|
حول غياب خطاب ثقافي جديد ومؤسس وانتشار ثقافة العنف وفكر التطرف بقلم: فاطمة أذيف (الخميسات) إن الاهتمام بموقع الدين في الفكر والسياسة في الحياة اليومية قد تزايد بشكل كبير في المجتمعات التي تدين بالاسلام، في حين تتزايد العلمنة في الدول الاوربية المتقدمة وذلك بتعميق التوجه نحو إبعاد الدين عن شؤون الحياة، مثل السياسة والاقتصاد والفنون والعلوم... واقتصاره على الجوانب الروحية والنفسية للشخصية، فنجد أنه كلما تقدمت البشرية في البحث العلمي وإنجازاته تقدمت علوم "عجائبية" في المجتمعات المتخلفة وخاصة تلك التي توجد بها تيارات الفكر المتأسلم ضدا على الإسلام . إن مستقبل أي مجتمع مرتبط بالتقدم العلمي والمعرفي، إذ بتقدم العلوم يرتفع مستوى الإنتاج الاقتصادي مما يترتب عنه الرقي الاجتماعي والحضاري والثقافي الذي يكون محوره الإنسان / المواطن، مما يستوجب طرح تساؤل أولي حول ماهية الثقافة التي قدمت وتقدم إلى الشعب، ثم إن أي خطاب ثقافي يحمل في طياته مشروع التجديد إنما ينبني عبر البحث المعرفي في التركيب الاجتماعي الثقافي والسياسي للمجتمع، وعبر حركة التكون التاريخي لمجموع الفئات والقوى الاجتماعية التي استنفدت كل إمكانياتها وشعاراتها في تحقيق تغيير ديموقراطي في بعديه الاجتماعي والثقافي، مما يفرض تنامي قوى يمكنها أن تشكل الحامل الاجتماعي القادر على بلورة عناصر ومكونات خطاب ثقافي جديد ببلادنا مع تفعيل الشعارات والأهداف التي يدعو إليها لضمان ممارسة ثقافية جديدة يرد فيها الاعتبار للمجتمع المغربي من الخذل الذي أصابه تاريخيا في هويته الاجتماعية والثقافية. ـ فهل بالإمكان تأسيس خطاب ثقافي جديد في ظل واقع تغيب فيه الديمقراطية في بعديها الاجماعي والثقلفي؟ ـ وكيف يمكن إطلاق دينامية اجتماعية وثقافية، ومسار نضالي معرفي يؤدي إلى بناء مقومات الخطاب الثقافي المفقود؟ إن ثقافة العنف والتطرف قد أصبحت ظاهرة عالمية في الشمال والجنوب، وفي الشرق والغرب. أما بالنسبة لبلادنا فانتشار ثقافة العنف وانتهاك حق الأفراد والجماعات في الحياة، ليس وليد ظرفية آنية بقدر ما هو نتاج قيمي وسلوكي مرتبط باعتبارات سياسية وتاريخية أدت إلى أقصى درجات الإحباط الإجتماعي والتدهور الفكري والثقافي، حيث أن اشتداد حدة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية من جهة، وتفاقم الأزمة السياسية من جهة أخرى، دفع إلى بلورة إيديولوجية إسلاموية قامت على أساس الغلو في الدين ورفض الاعتراف بشرعية المؤسسات الحديثة التي اقتبست عن أوروبا، مما أنتج فكرا إسلامويا استمد تعصبه من فكر الارتداد الذي قام على القطيعة بين الإسلام والفلسفة الإسلامية، مما أفسح المجال لنمو تيارات التطرف التي زرعت اليأس الأعظم في نفوس وأفكار الشباب، والأجدر بنا أن نسميه الخراب الأعظم، خراب العقل الفعال، وعيا وممارسة في مستوى التحدي التاريخي والحضاري، بحيث لايمكن تناول ظاهرة التطرف دون تحليل بنية شخصية الفرد الذي يتمثل الظاهرة، هذه الشخصية التي تكتسب صفات عديدة مثل الانفعالية وعدم النضج والخضوع، مما يقود إلى نظرة عدوانية تجاه الآخرين. وفي هذا الصدد، نقلا عن مصطفى حجازي: ( التخلف الإجتماعي سيكولوجية الإنسان المقهور) » ...