من إحكام قبضتهم الحديدية على السلطة وتسيير الدولة على شكل نظام الحزب الوحيد، كما هو الشأن في سوريا البعثية. إلا أن محاولتهم باءت بالفشل، فحاولوا عدة مرات إرغام جيش التحرير على الخضوع لهم، إما بالتحايل أو العنف. لكن لم يحصلوا على شيء. الشيء الذي دفع بعصابات حزب الاستقلال إلى شن حملة التصفية لأعضاء وقادة جيش التحرير. وفي يوم 14 يونيو 1956 تم اغتيال عباس لمساعدي، زعيم جيش التحرير. ويعتبر الحجاج والمهدي بنبركة (عريس الشهداء حسب أدبيات الاتحاديين) من المتورطين الأساسيين في اغتيال الشهيد عباس لمساعدي، بالإضافة إلى أن جل المجازر والتصفيات الجسدية التي وقعت ما بينه 1956 و 1960 كانت تتم بأمر المهدي بنبركة(7)، الذي يعتبر أحد كبار مهندسي ”الاحتقال“، والذي عرّف الأمازيغي بأنه «شخص لم يلتحق بعد بالمدرسة»(8)، كما قال عن انتفاضة الريف لـ1958 بأنها «انتفاضة إقطاعية!». لقد كان اغتيال عباس لمساعدي إذن بداية النهاية لجيش التحرير. يقول كمال الدين: «بعد اغتيال عباس أصبح جيش التحرير عاجزا وأدمجت بعض أجزائه الفعالة فيما نسميه بالقوات الملكية المسلحة»(9). ويقول A.Coram: «..كان جيش التحرير قد تخلى عن السلاح استجابة لمحمد الخامس في يوليوز 1956 بعد شهر من التمرد الذي خربت فاس أثناءه»(10). في حين يقول David Seddon: «إن المنطقة بين تطوان والناظور كانت ما تزال تخضع لنفوذ أعضاء جيش التحرير الذين رفضوا الانضمام إلى الجيش النظامي في أواخر سنة 1956 وأصروا على مواصلة المعارك ضد الاستعمار»(11). في الجانب الحزبي، صعدت ميليشيات حزب الاستقلال من حملاتها المسعورة ضد كل معارض للحزب المستبد، فوقعت فظائع وتجاوزات كثيرة(12) ارتكبتها تلك الميليشيات المسلحة الإرهابية من اختطافات وتعذيب وتصفيات جسدية أمام أعين السلطات التي كانت تؤويهم وتحميهم. ولتحقيق الغرض أنشئ أكثر من مائة مركز للتعذيب والاعتقال في كل أنحاء البلاد. وفي ما يلي بعض المخافر والمعتقلات السرية الجهنمية بالريف: ـ كهف لارينكون في طريق تطوان سبتة. عزبة بضواحي تركيست. ـ المعهد الديني بالحسيمة. ـ دار حارس الغابة بالحسيمة. ـ أجدير حيث كانت دائرة قبيلة آيث ورياغل. ـ أربعاء تاوريرت في إدارة آيث بوعيّاش. ـ عزبة بسفح جبل أزغنغان بضواحي الناظور. ـ دار قرب قرية زايو. ـ كهف ببويكور بقبيلة مطالسة. ـ تيزي وسلي حيث كان مركز جيش التحرير. عين باردة بضواحي وزان. ـ جنان بريشة بتطوان. الانتفاضة الريفية (1958 ـ 1959): في اليوم الثاني من شهر أكتوبر 1958 تم نقل جثمان عباس لمساعدي من محل دفنه الأول بعين قادوس بفاس إلى مقبرة الشهداء بأجدير بمنطقة أكنول. وقد تصادف ذلك مع ذكرى اندلاع ثورة 1955 لجيش التحرير. فتحول حدث نقل جثمان عباس إلى غليان شعبي ومظاهرات كبيرة قام بها أهالي المنطقة ضد ”حگرة“ وإرهاب الحزب الديكتاتوري. أمام هذا الوضع استنجد حزب الاستقلال بميليشياته المسلحة التي