|
المغرب وثمن العروبية ـ جميعا لرد الاعتبار للشخصية المغربية بقلم: صالح آيت عسّو (تنغير) إن وقع انهيار جدار برلين على المعسكر الشرقي، آنذاك، في نهاية أطوار صراعه مع العالم الرأسمالي، يماثله عند واقع العروبيين انهيار تمثال صدام حسين، "الشهيد السياسي" ببغداد، وما يحمله ذلك من دلالات عميقة ترتبط كلها بسقوط مجموعة من التصورات والمفاهيم التي كانت تحكم نظرهم للواقع، وتشّكل أساسا لبناء أو دعم تصورهم لما يسمى بواقع العالم العربي. فبقدر ما فرح سكان ألمانيا الشرقية ولم يتمالكوا أنفسهم وهم يرتمون من الجدار حتى قبل هدمه، بقدر ما هرول العراقيون، المتعطشون للحياة، عفويا نحول ذلك التمثال/الرمز إلى جانب الرموز الأخرى، للتمثيل به أشنع تمثيل. وللمتأمل المتأني لتلك التصرفات أن يدرك مغزاها الحقيقي ـ مستحضرا علاقة الحاكم بالمحكوم في بعض البلدان المتخلفة التي ما زالت تفضل العيش على هامش الحضارة العالمية وقيمها السامية المكرمة للإنسان أولا وأخيرا. كما أصبح واضحا لكل متتبع أن العالم يضم ثلاثة أصناف من الدول. أما الأولى فتلك المزدهرة التي كرمت شعوبها حيث تعيش حقيقة في ظل العدالة والديموقراطية الحقة والرغد الاقتصادي، ثم هناك أخرى مدركة لطريق الأولى وهي تسعى للحاق بالركب.وثالثا نجد دولا لم ترغب بعد في الخروج من تخلفها الذي يبدو أنها تستطيبه حيث الشعوب لم تتحرر بعد وما زالت تعيش مرحلة تم تجاوزها منذ قرون من قبل الدول المتقدمة. وكما نلاحظ فالدول
العربية، أو المسماة كذلك عسفا، لم تعط بعد بوادر حقيقية تبشر بتحررها من أثقال
ومفاهيم جديرة بالقرون الوسطى، بل إن ما يظهر أحيانا هو مجموعة من القوى التي تجذب
هذه المجتمعات نحو التخلف ومزيد من التقوقع أو مواجهة الآخر. وما ذلك إلا محض تدمير
ذاتي وهدر للطاقة والوقت. ونرى أن غياب النقد الذاتي، وعدم التعاطي بنوع من
العقلانية والمنطق مع التاريخ وحاضر هذه الدول ـ عند جزء كبير من نخبها ـ بعيدا عن
أية نزعة دينية أو عنصرية تمجد الذات وتجرّم الآخر، وكذا غياب مجتمع مدني متنور
قادر على إحلال تغييرات جوهرية في عقليات الشعوب والأنظمة، أديا إلى تكريس الأزمة
وإبقائها على حالها. ولما تم رهن مصير المغرب ـ مراكش ـ بهذا القدر العروبي
المتأزم، فقد تلاحقت عليه الآفات والمعضلات الموجعة ـ كما بينا ذلك في مقالات سابقة
ـ وهو البلد الذي كان إلى عهد قريب فاعلا بشخصيته الفريدة، مهاب الجانب في حوض
المتوسط. وفيما يلي سنحاول ملامسة بعض جوانب هذه الأزمة من الناحية الثقافية لنخلص
إلى أن بلدنا ما زال يفتقد نخبة مستقلة وتقدمية ضاغطة قادرة على الفعل في المجتمع
