|
قراءة في أسطورة "تاسردونت ن يسنضال" بقلم: أناروز سعداني مقدمة: أقترح عليكم رحلة قصيرة في عالم الأسطورة، عالم مليء بالعجائب والألغاز. والفكر الأسطوري ما هو إلا امتدادا طبيعيا للوجود الإنساني. فهو متجذر في كينونته، في ثقافته، في أحاسيسه، في خط تفكيره وعيشه. ويشكل الفكر الأسطوري محطة هامة في مسار جميع التجمعات البشرية يتم اللجوء إليه خصوصا عندما يصطدم العقل بأسئلة جوهرية تهم الوجود والكون والسلوك الإنساني بذاته.عندما يستقيل العقل الناقد لآليات التحليل والتفسير، يبقى المجال مفتوحا أمام الفكر الأسطوري لخوض تجربة بعيدة عن قيود العقل ومعاييره. يتم إذن نسج أفكار وتصورات في قالب روائي يتداخل فيه ما هو واقعي ملموس أو محسوس وما هو غرائبي وعجائبي يدخل في إطار المافوق-طبيعي surnaturel والميتافيزيقي. والأهم في الأسطورة أنها تعمل على قطع الطريق أمام الأسئلة الوجودية المحيرة وعلى خلق التوازن النفسي والاجتماعي للجماعات. وفي هذا المضمار سأحاول أن أقدم قراءة في أسطورة »تاسردونت نيسنضال« التي تترجم اللاشعور الجماعي ومنظومة التفكير في الثقافة الأمازيغية. هذه المحاولة شبيهة بتجربة أركيولوجية تعمل على النبش في تراثنا الذي تعرض للتعرية الثقافية والاندثار وأصبح عبارة عن بقايا وأنقاض. يعتمد التحليل الذي سأقدمه على مفهوم الميتامورفوز الذي يشكل العمود الفقري للأسطورة. وسأقف أيضا على ماهية الأسطورة وعلى الوظائف التي تتضمنها. أولا ـ ظاهرة الميتامورفوز: 1ـ تعريف: الميتامورفوز كلمة فرنسية وتطرح ترجمتها إلى العربية صعوبة كبيرة. الكلمة المقابلة لها في العربية هي "المسخ". لكن هذا المصطلح ينطوي على دلالات قدحية وسلبية ولا يؤدي المعنى المرغوب فيه بطريقة موضوعية، كما أنه لا يلزم الحياد في الظاهرة. ولذلك حافظت على الكلمة نفسها، والمراد بها: تغيير الشكل والطبيعة والهيئة والجوهر بطريقة راديكالية يستحيل معها معرفة الكائن الذي تعرض للظاهرة في صفته وجوهره الأصلي. وفي السياق الأسطوري الذي نحن بصدده: انتقال كائن/مخلوق معين من مملكة إلى أخرى حيث يفقد كل الخصائص التي تميزه في المملكة الأولى ليكتسب خصائص المملكة التي انتقل إليها. والمقصود بالمملكة أحد الفروع أو الأقسام التي تشكل الطبيعة ونميز بين مملكة الإنسان، مملكة الحيوان، مملكة النباتات ومملكة الجمادات. الميتامورفوز في هذا المضمار السيرورة أو الفعل الذي يتعرض له كائن هذه الممالك لولوج مملكة جديدة. 2 ـ في أسطورة »تاسردونت إسنضال«: في أسطورة »تاسردونت إسنضال« الانتقال يتم من مملكة الإنسان إلى مملكة الحيوان. والمرأة هي الكائن المرشح للميتامورفوز الذي يعتبر تجربة فوق طبيعية. لكن هذا الفعل لا تتعرض له المرأة بطريقة تلقائية بل يستلزم شروطا لابد من توفرها: فهو يستهدف المرأة التي فقدت زوجها ولم تلتزم بطقوس العدة. فباختلاطها مع الرجل خلال هذه الفترة تكون مؤهلة لولوج عالم الحيوان. لكن فعل الميتاموفوز لا يتم بطريقة سهلة، بل يتطلب عناصر خارجية لتحقيقه على أرض الواقع. ثانيا ـ العناصر المساعدة لتحقيق الميتامورفوز: في مرحلة تمهيدية، تعمل المرأة المرشحة للميتامورفوز على خلع ملابسها، وهو ما يعني انتقال من حالة ثقافية إلى حالة طبيعية على اعتبار أن اللباس أمر ثقافي مكتسب. وخلال هذا الانتقال الرمزي، تنسلخ المرأة مما يميزها كإنسان، بحيث تبدأ الحدود الفاصلة بين مملكة الحيوان ومملكة الإنسان في الانمحاء. 