حضرت بشاحناتها المحملة بأعداد كثيرة، فاندلعت أحداث الخميس الأسود التي دارت أطوارها في مقبرة الشهداء، وسقط الكثير من القتلى على أيدي أجهزتهم القمعية، وتم اعتقال زعماء المنطقة: مسعود أقجوج، الحاج أبقري، الزكريتي... وبمجرد تسرب خبر الاعتقال، ثار السكان وهجموا على أوكار حزب الاستقلال واشتبكوا مع عناصره مستعملين الحجارة والهراوات. وفي الأخير أفرج عن المعتقلين. وعقب ذلك قامت الجماهير الغاضبة بقيادة مسعود أقجوج ورفيقه الحسن بن ستيتو بالاعتصام في الجبال، وخاصة في جبل ”كوين“. ثم أخذت حركة العصيان تمتد حتى شملت قبائل تونات وجبال جرادة وحركة بن الميلودي بولماس، وحركة موحا اوحدّو في آيث واراين، ومحمد الحاج سلام امزيان بالحسيمة. ناهيك عن حركة عدي أوبيهي عامل تافيلالت وحركة لحسن اليوسي بصفرو ضد طغاة حزب الاستقلال. وفي منطقة آيث حذيفة، في شهر أكتوبر 1958، تم الهجوم على مقر حزب الاستقلال وهدمه. عقب ذلك تم عزل قائد المنقطة عبد السلام البقيوي، الذي كان ضمن ضباط جيش التحرير، بسبب معارضته سياسة حزب الاستقلال، على غرار ما وقع لباقي قادة جيش التحرير بمناطق أخرى، كما هو الشأن بالنسبة للقائد مسعود أقجوج الذي عزل من منصبه بمنطقة كزنّاية، ليحل محلهم الموالون لحزب الاستقلال الذين عاثوا فسادا وظلما بالريف. وأمام تزايد إرهاب الدولة الممثلة في حكومة بلافريج الاستقلالية في خريف 1958، تطورت الانتفاضة الشعبية بشكل قوي يصعب إيقافها، خاصة بمنطقة آيث ورياغل، هذه الانتفاضة التي ستعرف في التاريخ عند سكان المنطقة بعام ”إقبّارن“، أي عام تواجد الخودات العسكرية. وكان قائد الانتفاضة هو الحاج سلام أمزيان، المعروف لدى الريفيين بـ”مِّيس ن رحاج سلام“. وقد دعا الجماهير الريفية إلى الاعتصام بالجبال وعدم التعامل مع المخزن الاستقلالي والامتناع عن النزول إلى العمل كجزء من العصيان المدني. فتشكلت بعد ذلك ”حركة التحرير والإصلاح الريفية“ وأصدرت ميثاقها الثوري يوم 7 أكتوبر 1958 وقدمت 17 مطلبا، من أهمها: ـ العمل على تسيير الريف من طرف الريفيين ـ عودة مولاي محند ـ إطلاق صراح المعتقلين والمختطفين ـ جلاء قوات المستعمر وعملائه (حزب الاستقلال) عن الريف. ـ استفادة الريف من التمثيلية السياسية. فكان رد حكومة بلافريج على المطالب الريفية العادلة اختطاف احد أبرز قادة الانتفاضة حدّو أقشيش، الذي لم يظهر له أثر إلى يومنا هذا. يقول مّيس ن رحاج سلام عن طريقة اختطافه: «اختطف حدّو أقشيش من بيت والدته، التي حاولت مساعدته على تسلق الجدار لكي يهرب، لكن بن عبد الله موح أمزيان أبعد الوالدة وأمسك بحدّو أقشيش وانزله إلى الأرض»(13). يقول الهاشمي عبد السلام الطود في هذا الموضوع: «..