المغربي. وهكذا، عوض الانطلاق من الحقيقة السوسيوثقافية والجيوسياسية للمغرب، وبالتالي ربطه ـ كما كان دائما في تاريخه ـ بشأن البحر المتوسط حيث العالم المتقدم المجاور للعيش معه في ظل القيم الخيرة والحداثية التي تتمتع بها شعوبه، تم رهن مصير المغرب بقدر أمة شبح لم يسبق أن قامت لها قائمة على طول التاريخ حيث قيدت أجنحة بلادنا بسلسلة ثقيلة موشومة بالهزائم والانقلابات والديكتاتورية والقوى الجارة شعوبها نحو القهقرى. وفوق ذلك قيد الوعي الجمعي بأغلال من القيم البالية والمفاهيم القروسطوية وأنماط من التدبير والتفكير متخلفة. فلم يكن حظ المغرب من هذا إلا الآفات والمؤامرات وآخرها الإرهاب في طبيعته الوهابوعروبية. ولم يجْنِ الشعب بدوره إلا استلابا واجتثاثا لمقوماته الشخصية التي ظلت لصيقة به منذ الأزل إلى عهد قريب. وهكذا عندنا في مراكش (المغرب) لا يمكن للمواطن البسيط، وحتى المفكر العروبي، إلا أن يشعر بالنقص والسذاجة وهو أمام عرب الشرق. إنه الذل بعينه. فهو يتكلم لغتهم ولهجاتهم ـ متنازلا عن لسانه ـ ويتابع إعلامهم (إذ لا يري الحقيقة إلا فيه!) ويقرأ كتبهم ومجلاتهم الرخيصة (حيث يتخذها مرجعا وسندا) ويستطيب "فنهم" حيث يتمايل له، محتقرا أصالته. باختصار، لقد صار مخدّرا سجينا لرؤاهم وإيديولوجيتهم، وليتها كانت عقلانية حداثية! وفي المقابل، وهم يؤمنون بعروبتهم، لا يجدون من ينصت للأشياء الهجينة ـ غالبا ـ التي ينتجونها، من المشارقة. فقد صاروا ببغاوات تردد بشكل رديء. فإذا كانت هذه التبعية قدرا محتوما على المغرب، فلماذا لا تكون تجاه العالم المتحضر؟ لقد أصبح لدينا شعب يعاني انفصاما شخصيا يحس بالغربة والحرمان الثقافي في أرضه. وعوض الانكباب على معالجة هذه الأمراض والبحث عن سبل الرقي وإعادة التوازن للشخصية المغربية، يتم إرهاقه بالأسطوانة الصدئة عن الوحدة والعدو والقومية وكأن العروبة هي الخبز والمفتاح السحري لكنز الدنيا قبل جنة الآخرة. إنها مفارقة عظيمة أن نرى دول أميريكا الجنوبية (وليس اللاتينية) تفتخر بشخصيتها المستقلة وهويتها الفريدة ولغاتها، رغم أن هذه الدول تشترك في لغة معينة ودين معين مع القوى الاستعمارية السابقة التي اقتحمت هذه الأرض، ليس تحت يافطة نشر الدين المسيحي (وإن تم ذلك)، وإنما بدوافع اقتصادية بالدرجة الأولى كما لم تخل من منافع علمية. والآن لا نسمع عن الأخوة أو وحدة المصير أو القومية اللاتينية وحتى الإسبانوفونية مثلا على أقل تقدير. والعالم يرى اليوم كيف تسير هذه الدول نحو مصاف الكبار. أما عندنا هنا في شمال إفريقيا، فقد تم الغزو باسم الدين الإسلامي، ووفق مبادئ الإسلام كما أُخبرنا. وانسجاما مع حقائق التاريخ وواقع هذه الرقعة فأي حديث عن الأخوة باسم العروبة أو القومية والوحدة اللغوية يعتبر باطلا، لأن نشر الدين الإسلامي ليس هو مسخ لسان الناس ونسخ هويتهم وعوائدهم ووصفهم تمييزا واحتقارا بغير حقيقتهم. ويجب أن نسجل هنا أن العرب هم الجنس الوحيد الآن الذي ما زال متشبثا بوصف الأمازيغ بالبربر، أي الهمج. ونسجل أيضا أن ترجمة Berbère بـ"بربري" تعتبر خاطئة بشكل فادح. وما زال هذا الخطأ يرتكب مع الأسف حتى من طرف بعض الأمازيغ. كما أن نشر الإسلام وقيام الدولة الوطنية المسلمة ليس هو بالضرورة منع الشعب من ممارسة حقوقه الأساسية على غرار باقي شعوب العالم الغنية