ينشأ نوع من اللحمة العاطفية والوجودية بين أعضاء الجماعة من خلال التعلق بالزعيم الذي يشكل مثلها الأعلى... والمعبر عن أملها وشخصيتها ومخاوفها.... «، فيزداد تماسك الجماعة داخليا وبنفس القدر تكون كراهيتها وعدوانيتها اتجاه الجماعة الخارجية. غير أن الإيديولوجية "الإسلاموية" لاتتحمل وحدها المسؤولية في تعطيل وعرقلة تحقيق ثقافة عقلية تؤمن بالتقدم العلمي وبناء عصر تـنوير ثقافي واجتماعي بالمغرب، بل يبقى أيضا المعبرون عن الإيديولوجيات الأخرى، وخاصة المتبنين لشعارات العروبة والمتماهين وخطاب القومية العربية المشرقية، حيث أغفلوا الدور الطلائعي للمسألة الثقافية ببلادنا، ولم يدركوا أهمية استكمال البناء المجتمعي في جميع أبعاده، خاصة الاجتماعية والثقافية. فبعد الاستقلال والدور الحاسم للشعب المغربي والمقاومة الأمازيغية بالريف والأطلس والجنوب، تم ترتيب المشهد السياسي في البلاد بإبعاد فئات عريضة من الشعب المغربي الأمازيغي، وتعاملوا كما تم التعامل مع قضايا المجتمع بإقصاء البعد الأمازيغي للهوية المغربية، وحينما توفرت لهم الفرصة التاريخية لإعطاء الاعتبار للمكون الثقافي بشقيه الأمازيغي "العربي" ـ عربية الطبقات الشعبية والفئات المهمشة بالمدن والبوادي المغربية ـ وقعوا في الالتباس وخلطوا مابين السطور فوضعوا الديموقراطية الاجتماعية والثقافية مقابل الاحتكارية السياسية. وباسم حرية الوطن راهنوا على حرية المواطن وصادروا حقه في ممارسة شخصيته الثقافية، وباسم بناء دولة المؤسسات اقتصر مفهوم الفعل الثقافي على إنشاء مراكز ومؤسسات تلقن دروس التعريب والعروبية، في حين تم تغييب بيئة ثقافية تسود فيها الديموقراطية وحق ممارسة الهوية الثقافية، هذا الحق الذي يستمد شرعيته واستمراريته من تاريخ شمال إفريقيا وبلاد تامزغا ككل، ابتداء من عهد الكتاب الأمازيغيين خلال مرحلة الدول الأمازيغية القديمة مثل ترثوليانوس حوالي 225 م وأرنوبي الأكبر الذي ولد بإحدى قرى نوميديا في النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي والقديس أغستينوس )354 م-430م( مرورا بأبناء قبائل تامسنا (البورغواطيون) في القرنبن التاسع والعاشر الميلادي، واستقلالهم عن الهيمنة الأيديولوجية السياسية والثقافية للمشرق، وصولا إلى أوجه الخصوصية الثقافية والحضارية التي بلغتها الدولة الموحدية في ق.11 . أما بالنسبة للمجال التعليمي فقد تتسارعت وتيرة التعليم بالمفهوم الأيديولوجي ذي الاتجاه العروبي، في حين تراجع الدور الذي كانت تلعبه الجامعة المغربية