في الحقيقة تحول كل شيء إلى مأساة بعد اعتقال واختطاف المناضلين واعتقال العائلات ومحاكمتهم، مثل ما فعلوا بعائلتي من انتقام (اختطاف والده) وكذلك عائلة حدّو أقشيش الذي حوكم والده بعد ذلك بعشر سنوات سجنا»(14). أمام هذا الإرهاب، قام الثوار بتشكيل تنظيم مسلح يحمل اسم ”جبهة النهضة الريفية“ دفاعا عن الكرامة الريفية، فاندلعت معارك مسلحة ومواجهات دامية في مناطق كثيرة من بلاد الريف. ففي منطقة تركيست قام الشريف الخمليشي المعروف بمحمد سليطن بتفجير بعض القنابل(15) في الإدارات الاستقلالية وانتفضت جماهير المنطقة ضد طغيان حزب الاستقلال وأصبح ميس ن رحاج سلام ومحمد سليطن زعماء المنطقة. تقول مجلة لوسبير أتو دو مويان اوريون: «في جبال الريف، وفي بني يزناسن سجلت عشرات الهجومات على مكاتب ممثلي حزب الاستقلال»(16). وفي سوق إمزورن اشتبك السكان المسلحون بالآلات الحديدية والعصى مع القوات المخزنية لتعم المواجهة بعد ذلك كل أسواق آيث ورياغل. أمام هذا الواقع شكلت حكومة أخرى، من الجناح اليساري، هذه المرة، المتطرف لحزب الاستقلال يقودها عبد الله إبراهيم، وبدأت في قمع وسحق انتفاضة الريف. وفي التاسع من يناير 1959 وصل الحسن الثاني، ولي العهد آنذاك، رفقة أفقير، إلى مدينة تطاوين على رأس 20000 مقاتل تم إنزالهم على سواحل الريف. أثناء ذلك أعطى السلطان محمد الخامس مهلة 48 ساعة للثوار المعتصمين في الجبال للنزول والاستسلام. إلا أنهم رفضوا إلى أن تستجيب الدولة ـ الاستقلالية طبعا ـ لمطالبهم. وهنا اضطر المخزن لاستعمال القوة. يقول الحسن الثاني في هذا الصدد: «لم يكن أمامنا أي خيار أمام عناد الخصم»(17). فتم الهجوم على آيث بوعيّاش وإمزورن وآيث حذيفة وإبقيون وأربعاء تاوريرت... في آيث توزين بآيث بوعيّاش تمكن الثوار من قتل 25 عسكريا واستولوا على أسلحتهم(18). وفي آيت حذيفة تمكن زعيم الثوار عبد الله تهامي من قتل 40 جنديا، وتعرف الواقعة عند السكان بـ”عام ن رثنين“، نسبة إلى السوق الذي كان يعقد هناك كل إثنين. في الجانب الآخر، يقول الجندي الحاج محمد حمادي علوش الذي كان في صفوف القوات المسلحة الملكية: «كنا حوالي 1200 جندي بقيادة ماستور دولاغير أفقير، وبدأنا نضرب من الخلف. كان أفقير يرصد بمنظاره السكان الذين يجتمعون حول القنابل، فتنفجر عليهم. سيطرنا على أربعاء تاوريرت والتقينا بالباطايون الخامس الذي كان محاصرا من طرف مسعود بويجضاض، أحد زعماء العصيان. بعدها نزلنا بباينتي. كان الكومندار الشرقاوي، شاف دو باطايون يعطينا الأوامر بالضرب»(19). وفي شهر فبراير 1959 تعرضت قرى الريف للقصف الجوي المكثف لمدة أسبوع ليل نهار، وشاركت فيه الطائرات الفرنسية(20)، وقد شارك الحسن الثاني نفسه في هذه الحملة العسكرية على الريف(21) وأصيبت طائرته بطلقات نارية أطلقها الثوار الذين كانوا يحاصرون مطار الحسيمة. إرهاب الدولة بالريف المنسي: لقد كان الهجوم عنيفا ووحشيا، واستعمل الجيش القنابل والدبابات والمدافع الرشاشة بشكل عشوائي وهمجي، واحتل الكثير من مراكز الثوار، وقام تمشيطها عن طريق القصف المكثف. وتمت مداهمة المنازل واعتقال