والفقيرة. لقد كان هذا كافيا للاستدلال على النوايا الحقيقية للسياسيين والمثقفين الرسميين في هذا العصر ببلادنا. لقد قادوا منذ عام 56 سياسة خطيرة ترمي إلى تجفيف منابع واحدة من أعرق الحضارات بحوض المتوسط والانتهاء منها مقابل لا شيء. إنها إبادة ثقافية يسجلها التاريخ عليهم دون سواهم. وهذا الإنجاز يعتبر من الإنجازات الفعلية للعروبو ـ إسلاموية إلى جانب الآفات الأخرى التي تحمل الخاتم نفسه. ولها أن تفتخر بذلك أمام العالم المتقدم الذي يتباهى بالديموقراطية والتكنولوجيا وحقوق الإنسان وتكريمه. فكم من حضارة احتك بها شمال إفريقيا وكم من قوة استعمارية عانى منها ولم تهدده في وجوده الثقافي والحضاري حتى جاءت الإيديولوجية العربو ـ إسلاموية لتخلق واقعا آخر عبر مسار تراجيدي بئيس يأتي على كل مقومات شخصية الإنسان المغربي الحقيقية، ويخلق شخصية هجينة ضعيفة الروح يغيب عنها الحس الوطني الحقيقي، تمجد الآخر وتحتقر الذات. 2 ـ عروبية المثقف المغربي أزمة أخرى: سبق أن تحدثنا في مقال سابق (انظر تاويزا، عدد 75) عما سميناه بعقوق المثقف أو السياسي المغربي. بيد أنه ليس كأي عقوق. بل هو عداء وسعي دؤوب سادي مازوشي في الوقت نفسه يضرب في العمق الذات المغربية وأصالتها. إنه عقوق ثقافي ناجم عن عدم القدرة على الرجوع والتصالح مع الذات/الأم. فكان الخيار تدميرها نهائيا في سبيل خلق ذات أخرى بديلة. وهذا ما يفسر هذه الآراء المتطرفة التي نسمعها من هنا وهناك. إنه تخريب ذاتي يمارسه هذا المثقف بتقمصه شخصية القومي العروبي الحامل لهموم الأمة الساعي إلى التوحيد، توحيد كل شيء. وهذا هو سبب معاداة الحركة الأمازيغية للعروبية وليس العروبة. فهذا المفهوم القومي يمكن أن يوظف في دولة من دول الخليج مثلا أو الشرق الأوسط، حيث توجد تلك الشعوب "العربية". فالعروبية تفترض وجود العروبة، وبالتالي فتداول هذا المفهوم وترويجه في بلادنا لا يمكن إلا النظر إليه باعتباره تدجيلا ودفعا للمغرب نحو الهاوية. ولم تكن العمليات الإرهابية لـ 16 ماي إلا واحدة من ثمار هذه السياسة التي تجعل المواطن المغربي يرى أقرباءه وضيوفه أعداء يحل فيهم الجهاد أو تجعل إمام المسجد من على المنبر يحرض على الفتنة بقذف جزء من الشعب وربطه بألد أعداء هذه "الأمة"! إن الترويج مثلا ـ في مختلف النشرات الإخبارية الرسمية بأن الأرض الفلسطينية أرض "عربية" محتلة، وأن المغرب جزء من الأمة العربية إلى جانب الصورة المكونة حول اليهود والإسرائليين، لكافٍ بخلق انحاريين من طينة منفذي عمليات الدار البيضاء، دون نسيان العامل الديني ومفهوم "الجهاد"! ففي وعي الإرهابيين كما شكلته الثقافة الرسمية وغير الرسمية السائدتان، الأرض واحدة والمصير واحد والقضية واحدة، إذن فالعدو واحد. فلا يهم إذن مكان القيام بالجهاد! إنه أمر بالغ الخطورة أن يفجر إثنا عشر فردا مغربيا أنفسهم دفعة واحدة وفي وقت واحد وكأننا في حرب تحريرية! بل إن هذا لم يحدث حتى في فلسطين ولا في أية دولة عربية "حقيقية" وفي أيام العرب ضد إسرائيل. إن هذه العمليات حافلة حقا بالدروس لمن أراد أن يعتبر. ويستمر "مثقفونا" القوميون وكذا الإسلامويون في منهجهم الرجعي العدمي، من خلال ما سمعناه مؤخرا عن بيان تنديدي تم إصداره بمناسبة زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي للمغرب. وقد كان عليهم فعل العكس، والترحيب بضيف المغرب. وهذه مرة أخرى تبين فيها المؤسسة الملكية حكمتها وتبصرها، بينما تبين هذه المجموعة من الناس تفاهة تفكيرها. ولو تحلى هؤلاء بنوع من التروي والتفكير العقلاني، وتساءلوا بنزاهة: من تآمر على استقرار المغرب في الانقلابات الفاشلة الماضية؟ من كان يمول ويتآمر على الوحدة الترابية وساعد على خلق ما يسمى بالجمهورية العربية، وليس اليهودية، الصحراوية؟ إلى أية بلدان تنتمي الخلية النائمة المقبوض عليها مؤخرا؟ بأية أفكار ومعتقدات إيديولوجية تشبع القائمون بالعمليات الإرهابية بالدار البيضاء؟ من قتل المواطنين اليهوديين المغربيين؟ إلى أية بلدان تنتمي "الشركات" والمكاتب التي تضحك على المغاربة وتستغلهم بدعوى التشغيل؟ إلى دولة إسرائيل أم إلى الدول "الشقيقة"؟ أليست الإيديولوجيا العربو ـ إسلاموية إلى جانب القومية العمياء سبب كل هذه البلايا؟ متى تآمرت إسرائيل على مصالح المغرب؟ ما ذنب اليهود المغاربة المتواجدين قبل الإسلام حتى يقتلوا بهذا الشكل البغيض الذي ينم عن الحقد الأعمى وظلامية مدبريه؟ لقد مرت الحروب الصليبية عبر التاريخ في الشرق وماذا حدث في المغرب الكبير؟ إن هؤلاء القوميين يعبرون ـ مظهريا ـ عن تضامنهم وغيرتهم على الوطن في حين يسهل على المرء إثبات لاوطنيتهم أو فهمهم الخاطئ لها على الأقل. فلنفترض مثلا وزيرا إسبانيا يزور المغرب ـ وهو ما سبق أن حصل مرارا ـ ونعلم أن إسبانيا تحتل ليس فلسطين، وإنما جزء من التراب المغربي وتشجع إلى حد ما انفصاليي البوليساريو، فهل أصدروا بيانا مماثلا (على سبيل الجدل فقط)؟ هذا مستوى الوطنية. لنفرض الآن الشيء نفسه مع وزير روسي، ونحن نسمع عما فعلته القوات الروسية في الشيشان المسلمة، فهل عبرت عن تضامنها كما تفرض الأخوة الإسلامية؟ الجواب في الحالتين يكون بالنفي. لأن هؤلاء لا يفهمون في التضامن والوطنية إلا اللفظ. إنهم يعتقدون أنهم يسكنون إحدى قبائل شبه الجزيرة العربية في عصر الجاهلية حيث العصبية والدم والثأر... ففي أي عصر يعيش هؤلاء؟! فإذا كانت السياسة الدولية الحالية ومصالح المغرب الاستراتيجية وموقعه تدفع بلادنا ـ وهذا منطقي جدا ـ إلى انتهاج سياسة براكماتية تضع المصالح الوطنية فوق كل اعتبار، فإن هذه القوى الكارطونية التي لا تعيش هذا العصر، تبدو غير منشغلة تماما بشيء اسمه مصلحة المغرب. فباسم مفاهيم وتصورات خيالية أقرب إلى اليوتوبيا منها إلى الواقع تجرنا نحو الخلف أكثر من شيء آخر يضع هؤلاء المتطرفون القوميون والإسلامويون الفاشلون العصا في عجلة المغرب نحو التحرر والانعتاق والوصول إلى منظومة الدول السائرة في طريق النمو.