بإقصاء شعب العلوم الإنسانية واستبدالها بمواد الدراسات الإسلامية "السكونية"، مما عزز تأسيس العشرات من المدارس الخاصة والجمعيات يحمل بعضها أسماء بعض الأئمة لتلقين تعاليم الوهابية التي لا تمثل الممارسة الحقيقية لمبادئ الإسلام كما تمثلها الأمازيغيون وكل المغاربة في ما مضى كموروث ثقافي وحضاري داخل المجتمع المغربي، فتنامت ظاهرة التطرف وانتشار فكر التخلف والانتظارية يتجلى في إغفال التأطير والتواصل مع الفئات والشرائح الاجتماعية المهمشة التي ترزح تحت نير الجهل والفقر والتخلف، بل وفي أحيان كثيرة أخذ هذا الإغفال طابع التصدي والهجوم على الثقافة العقلية بشكل عام، والثقافة التقدية بشكل خاص، عبر منع العديد من الجمعيات وتسليط الإسلامويين الجدد للإجهاز على المناضلين حاملي شعلة التغيير بالجامعات المغربية. وفي المقابل تم ترسيخ ثقافة سائدة وكسيحة لاتأخذ من ثقافة العقل إلا القشور، وهي بذلك تفتقد للجدلية التاريخية، اذ تتطلع إلى تحقيق واقع متقدم جدا على واقع متخلف جدا دون أن تحلل البنيات الاجتماعية والاقتصادية للواقع المغربي الإفريقي، العالم الثالثي، عن الواقع الأوربي وسياقه الموضوعي والتاريخي، وهي بذلك تبقى ثقافة سائدة تمثل إيديولوجية الطبقات السائدة، لا تعمل على إيقاظ الوعي بل تؤدي إلى الاغتراب عن الواقع عوض الاندماج فيه. بكل هذا احتمت الثقافة الرجعية اللاهوتية وترعرعت داخل الفضاءات التعليمية والثقافية عازلة الثقافة الواعية والعقلية مما أخلى الطريق أمام تناسل جماعات تحمل فكرا يغرق المجتمع في ظلامية الجهل من خلال استنساخ ثقافة الانحطاط والأزمنة البائدة . أمام هذه الإشكالات عجزنا عن تحقيق قفزة ثقافية حقيقية تكرس العقلانية وترقى بالمرأة إلى درجات التحرر المطلوب، وتمكن المواطن من حقه في تعليم حديث وديموقراطي باللغات الحديثة وبلغته الأم مما يحيلنا على سؤال بناء الدولة الحديثة المنفتحة على العصر الذي يقول بالمواطنة الحقة والدستور وحق الإنسان في العيش الكريم، مع تغليب مفهوم الهوية الوطنية على المصالح السياسية بإقٌرار حق التعايش مابين كل مكونات الجنس البشري المغربي وتعميق فهم التاريخ المغربي والهوية الوطنية الأمازيغية التي كانت تجمع يهود ومسلمي ومسيحي بلاد تامزغا. إن أحسن تعبير عن انهيار مجتمع ما هو ظهور ملامح انهيار ثقافته، وتشخيص أعراض انهيار هذه الثقافة في ظهور القيم المنحطة وغياب القيم السامية التي تتجلى في سيادة روح التسماح وثقافة حقوق الإنسان. فباحتساب جدلية التاريخ وشروطه تبقى الثقافة هي اسمى تعبير عن رقي حضارة المجتمعات، فتكون مؤشرا حقيقيا عن وقوع التغيير، إذ يبقى تحقيق الديموقراطية الاجتماعية والتقدم العلمي والمعرفي رهينا بالشرط الثقافي الذي يرتبط بحركة الوعي السياسي حيث يتم لقاء الثقافة المدافعة عن التغيير مع القوى الاجتماعية التي تحمل مشروع هذا التغيير.