الثوار(22) وإشعال النار في أكوام التبن والمزروعات وتقتيل الأطفال وذبح الأشخاص وبقر بطون الحوامل واغتصاب النساء والفتيات وشتمهن بكلمات نابية تحقيرية... ولتقريب القارئ أكثر من بشاعة الجرائم القذرة التي اقترفتها الدولة في حق جزء من الشعب الأمازيغي، نورد ما يقوله أحد الناجين من مجزرة عام ”إقبّارن“: «بأم عيني رأيت جنديين يقبضان كل واحد من جهة برجلي طفل صغير كان يصرخ بقوة، ويمزقانه، وكيف اغتصبت النساء وبقرت بطون الحوامل كأنهم يحاولون وأد بذور الثورة في الأجنة»(23). ويضيف أحد أبناء المنطقة إلياس العماري، رئيس جمعية الدفاع عن ضحايا الغازات السامة بالريف: «فأثناء هجوم الجيش بحثا عن الرجال الذين شاركوا في الانتفاضة الشعبية بالريف، كانوا يعبثون بكل شيء، يغتصبون النساء، يعاملون الأطفال بوحشية. أحست جدتي بالخطر، وحفاظا على أمي من أذى العسكر، قامت برميها في حفرة بها نبات ”الزرب“ وغطتها بأشواك يابسة. وحينما فتش الجنود في كل أركان البيت دون أن يعثروا على شيء ضربوا جدتي بأعقاب البنادق وقاموا بإشعال النار في الأشواك التي كانت تخفي أمي. ولولا ذهابهم بسرعة، ولولا الألطاف الإلهية لاخترقت أمي أو اختنقت بالدخان، وبالتالي لما كنت اليوم حيا أرزق». ويضيف إلياس العماري: «...إن بعض الجنود كانوا يبقرون بطون النساء الحوامل ويقتلون الرضع بشكل همجي... بل إن الأمر وصل بالجنرال الدموي بمعية آخرين، أنهم كانوا يضعون قنابل موقوتة في ”قب“ جلابيب المواطنين ويأمرونهم بالتسابق دون أن يعرفوا القدر الذي ينتظرهم، إذ على بعد 100 أو 200 متر ينفجر هؤلاء البسطاء على مشاهد نيرونية»(24). ولا يفوتني هنا أن أذكر الطريقة البشعة التي قتلت بها ابنة قائد الثورة محمد الحاج سلام أمزيان، الطفلة الصغيرة نعيمة التي داستها سنابك خيل المخازنية فبقرت بطنها واستشهدت في الحال. لقد ظلت المنطقة على هذا الشكل لمدة أربع سنوات إلى غاية 1962، ظلت منطقة عسكرية منع بها كل شيء: السياسة، الصحافة... وبلغ عدد الضحايا منذ اندلاع الثورة الشعبية 8000 شهيد وآلاف الجرحى. يقول جيل بيرو في كتابه ”صديقنا الملك“: «إن القمع كان شرسا وعنيفا، وقدر عدد القتلى بالآلاف». وتم دفنهم في مقابر جماعية بآيث بوعيّاش وآيث حذيفة وإمزورن وغيرها.. والناجون من هذه المجازر يعرفون أماكن القبور. وعن المقابر الجماعية يقول مولاي محند: «... ففي تيزي وسلي بقبيلة كزنّاية حشروا 82 ضحية في كهف يقع في طريق تيزي وسلي ـ تالت مغيث ـ وغطّوهم بالتراب وهم أحياء بعدما عذّبوهم وشوّهوهم. وفي أجدير يقبيلة آيث ورياغل بمقاطعة الريف الوسطى حشروا 75 ضحية وقتلوهم رميا بالرصاص بعدما عذّبوهم وشوهوهم وكانوا يدفنون تحت جنح الظلام في أماكن مختلفة، مبعثرة هنا وهناك، ولكنها معروفة لدى المهتمين... وفي أربعاء توريرت ببني بوعيّاش بمقاطعة الريف الوسطى حشروا 35 ضحية قضوا فيها ثلاثين شهرا كلها تعذيلب وتنكيل، وأخيرا