1 ـ الرماد: في مرحلة ثانية، تنتفض (تتمرغ) المرأة المحكوم عليها بالميتامورفوزفي الرماد. وهنا تكون قد اكتسبت عن طريق التقليد إحدى الخصائص المميزة للحيوان وهي التمرغ. الرماد إذن عنصر أساسي لتفعيل الميتامورفوز. لكن لماذا الرماد بالضبط؟ هل هذا الاختيار تلقائي أم تتحكم فيه عوامل أخرى متجذرة في التاريخ؟ للإجابة على هذا السؤال لابد من إعادة ترميم بعض السياقات التاريخية والأسطورية التي ظهر فيها الرماد. Phénix مثلا أسطورة فرعونية. و Phénix طير خيالي عرف انتشارا كبيرا في الحضارة الإغريقية. وحسب الأسطورة، يعش هذا الطير عدة قرون. لكنه ليست له أنثى ولذلك فهو غير قادر على التوالد. لكنه مرغم على الحفاظ على استمرارية عرقه. وعندما يحس باقتراب أجله (أي الموت)، يعمل على تأثيث عش كبير وساحر ويوقد فيه النار وهو في داخله. ومن الرماد المتبقي من عملية الاحتراق، يبعث هذا الطير من جديد في الحياة، ويستعيد رشاقته وحيويته، وهو بذلك يرمز إلى الخلود. يتضح إذن أن عنصر الرماد ليس حكرا على أسطورة »تاسردونت إسنضال« ولكنه متجذر في الحضارات القديمة كالفرعونية والإغريقية المعروفة بأبطالها الأسطورية وآلهتها. فإذا كانت ظاهرة الميتامورفوز التي تؤسس بنية »تاسردونت إسنضال« تعتمد على عنصر الرماد للتحقق، فإن ذلك يدل على أن الثقافة الأمازيغية حققت تواصلا حضاريا مع ثقافات أخرى في فترة زمنية قديمة. فالرماد يرمز إلى الاضمحلال وإلى الحتف الذي يلقاه جسم معين بواسطة عملية الاحتراق، ويرمز كذلك إلى اختزال ذلك الجسم إلى غبار قابل للاندثار. ففي »تاسردونت إسنضال« يتم اختزال المرأة إلى العدم ومنه تبعث من جديد ولكن في شكل وطبيعة مغايرة. لكن عنصر الرماد ليس وحده كافيا لتحقيق الميتامورفوز، فهناك عنصر المكان وعنصر الزمان. 2 ـ المكان: المكان الذي تدور فيه عملية الانتقال إلى مملكة الحيوان هو القبور. تعد هذه الأخيرة مكانا مليئا بالأسرار والألغاز les mystères ، ليس فقط لأنه مكان يدفن فيه الأموات، ولكنه، وهذا هو الأهم، مرتبط بالتصورات التي ينسجها الخيال الإنساني عن الموت وما بعدها. فهو فضاء يكتنفه الغموض ويصعب على الإنسان سبر أغواره وإدراك حقائقه. ولتفسير لجوء المرأة إلى القبور لمباشرة مسارها، سأقدم تحليلا على شكل فرضيات. الفرضية الأولى: المرأة التي تتعرض للميتامورفوز هي المرأة التي ارتبطت بعلاقة غير شرعية مع شخص معين قبل أن تستوفي المدة الزمنية المتعاقد عليها اجتماعيا. ولذلك فهي محكوم عليها بالتصريح والاعتراف لزوجها الفقيد بالحقيقة المرة: خيانتها له وتيهها عن طريق الوفاء. لكن لا يمكن فهم هذا التواصل بين الأحياء والأموات إلا بتحليل هذين العالمين المختلفين في خط التفكير الأمازيغي. فيمكن أن أؤكد على أن هذا التواصل وارد. ويمكن الاستدلال على ذلك بأمور عدة: ـ عندما يمر شخص بالقرب من القبور فإنه يحيي أهل الموت كما يحيي الجالسين على قارعة الطريق. ـ محاولة خلق الأجداد عن طريق تسمية الأبناء