كما نجد صنفا آخر من المفكرين القوميين أيضا والذين تجاوزتهم الأحداث لكنهم يحاولون إلباس خطابهم المتطرف لبوسا "علميا" ومظهرا منطقيا، إلا أن الإطار الإيديولوجي الذي يوجههم يعمي بصيرتهم أحيانا فيزيغون عن المنطق وتراهم يناقضون بأنفسهم ما قالوه في مكان آخر. فتجد نفسك أمام آراء لا يستسيغها العقل السليم. فانظر مثلا إلى كتيب يحمل عنوان "لغة وإيكولوجيا" Langue et échologie للفهري ـ لا أقصد عقبة وإنما عبد القادر ـ لترى كيف يدعو الكاتب إلى تأسيس محميته اللغوية على حساب التنوع البيولغوي السائد حيث الأمازيغية والدارجة. وتصفَّحْه لتسمعه يستنجد أكثر من مرة بما هو مفروض من السلطة بعيدا عن أية استشارة، ويحتج به، إذ لم يجد ما يسعفه في اللسانيات وهو الخبير في بذلك، فيما يدعو من تمييز لغوي صارخ. ثم انظر لتجد أن المخزن ليس وحده من يتوعد الصحافيين ويهددهم، وأن الإسلامويين ليسوا وحدهم من يقدس العربية؟ ماذا تقول اللسانيات في كل هذا؟! ثم تأمل في مكان آخر استمرار المدعو الجابري في دعوته لإماتة اللغة الأمازيغية واللغة الدارجة لتخلص إلى كونه يدعو بدون خجل إلى قتل الإنسان المغربي الحق. وعليه للنجاح في مهمته أن يقترح إجهاض جميع نساء المغرب حتى يتم تعريب وفصحنة (من الفصحى) كل الآباء. هل يعي حقا ما يقول؟ هل هو إنسان سوي هذا الذي يدعو إلى إماتة الشخصية المغربية؟ ومقابل ماذا يتنازل المرء عن لسانه؟ إذا كان المغاربة لم يتخلوا عن أمازيغيتهم حتى مقابل الجنة "العربية" ويوم الحساب "العربي" كما صوِّر لهم من طرف الفقهاء والملتحين المغرضين، فعلى الجابري وأمثاله أن يتأكدوا أنهم يريدون حجب الشمس بالغربال، والأجدر بهم الاستفاقة من هذيانهم. إن مثل هؤلاء هم من يتآمر حقا على المغاربة، وجدير بنا نحن أبناء هذا الوطن الفخورين بذواتنا أن لا نعتبرهم ونقيم لهم ذكرا، بل يجب نبذهم وتجاهلهم. إن المثقف أو المفكر الحقيقي هو الذي ينطلق من شعبه وتربته وينصت دائما لنبض مجتمعه، راصدا مختلف الظواهر المرتبطة به ليكون قادرا على تناول انشغالاته وإشكالاته، مساهما في معالجتها متوسلا بالمناهج العلمية الحديثة في ذلك، بعيدا عن أية إملاءات إيديولوجية خارجية أو أحكام مسبقة. بهذا يكون المفكر ناجحا ومصيبا في أحايين كثيرة. فلم تظهر مجمل العلوم الإنسانية الحديثة إلا عبر مجهودات وتضحيات كبيرة من طرف مفكرين قضوا عمرهم مع مجتمعاتهم أو متنقلين من مجموعة بشرية إلى أخرى. إلا أن الحال لم يكن هكذا مع جل "مثقفينا"، بل على العكس من ذلك عوض الاقتراب من المجتمع، ظلوا متعالين محاولين جذب المجتمع نحوهم بأثقاله لإدخاله في قالب تم تصوره بعيدا عن حقيقة الشعب المغربي! فكان ذلك أقسى من "سرير بروكست". وهذا ما يفسر دعوة هذا المفكر المجتمع المغربي إلى التخلي عن أعز ما يملك مقابل أفكاره