قتلوهم عن آخرهم. وبالضبط نقلوهم من هناك ليلة 6/10/1958 وقتلوهم ليلة 7/10/1958 بغابة على شاطئ بقبيلة بقيوة. وكلهم من أبناء الجنوب... وفي المعهد الديني بالحسيمة قتلوا 25 فردا ودفنوهم بنفس المعهد ووضعوا عليهم البلاط في بيوت معروفة... »(25). والقائمة طويلة... خاتمة: في الأخير ندع الشهادات تحكم على نفسها عن دواعي قيام الانتفاضة الريفية المجيدة (59 ـ 58)، عام ”إقبّارن“. عن هذه الانتفاضة يقول مولاي محند: «... لقد اندلعت الآن مرة أخرى، ثورة شعبية بزعامة القائد محمد أمزيان، ليست ضد الاستعمار فحسب، بل ضد عملائه أيضا بالدرجة الأولى»(26). أما متزعم الانتفاضة مّيس ن رحاج سلام أو قائد الريف كما لقبه مولاي محند، فيقول: «... هي انتفاضة شعبية معادية للاحتلال الأجنبي وحلفائه الحزبيين. تحولت إلى ثورة شعبية ضد قوات الاحتلال والحزبية الحاكمة لصالح هذا الاحتلال الأجنبي. انتفاضة وثورة قادها ونظمها مؤمنون بالعمل الوطني الميداني، لا بالعمل الحزبي العائلي ولا بالمراسلات والمنشورات. فتلك عملة الأجنبي تكرم بها على الحزبية المغربية. ونحن نرفض التعامل بها لأنها زائفة. ثورة قام بها رجال وزملاء وإخوان وأحفاد وتلامذة الأمير عبد الكريم الخطابي في بني ورياغل مسقط رأسه ومقر قيادة عمليات حربه التحريرية التي قادها في العشرينات: هؤلاء هم مسؤولو هذه الحركة الثورية. وكان لي شرف رئاستها برغبة المجاهدين رغم اعتراضي وإصراري على أن أكون جنديا في الميدان». ويضيف: «لقد وجدنا أن كل الملبسات تدعونا إلى القيام بهذه الحركة لإنقاذ الوطن من الانهيار، وإلا فسوف لن يرحمنا التاريخ والأجيال الصاعدة»(27). المراجع: 1 ـ مولاي محند: «وقد اقتدت جماعة الرباط بجماعة تونس المستقلة فأبرمت اتفاقية أيكس ليبان إلى حيز العمل وأخذت تدلس وتغري المغرب بالكلام المعسول، وهي سائرة في نفس طريق اتجاه تونس. وستطالب المناضلين بإلقاء السلاح. فبعدما طلبت منهم الهدوء بحجة أن المفاوضات لا تكون إلا في هدوء، والهدوء لا يكون إلا بإلقاء السلاح وتسليمه لهذه الجماعة الرباطية الجالسة على عرشها، حيث يتفرغ الأعداء للقضاء على الجزائر. فحذار من السقوط في الفخ المنصوب. وإننا على يقين من أن الشعب سوف يستمر في الكفاح والنضال»، مجلة ”أمل“، عدد 8، سنة 1996. 2 ـ جريدة France-soir 3 ـ مولاي محند: «... لقد وصلت بهم الجرأة إلى تجنيد مفاوضة فرنسا التي تهدف أولا وأخيرا إلى استسلام المجاهدين الأبطال... أليست مفاوضة أيكس ليبان واتفاقية جي مولي ـ بورقيبة هي التي كانت في حقيقتها مؤامرة للقضاء على البلاد، نجح فيها العدو وعملاؤه بتخدير الشعب التونسي والمراكشي حتى يطمئن للاستقلال المزيف»، رسالة مولاي محند إلى محمد حسن الوزاني، ”العالم الأمازيغي“، عدد 17 ـ 18. 4 ـ مولاي محند: «لقد قام حزب الاستقلال والحكام بخداع المغاربة واغرقوا البلاد في الفوضى وتآمروا مع فرنسا»، ”العالم الأمازيغي“، عدد 24 يوليوز 2002. 