بأسمائهم. ـ زيارة القبور في بعض المناسبات. كل هذه العناصر تدل على أن هناك امتدادا لعالم الحياة في مجال الموت وامتدادا للموت بل دلالاتها العميقة في تراب الحياة. وفي هذا الصدد يقول J. servier في كتابه «tradition et civilisation berbères» "في الفكر المتوسطي التقليدي [..] الأحياء والأموات مختلطون في الحياة ومرتبطون بنفس الحركات والطقوس، لكن يصعب القول إن الأموات لا يزالون مرتبطين بالحياة، وإن الأحياء يشاركونهم في الأشياء الغير المرئية.." يتضح إذن أن ارتباط الأحياء بالأموات في منظومة التفكير الأمازيغي هو المحدد الرئيسي الذي يشكل لغز لجوء المرأة إلى القبور. الفرضية الثانية: فقدان الزوج هو في العمق مصدر وضع مأساوي تعيشه المرأة بعد الفراق. فالأمل في استرجاع الفقيد لا ينطفئ. ولذلك فهي تمر بطريقة لا شعورية إلى البحث عن زوجها. ذلك أن الإطار الزماني الذي تتم فيه عملية البحث (الليل) تنتعش فيه الهلوسة والأفكار الخيالية. فالبحث الذي تقوم به المرأة رغم استحالته منطقيا، يدخل في إطار إعطاء جواب لرغبتها الجامحة لتعطيل فعل الموت. الفرضية الثالثة: القبور إطار مكاني ملتبس espace mystérieux ، ولذلك فهي تبقى مصدر الرعب والبؤس الوجودي لدى الإنسان. ففي بعض الحضارات/الثقافات ترمز القبور إلى الأرواح الشريرة وإلى الكائنات العجائبية الغير المرئية les êtres surnaturels التي تهدد الحياة وتبث فيها بذور الشر. وبما أن المرأة/الحيوان عملت على ترجمة هذا الشر بمجابهتها للمحرم الاجتماعي فإنها لن تكفر عن خطئها إلا بلجوئها إلى القبور مصدر هذا الشر. 3 ـ الزمان: يعد الليل الإطار الزماني المساعد على تحقيق الميتامورفوز. ومن الناحية الدلالية فهو يرمز إلى الظلام بكل أبعاده السلبية. وخلال هذه الفترة الزمنية، ينتعش الشر في كل تجليانه. ولذلك يعتبر الليل متآمرا مع الأفعال الغير المرغوب فيها، ويتم الاحتماء به أثناء القيام بها. والمرأة المرشحة للميتامورفوز تنسلخ من هويتها الإنسانية خلال الليل لتضمن عدم الرؤية l'invisibilité لأنها تخشى أن يفتضح أمرها. ولذلك تعمل على التكفير عن خطئها في منأى عن الأنظار، لأن اكتشاف حقيقتها من لدن عشيرتها سيكون له وقع سلبي: كأن تحتقر من طرف المجتمع وأن تنبذ لأنها لم تحترم المحرم الاجتماعي l'interdit social . ثالثا ـ المجال البهائمي: 1 ـ المرأة/البغلة: إن انسلاخ المرأة من إنسانيتها وتحولها إلى حيوان يطرح إشكالية فلسفية معقدة: علاقة الطبيعي الحيواني بالثقافي الاجتماعي في الإنسان. والسؤال الذي يجب طرحه في هذا الصدد هو: لماذا رجح اللاشعور الجماعي الذي أنتج »تاسردونت إسنضال« التواصل مع مملكة الحيوان وليس مملكة أخرى؟ ألا يدل التباس شخصية المرأة /الحيوان عن ازدواجية الطبيعة الإنسانية المعقدة التي يتداخل فيها البعد الطبيعي الفطري البيولوجي بالبعد الثقافي الاجتماعي المكتسب؟ لقد طرحت العلاقة بين الطبيعي والثقافي جدلا فلسفيا أبان على أن الجوهر في الإنسان ليس فقط جوهرا ثقافيا لكنه يتفاعل مع "البنيات البدائية" structures archaïques حسب Julia Kristeva . ولعل هذه الإشكالية هي التي تطرحها »تاسردونت إسنضال« بطريقة أسطورية. لكن الفكر البشري بفعل تميزه عن الكائنات الأخرى وبالخصوص الحيوان، يرجح البعد الثقافي على حساب البعد الطبيعي. فالإنسان لا يعمل على تحديد مسار البعد الطبيعي وتوجيهه فقط بل يحتقره لأن هذا البعد يربطه بالنسق الحيواني. فالمرأة التي عملت على خرق المحرم الاجتماعي تحكم على وجودها بالاختزال إلى ما هو فطري حيواني. ولذلك فالميتامورفوز الذي تتعرض له المرأة هو ترجمة لهذه الحقيقة الفلسفية وترجمة كذلك للثقافة الجماعية التي تحتقر هذه المرأة. 2 ـ رمزية البغلة: السؤال الذي سيقودنا إلى عمق الحقيقة الأسطورية ل»تاسردونت إسنضال« هو: لماذا تكون نتيجة فعل الميتامورفوز بغلة وليس حيوانا آخر؟ للإجابة على هذا السؤال، لابد من الوقوف على الخصائص البيولوجية للبغلة كحيوان. الخاصية الرئيسية التي تميزها هي عدم القابلية للإخصاب أي عدم القدرة على الإنجاب. ولذلك فهي في حالة عقم محتوم irrévocable يحرمها من إعادة إنتاج نفس الصنف espèce الذي تنتمي إليه وهو ما يهددها بالانقراض. فالأهم إذن في ميتامورفوز المرأة وتحولها بغلة ليس فقط انتحال طبيعة بهائمية ولكن وراثة خاصية العقم التي تحرمها من الإنجاب لأن الإنجاب غير مرغوب فيه في فترة العدة لأن نتائجه وخيمة على المستوى الاجتماعي وهو ما سأتطرق له في المحور القادم. 3 ـ بطل درامي: يمكن إدراج أسطورة »تاسردونت إسنضال« في إطار الأدب العجائبي le conte fantastique. ذلك أن الأحداث والوقائع التي ينسجها تخرج عن الإطار الطبيعي الواقعي لتكتسي طابعا غرائبيا لا يصدقها العقل الواقعي والفكر العقلاني . لكن تجذرها في الحقل الاجتماعي الذي تختفي فيه الحدود بين الواقعي الملموس والخيالي العجائبي يجعلها أسطورة معيشة ومتداولة وذات حيوية. وتمتاز هذه الأسطورة بكونها أحادية الشخصية الرئيسية المرأة/الحيوان التي تعمل على تأثيث فضاء الأسطورة بالأحداث، هي شخصية درامية لأنها محكوم عليها بالتكفير عن خطئها عبر مسار شائك وغير طبيعي. فالانتقال إلى مملكة الحيوان عن طريق الميتامورفوز المحتوم يمكن اعتباره تجربة قاسية. ذلك أن المرأة تتجرد من كل معالم إنسانيتها وتنتحل صفة وطبيعة بهائمية. وما يجعل هذه الوضعية مأساوية أكثر مواجهة المرأة/الحيوان للمعطى الزماني (الليل) بكل أبعاده ورمزيته التي لا تحظى بالإيجاب في اللاشعور الجماعي. ذلك أن الليل يرمز إلى الظلام الذي يزخر في غالب الأحيان بدلالات سلبية لأنه غالبا ما يكون متآمرا مع الشر والسلوك الإجرامي. واختلاط المرأة خلال فترة العدة بالرجل هو تحدٍّ للمحرم الاجتماعي وتهديد صريح لطريقة التنظيم الجماعية بشكل جزئي، ولذلك فهذا السلوك يندرج في إطار المخالفات المؤطرة بفضاء الليل، لأن فعل الاختلاط غير مرئي. ولذلك فالليل يرمز إلى كل سلوك غير مرغوب فيه ويتم بدون علم المجتمع. ولا تواجه المرأة/الحيوان الليل كمعطى زماني في مسارها التكفيري فحسب ولكنها تواجه كذلك المعطى المكاني (القبور)، هذا المعطى الذي يعد عالم ما بعد الموت يكتنفه الالتباس ويعطي الانطباع على أنه مصدر الرعب لدى الإنسان. لكن الأهم في أسطورة »تاسردونت إسنضال« انفتاح تجربة القبور على كل الاحتمالات. ففي هذا الفضاء، يتداخل ظلام الليل بظلام القبور الأبدي، مما يعني