الطوباوية التي أكل الدهر عليها وشرب وصارت مناقضة للحداثة الحقيقية التي ترنو إليها المجتمعات الإنسانية. إنها منافية لكرامة الإنسان المغربي ومحتقرة له. ويمكن أن نميز صنفا آخر من هؤلاء المفكرين لا يقل خطورة على الأمازيغية والمغرب عموما، وغالبا ما يكون أفراد هذا الصنف قياديين في الأحزاب. وهؤلاء حربائيون يجب اتخاذ الحيطة منهم وعدم تصديق أقوالهم إذ لا يقر لهم قرار. فتراهم عندما يتحدثون عن الأمازيغية مضطرين، وفي مواقف معينة، يعترفون بحقها في الوجود ويتكلمون عن المغرب المتعدد ـ متضايقين ـ لكن ما أن يخلوا إلى شياطينهم حتى يقولوا إنا معكم.... ويصيحوا في منابرهم بالعروبة والمغرب العربي والأصالة العربية في المغرب، بل هناك من أسكن مختلف القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية بالمغرب ليثبت لنا عروبة المغرب الدموية! وكأني بهؤلاء يعتبرون الأمازيغ طفلا صغيرا يكف عن الصراخ للتو كلما سمع كلاما حلوا. يجب عدم الثقة في هؤلاء وانتظار كلمة منهم لصالح الأمازيغية. إن إحياء الأمازيغية أو قتلها غير متوقف في الأخير عليهم بل بأبنائها أساسا، وهم من أثبت هذا إذ قاموا بكل شيء لوأدها وها هم الآن يتجرعون الفشل. أما صنف الأسلامويين الوهابيين، فلا حديث عنهم بعد أن أثبتت الأيام ما كنا نحذر منه منذ زمن. إن أفضل طريقة لصد هؤلاء هي حث المجتمع على نبذهم وعدم التعامل معهم حتى في المعاملات التجارية والعامة حتى يتوبوا. إن هؤلاء المثقفين العربوإسلامويين على اختلاف أصنافهم لا يشعرون تجاه الأمازيغية والأمازيغ إلا بالحقد والكره الشديدين. لهذا يرفضون أي اعتراف بالحقوق الأمازيغية. إنهم من يحمل في الحقيقة بذور الفتنة لأنهم لا يعترفون بالآخر، فهم مسكونون بهوس الأنا والأحادية. فهم يرون أن هذه الأرض الأمازيغية يجب أن تكون لهم وحدهم. 3 ـ الحركة الأمازيغية وفزاعة التآمر الخارجي والعنصرية: كانت تهمة التآمر مع "العدو الخارجي" ـ المفترض دائما من طرف العقل العربي ـ تلفق من طرف المسؤولين في الدول العربية بالشرق لكل من تجرأ معبرا عن رأيه المخالف أو منتقدا النظام السائد أو حتى متحدثا فقط عن الديموقراطية التي تتعطش إليها شعوب هذه الدول. فكانت هذه التهمة آنذاك كافية لتكميم فم المعارض، وتقي المسؤول العربي من الدخول في أي نقاش جاد وموضوعي حول مجمل القضايا المطروحة والمشروعة حيث تصب حول التعددية واحترام حقوق الإنسان... لكن كل هذا يتم رفضه بدعوى وجود "العدو". بينما نجد هذا العدو ـ إسرائيل وهي محاطة بأعدائها من كل جهة تعيش ديموقراطية حقيقية. وإذا كانت الأمور تغيرت نسبيا الآن في الشرق بعد سقوط تمثال صدام، فإن هذه الفزاعة ما زالت توظف في المغرب، إذ بواسطتها تريد مجموعة من المتطرفين القوموإسلامويين أن تظهر بمظهر المخلص لوطنه، المتفاني في خدمته