5 – Clod Polazoli, "Parti de l'Istiqlal", Paris1960, page 135. 6 ـ المحجوبي أحرضان أو أشلحي ن سربيس: مباشرة بعد أحداث الريف الدموية تولى منصب وزارة الدفاع بعدما مر بمنصب عامل الرباط وسلا. 7 ـ يقول جون وارتربوري في كتابه ”الملكية والنخبة السياسية بالمغرب“:«لقد أراد بنبركة أن يجعل من حزب الاستقلال التنظيم السياسي الوحيد بالمغرب. ولتحقيق هذا الهدف لم يتردد في دفع الحزب إلى صراع دموي ضد المقاومة وجيش التحرير. في هذا الصدد يندرج اغتيال عباس لمساعدي مسؤول جيش التحرير بالريف». ثم يضيف: «ينتمي قادة المقاومة إلى مناطق مختلفة ولم يضعوا أبدا ثقتهم الكاملة في قادة الحزب: بوعبيد، بنبركة وابن الصديق، وقويت شوكتهم بعد اغتيال عباس لمساعدي بفاس في 27 يونيو 1956، والذي تم حسب ما قيل بأمر من بنبركة. وقد ازداد التوتر بينهما بعد مفاوضات أيكس ليبان». في حين يقول عبد الله الكنوني ـ جسر التواصل، عدد 20 ـ 22/4/200: «إن جميع التصفيات الجسدية والاغتيالات التي تمت بين سنوات 1956 ـ 1960 كان المسؤول عنها بشكل مباشر بنبركة والقيه البصري والأعرج». في كتاب ”ذاكرة ملك“يقول الحسن الثاني: «كان جيش التحرير والمقاومة يشكلان جناحين مختلفين، كانت المقاومة المنتشرة في المدن على الخصوص، حساسة للغاية تجاه خطاب الأحزاب السياسية. وقد أراد بنبركة تسييس جيش التحرير أيضا... وكان هدفه بنبركة إخضاع التسعة أو العشرة آلاف رجل المكونين لجيش التحرير ليهيمن حزب كان سيصبح حزبا وحيدا. ونتيجة لذلك التحرك تم اختطاف واغتيال أحد مؤسسي جيش التحرير واسمه عباس مساعدي... وابتداء من ذلك لم اعد أكنّ له الاحترام الذي كنت أكنّه لأستاذي (بنبركة)». 8 ـ انظر كتاب ”المغرب في امتحان“ Le Maroc à l'épreuve لجان وسيمون لا كوتور. 9 ـ كمل الدين مراد، La Maroc à la recherche d'une révolution, Sindibad, page 60. 10 ـ A.Coram في Nation in North Africa, Arabs and berbers from tribes to rica, page 271. 11 ـ David Seddon, Moroccan pesants 1870 – 1970, page 176. 12 ـ نترك هذا النص بدون تعليق: «وقف رجلا خطيبا، وعلى الأسئلة رادا ومجيبا. فقال لو كانت الشمس لنا، لمنعناها أن تضيء إلا جمعنا وحزبنا، ولو كانت الأمطار في قبضتنا لأمرناها أن تلزم عرصتنا. سدّوا الطرق على المخالفين حتى يأتوا إلينا خائفين، لا إكرام ولا تشريف ولا عمل ولا وظيف، ولا خبز ولا رغيف إلا من أتى بورقة التعريف، وعليها الخاتم الظريف. هكذا علمنا مكيافيل، وهكذا أمرنا كوبلز وعبرائيل، فأقسموا الأيمان الغلاظ. إنكم ستكونون الأشداء الفظاظ. وليتجرد كل واحد منكم من قلبه وروحه ولبه. إياكم أن ترحموا من المخالفين دامعا أو تطعموا جائعا ولو كان معتزا وقانعا. اطردوا العامل من ورشه وأخرجوا الفقير من فرشه، ولا توظفوا المخالف المعاند، واطردوا كل حر ومحايد وقربوا الأصدقاء الرائح والوارد ووظفوا الولد والوالد. هذه وصيتي إليكم وتوجيهاتي المجانية لكم، قوموا وغلظوا الأوباش وسوقوهم كالأكباش»، منشور بجريدة ”الرأي العام“، عدد 21، مارس 1957، أورده مصطفى العلوي في كتابه ”الأغلبية الصامتة“. 