إن إنجاز المعركة الثقافية يمثل شرطا رئيسيا من شروط تجاوز التخلف والسير على طريق النهضة لإحلال مفهوم المواطن المستقل بشخصيته وذاكرته الثقافية، وتفكيره المستقل نحو مقاربة مشاكله المستقبلية، محل مفهوم الرعية، فكل الذين مهدوا للديموقراطيات في أوروبا تعلموا الكثير من فولتير، وجاك روسو. وفيما يخص المجتمعات الإسلامية، فالمسلمون الأولون قد أنتجوا علوما كثيرة كانت كلها كونية وإلا لما انتفع بها أصحاب النهضة العلمية والثورة الصناعية في أوروبا، هذه العلوم التي كانت نتيجة انفتاح العلماء المسليمن على علوم الحضارات الأخرى مثل اليونان والفرس والهند وحضارات حوض البحر الأبيض المتوسط، فعصر المأمون عصر الترجمة والازدهار الثقافي والحضاري كان مرتبطا بعلماء الفكر الإسلامي، والفرق الكلامية مثل المعتزلة. إن مشروع بناء خطاب ثقافي واجتماعي جديد سيبقى مطروحا على عاتق المثقفين الوطينين والديموقراطيين من حيث هم الجوهر المحرك للقوى السياسية والخزان المعرفي للحركات الاجتماعية، كما أن تحقيق هذا الخطاب سيكون عبر سن أدوات وأشكال نضالية ذات طابع ثقافي واجتماعي، وعبر علاقة قد تكون في بعض الأحيان معقدة مابين جموع التواقين إلى الحرية ودولة الديموقراطية والمدنية والتمتع بحق ممارسة الاختلاف وبين الطبقات السياسية السائدة أحيانا، و أحيانا أخرى مع منتجي ثقافة التطرف وفكر الللاهوت. إن التاريخ لخير شاهد على المآسي التي ارتكبها فكر التطرف وثقافة التعصب والرجعية باسم مؤسساتها والراعين لها في أكثر من زمان ومكان، حيث سيطرت الثقافة اللاعقلية على الذهن في جل المجتمعات، وسيطر الفكر الرجعي في جل العصور، وانتصرت ثقافة الارتداد التي تستكن للرجوع إلى النموذج التاريخي الذي اكتسب صفة القدسية وبدا أي نقد عقلاني يخرج الأمة من كهوفها المتحجرة يعد نقدا للمطلق المنزه. فاحتمت الفئات النافذة داخل أي مجتمع بالدفاع عن النموذج الموروث للحفاظ على مصالحها، فحدثت مجازر ومآسي تاريخية في حق الفكر والثقافة ابتداء من محارق التفتيش في أوروبا ومحارق الكنيسة التي استهدفت النساء "الساحرات" المثقفات في القرنين 13 و 14 ، وإبادة علماء المعتزلة وإحراق كتب ابن رشد في ساحات قرطبة إبان أوج الحضارة الثقافية لشمال إفريقيا وشبه الجزيرة الإيبيرية، هذه الحضارة التي تفتحت على جل المدارك الفكرية والعلمية المكونة للدولة الموحدية، فحدثت هذه المآسي بإيعاز وتحريض من فقهاء الرجعية والظلامية، وصولا إلى شهداء الفكر والحرية، لونيس معطوب، سيفاو المحروق، فرج فودة، عمر بنجلون، ولا ننسى التهديدات والفتاوى بالقتل في حق مواطنات ومواطنين يؤمنون بزمن العقلانية والتقدم العلمي وضرورة إشراك المرأة في جل دواليب الحياة . بعض المراجع التي تم الاستئناس بها لكتابة هذا المقال: 1- كتاب "السياسة والثقافة"، إشراف د. فيصل دراج. 2- مقال "لمحة من تاريخ شمال إفريقيا"، ذ. حسن اوريد مجلة "تيفاوت"، عدد 11 شتاء 1998-1999. 3- كتاب "لمحة عن ثلاثة وثلاتين قرنا من تاريخ الأمازيغين" : ذ. محمد شفيق 4- مقال "الإرهاب ظاهرة خطيرة تحتاج إلى تعريف متفق عليه دوليا"، مجلة مابريس- عدد 6 يوليوز 1997. 5- كتاب "أزمة الإسلام السياسي"، د. حيدر ابراهيم علي . |
|