مقابل الآخر الذي يبقى محط الشكوك، لأنه لا يقول ما يقولون. والسبب في هذا هو أن حب الوطن والأرض عندنا ـ كما عند العرب ـ تم ربطه عنوة وتعسفا، بفعل سياسة تعليمية وإعلامية، بالحاكمين والمثقفين الرسميين، حتى صارت مخالفة المسؤول السياسي تآمرا وخيانة للوطن. إلا أن التاريخ أثبت العكس مرارا. وعندنا في المغرب اتهم المناضلون الأمازيغيون ـ كم من مرة ـ بشكل مبيت بخدمة المصالح الأجنبية أو الارتباط بالقوى الاستعمارية! وهنا لن نحاول إثبات العكس، فذلك ـ أي العكس ـ أمر أثبت نفسه ولا يستحق أي عناء، بل سنتساءل لماذا يتسابق هؤلاء السياسيون والمثقفون العروبيون دائما إلى تلفيف مثل هذه التهم للأمازيغ؟ الجواب بسيط. وهو رغبتهم في إبعاد كل شبهة عن أنفسهم لكونهم في الحقيقة من يخدم المصالح الأجنبية في المغرب، أي مصالح العربوإسلاموية العالمية. لقد شكل هؤلاء دائما القنطرة التي مر منها الاحتلال الثقافي العروبي للمغرب. فهل العروبة شيء آخر غير الدخيل المستوطن؟ فمتى عرف المغرب في تاريخه مثل هذا الغزو المصحوب بالآفات؟ يتكلمون عن الفرنكوفونية والثقافة "الغربية" مهاجمين منذرين وكأن الثقافة المشرقية ليست محتلة ودخيلة بالمغرب. ألم يحن الوقت للتوقف عن هذا؟ لقد كرسوا هذا الاحتلال الثقافي الرديء المحتقر للمغربية المتعددة، كما فرضوا ما سماه المرحوم موحا أبحري بالاستبداد اللغوي Despotisme linguistique. لكل هذا نرى أنه يجب على مناضلي الحركة الأمازيغية دائما الحذر عند توظيف بعض المفاهيم كـ"الغرب" و"الغزو الثقافي الغربي"، وما عدا ذلك فهو وطني! على الحركة الأمازيغية أن تتموقع جيدا في علاقتها بمفهومي الشرق والغرب في علاقتهما بالهوية الأمازيغية. فهل الحركة الأمازيغية بمبادئها تتحمل أن تنتسب إلى الشرق مقابل الغرب؟ مع استحضار تاريخ المغرب الإسلامي وما قبل الإسلامي حيث يتمتع باستقلاليته عن الشرق جغرافيا وسياسيا. وهذا المفهوم السياسي حديث العهد على كل حال. ما قيل بصدد التآمر الخارجي يقال عن تهمة العنصرية. فالعقل العروبي يشتغل بالآلية نفسها وتتجسد في اعتبرا الآخر هو المذنب والخارج عن الطريق والمهدد للأنا. فهذه العقلية لم تتغير على طول التاريخ حتى في عهد الرسول كانت العنصرية هي التي تطبع علاقتهم بالآخرين. وكان النبي كثيرا ما ينهاهم عن ذلك إذ يأتون حتى على أصحابه مثل سلمان الفارسي وصهيب الرومي... أما العصر الأموي الذي استبد فيه الحكام العرب بعباد الله، فقد اتهم الفارسيون بالشعوبية والتعصب لعنصرهم لأنهم رفعوا صوتهم ضد السياسة التمييزية التي قادها العنصر العربي ضد العجم والموالي... وفي هذا العصر تم غزو المغرب! والأحداث العنصرية إبان ذلك أكبر من أن تذكر هنا. أما تعامل العرب مع العبيد والجواري والخصيان وأسواق النخاسة والغنائم البشرية... فسنتطرق إليها