13 ـ انظر كتاب ”الريف بين القصر، جيش التحرير وحزب الاستقلال“ لمصطفى أعراب، صفحة 102. 14 ـ انظر جريدة ”بادس“، العدد 16 ـ 17 نونبر 2002. 15 ـ كان الثوار يحصلون على القنابل من مّوح أبركان بآيث حذيفة، الذي كان مكلفا بصنع القنابل اليدوية. 16 ـ L'observateur du Moyen-Orient, 28 novembre 1959. 17 ـ انظر جريدة ”الصحيفة“، عدد 47، يناير 2002. 18 ـ يقول الغالي الطود في الرسالة التي وجهها إلى مولاي محند يوم 2 أبريل 1959: «التنظيم بين الصفوف يدعو إلى الإعجاب، ولكنهم بحاجة إلى السلاح. فالقطع التي انتزعها من جيش المستعمرين والحزبيين لا تكفي بالنصر النهائي ولا سيما أن العدو يعرف أن الريفيين إذا وضعوا أيديهم على السلاح، فالنهاية رهيبة لكل الأعداء»، الصحيفة، عدد 47. 19 ـ نفس المصدر السابق. 20 ـ عن تقرير بحنيف (سويسرا) بتاريخ 2 فبراير 1959. أرسل الأمين العام لحزب الشورى والاستقلال محمد حسن الوزاني إلى مولاي محند رسالة يقول فيها: «... لقد تألمت أشد الألم بما علمته حول الوحشية المرتكبة ضد الأحرار بالريف من طرف القوات المضادة تحت قيادة الفرنسيين، ويجب أن نفضح تلك الوحشية بكل تفاصيلها وفضائحها في الداخل والخارج لأنها مجهولة لحد الآن. الصحف الفرنسية الباريزية في الأسبوع الأخير كتبت بصريح العبارة أن حكومة الرباط استخدمت رسميا قوات الاحتلال واستنجدت بالجيش الفرنسي وأن الطائرات التي دمرت ما دمرته في جهة الحسيمة كانت بقيادة الفرنسيين وتحت يدي القصاصات التي ذكرت ذلك، مما يؤكد ما ورد في رسالتكم وأسفاه»، الصحيفة، نفس المرجع المذكور. 21 ـ في خطابه الرسمي إثر انتفاضة 1984، قال الحسن الثاني: «أما سكان الريف فهم يعرفونني جيدا». 22 ـ مولاي محند: «... أما المعتقلون فقد بلغ عدد الذين عذبوا في هذه المعتقلات الجهنمية التي ذكرناها بالضبط والتدقيق 9672، كلها معروفة بالاسم واللقب والعمر والمهنة وحتى الحالة المدنية. لا يتسع المجال لذكرها في هذه الآونة. وأطلق صراح 6520 لغاية 26/2/1960 وجلهم ما زالوا مشوهين ومبتورين من الأعضاء التناسلية أو الأرجل أو العيون أو الأذن. أما الباقي فما زال في غياهب السجون والمعتقلات المجهولة، على أن جلهم قد لاقوا حتفهم من جراء التعذيب»، مقتطف من رسالة مولاي محند إلى الأمين العام لحزب الشورى والاستقلا محمد الحسن الوزاني في 27 يوليوز 1960 من القاهرة، ”العالم الأمازيغي“، العدد 17 ـ 18. 23 ـ الصحيفة، عدد 47، يناير 2002. 24 ـ نفس المصدر السابق 25 ـ مقتطف من رسالة مولاي محند إلى الأمين العام لحزب الشورى والاستقلال، القاهرة في 27 يوليوز 1960. 26 ـ الصحيفة، عدد 47 يناير 2002. 27 ـ نفس المصر السابق.
|
|