اختفاء الحدود بين عالم الأحياء وعالم الأموات. الطقوس التكفيرية إذن تتم في مجال يتراوح بين الحياة والموت. هذه التجربة تشبه الغرق: الغرق في فضاء الليل والقبور الذي تكاد تستحيل معه العودة إلى الحياة. التجربة التي تخوضها المرأة/الحيوان هي تجربة ازدواجية: الانتقال من مملكة الإنسان إلى مملكة الحيوان، ومن هذا العالم البهائمي إلى مجال أكثر تعقيدا والتباسا وهو مجال القبور. وهذا المصير المأساوي والحتمي الذي تتعرض له المرأة يفرضه عدم تسامح المجتمع مع السلوك التلقائي الغرائزي. رابعا ـ وظائف الأسطورة: تهم الوظيفة الكلاسيكية للأسطورة تفسير بداية ونهاية الكون حسب Mercea Iliade . لكنها تعمل كذلك على شرح بعض الظواهر الجيولوجية والفيزيائية التي تستعصي وتخرج عن منطقه العلمي. ولا تقتصر على ذلك فحسب بل تتعداه إلى ما يهم الإنسان في محيطه المباشر: سلوك الأفراد والعلاقات الاجتماعية. لكن إعطاء تفسير لظاهرة معينة يفترض فيه أن المرحلة الأولى قد تجوزت: وهي مرحلة الملاحظة التي يتم خلالها اكتشاف الظاهرة. وفي أسطورة »تاسردونت إسنضال« فقد تم الحسم في هذه المرحلة: ويتعلق الأمر بظاهرة تهم سلوك المرأة واختلاطها بالرجل خلال فترة العدة وما ينجم عنها اجتماعيا. لكن لماذا يتم التركيز والتبئير على المرأة كفرد في المجتمع؟ لعل هذا السؤال ساذج في طرحه السطحي التبسيطي حيث يظهر الجواب بديهيا: فالمرأة تحتل موقعا استراتيجيا ومهما في المجتمع. وهو ما يفسر تعدد واختلاف طرق التعاطي مع وضعيتها. ولذلك نجدها سجينة تصورات تختلف من مناخ ثقافي لآخر، بل سجينة إرث تاريخي غالبا ما يكون عكس تطلعات هذه المرأة. في هذه المحطة سأحاول تحليل طريقة تعاطي الخطاب الأسطوري في »تاسردونت إسنضال« مع وضعية المرأة. فإذا كانت هذه الأسطورة ترتكز على المرأة فلأن هذه الأخيرة تحتل موقعا حساسا في المجتمع. ويزداد هذا الموقع أكثر حساسية بل أكثر هشاشة عندما تفقد المرأة زوجها. فالأسطورة ترتكز على فترة العدة وتعتبرها مقدسة وتفرض على المرأة احترام طقوسها بطريقة صارمة. ويمكن تحديد وظيفتين رئيسيتين تخترق عمق الأسطورة: الوظيفة البيداغوجية التربوية والوظيفة الاجتماعية. 1 ـ الوظيفة البيداغوجية: يركز الخطاب الأسطوري ل»تاسردونت إسنضال« على سلوك المرأة على اعتبارها فردا من المجتمع. وهذا الفرد يحتاج إلى إدماج وتنشئة اجتماعية la socialisation لتأهيله وتفعيل دوره. ويمكن التركيز هنا على مفهوم المقدس الذي يبلوره Mercea Iliade بتواز مع المدنس. والمقدس هنا يهم فترة العدة. وما يزيد هذا المقدس قوة ورسوخا، تدخل إرادة فوق ـ طبيعية لزجر المخالفة بفرض الميتامورفوز. ويتجسد ماديا بالعرف المتعاقد عليه اجتماعيا والذي يحرم اختلاط المرأة خلال فترة العدة. فالأسطورة في هذا الصدد، تضع المرأة المعينة أمام حقيقة مصيرية حتمية: تعرضها للميتامورفوز في حالة الطعن في المقدس. وهذا الواقع الذي يمتاز بالصرامة كفيل بإقناعها بأن لا جدوى من محاولة المناورة لخرق العرف في منأى عن المجتمع. فهناك قوى غير مرئية تراقبها باستمرار. وهو الأمر الذي يعمل على خلق قناعات لدى المرأة لاحترام المقدس وقطع الطريق على السلوك المنحرف عن دائرته. وبتجذر هذه القناعات تكتسب المرأة آليات ذاتية لتقويم سلوكها بطريقة فردية. والسلوك الفردي يتواصل ويتداخل مع العناصر الأخرى التي تشكل الفسيفساء الثقافية والاجتماعية في إطار التفاعل. وهنا تجد الوظيفة الاجتماعية مقامها في فضاء الأسطورة. 