في موضع آخر. ليعرف هؤلاء العروبيون ـ إن جهلوا ذلك ـ العنصرية الحقيقية التي هي من توقيع من يمجدون، والعروبيون في المغرب لم نسمعهم يلمحون حتى بحق الأمازيغ في الوجود بكرامة على قدم المساواة معهم في هذه الأرض الأمازيغية. إنهم لا يحسون بآلام الشعب المغربي بينما يهتزون ويتبلبلون كلما وقع شيء في الشرق. ووفق هذا الواقع فهم يتعبرون أنفسهم مغاربة بالسكن، أي بالإقامة فقط. أما الوطن والشعب ففي موقع آخر. وفي مثل هذا الوضع غير الطبيعي يتعالى الصوت الأمازيغي فيرمى بالعنصرية لأنه أراد خلخلة البطلان السائد وأراد إعادة النظر في أكاذيبهم التي كوفئوا ويكافؤون من أجلها، كما أراد تصحيح المغالطات التي عمرت عقودا من الزمن. لهذا كان من الطبيعي أن ينظر إليه بكونه عنصريا.إننا نرى أن انفعال المناضلين الأمازيغيين واهتزازهم كلما كان هناك اتهام ليس كافيا، بل أصبح متجاوزا بعد أن أدى وظيفته. لقد ولى عهد الانعكاس ورد الفعل بعد الفعل. يجب الانتقال من هذه الوضعية نحو إستراتيجية أخرى تقوم على توجيه هجوم فكري مضاد ينبني على إعادة عرض مختلف الأطروحات العروبية حول الوجود الأمازيغي لتقويضها وبيان خوائها المنطقي، ثم بيان فراغ الأساطير التي تنبني عليها القومية العروبية في المغرب حيث تريد ابتلاعه. وكذا ضرورة إعادة قراءة بعض المصادر التاريخية المهمة حول المغرب حيث أخذ التاريخ الرسمي منها ما أراد وترك ما لا يروقه. كما أن الحركة الأمازيغية الآن في أمس الحاجة إلى تنظير واقعي يبين أفق عملها على الساحة، وذلك بوضع استراتيجية واضحة إذ لا يخفى على أحد مأزق العمل الأمازيغي الحالي. لن يؤخر القضية الأمازيغية أو يقدمها إلا أبناؤها. فما أن يتسع الوعي بها حتى يضرب لها ألف حساب. وهذا هو الحقل الحقيقي الذي ينتظر العمل الأمازيغي. أما تصريحات متطرفة من هنا وهناك من طرف أعدائها فلا تخدم في العمق إلا هذه القضية. لهذا يجب التعويل كثيرا على تغيير آراء نخب مستلبة ورثت محاربة الأمازيغية عن أسلافها. وسيأتي وقت تفرض هذه المسألة احترامها على الجميع. وختاما نرى أن هذا الوضع
السائد سيستمر معيقا لتحديث المغرب طالما هناك غياب لنخبة جديدة وازنة وفاعلة،
مستقلة عن المشكلات السياسية الحالية المتجاوزة، ومتحررة من الإيديولوجية العروبية
القومية المعيقة للتفكير المنطقي الحر، تأخذ على عاتقها تخليص المجتمع من براثين
الظلامية والاستلاب أولا، كما تدافع عن الشخصية المغربية الحقة، المتعددة والمنفردة
وتعيد إليها توازنها، وتناضل من أجل إرساء مبادئ الحداثة والديموقراطية واحترام
حقوق الإنسان، مساهمة في تأسيس مجتمع مدني وطني عصري ومنظم يكون طرفا أساسيا في
تدبير الحياة السياسية والثقافية بفعالية في بلادنا. فهل الحركة الأمازيغية قادرة
الآن على المساهمة والابتكار لكسب هذا الرهان؟ |
|