2 ـ الوظيفة الاجتماعية: الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، يعني أنه ليس قادرا على العيش في معزل عن المجموعة البشرية التي ينتمي إليها. العزلة والوحدة ليست من خصائصه. التجمع إذن أمر حتمي لكونه يفرض شروطا موضوعية ليكون في مصلحة الإنسان ويساعده على تحقيق ذاته وتحسين وضعيته. ولذلك فكل فضاء اجتماعي تؤطره الأعراف والقوانين المتعاقد عليها اجتماعيا. وإذا كانت الثقافة الأسطورية ل»تاسردونت إسنضال« تركز على البعد البيداغوجي التربوي فلأنه يكتسي دورا رئيسيا في تشكيل نسيج اجتماعي سليم. فإذا كانت المرأة التي فقدت زوجها مهددة بالميتامورفوز الذي تمليه الإرادة الجماعية، فلأن المجتمع واع بخطورة اختلاط المرأة خلال فترة العدة. ولذلك وضع أمامها محرما اجتماعيا l'interdit social لقطع الطريق إلى تناسل الاحتمالات. في حالة مجابهة هذا المحرم، فإن الإرادة الجماعية التي تتخذ بعدا فوق ـ طبيعيا تحكم على هذه المرأة بإبعادها عن مملكة الإنسان، وتجريدها من إنسانيتها مؤداه أن المرأة التي تجرأت على المقدس ربحت ما هو حيواني بانحرافها عن النمط الإنساني. والاختلاط في فترة العدة سلوك مدنس يمس في العمق إنسانية الإنسان ويختزلها إلى ما هو فطري طبيعي وحيواني. فإذا تم قذف المرأة في عالم الحيوان، وهذا أسلوب زجري في اللاشعور الجماعي، فلأنها انقادت وراء ما هو حيواني في كينونتها. فباختلاط المرأة خلال فترة العدة، يكون احتمال الإنجاب واردا، وهو أمر غير مرغوب فيه في هذه الفترة بالذات. وهذا الموقف يترجمه ميتامورفوز المرأة إلى الحيوان (البغلة) التي تتميز بعدم القدرة على الإنجاب. ويجد هذا المنطق الأسطوري شرعيته في محاولة درء النتائج الاجتماعية الوخيمة التي يحتملها إنجاب المرأة انطلاقا من علاقة في فترة العدة وهو ما يطرح إشكالية التمييز بين ذرية الفقيد والذرية اللقيطة وما يتناسل عنها من مشاكل كالإرث وغيرها. فالأسطورة إذن تعمل على جبر المرأة على تفادي الممارسات المنحرفة عن الأسلوب المتبع وإقناعها بالانضمام إلى قيم المجتمع، وبذلك قطع الطريق أمام الظواهر الاجتماعية التي تفكك تماسك المجتمع وتفسد تناغمه. خاتمة: تعد أسطورة »تاسردونت إسنضال« تحفة مهمة في الرأسمال الرمزي الذي تحتفظ به الذاكرة الجماعية وتتناقله الأجيال عن طريق الرواية الشفوية. فهذه الأسطورة متجذرة في الحقل الثقافي وتمتاز بالتداول والحيوية. ومعيار الحيوية تضمنه قدرتها على الامتداد زمنيا لأنها تركز على إشكال فردي واجتماعي مطروح في كل الأزمنة لأنه مرتبط جوهريا بمنطق الاجتماع. فهذه الأسطورة تترجم على أرض الواقع طريقة تعاطي المجتمع الأمازيغي مع وضعية المرأة، وهي طريقة تمتاز بالمرونة والليونة: إقناع المرأة بتبني سلوك لائق وبالتالي قيم المجتمع ككل. المرأة تنجب الأطفال وبالتالي تضمن الاستمرارية للعنصر البشري. لكن الإنجاب لا يتم بطريقة عشوائية وبهائمية، بل ينضبط بالمنطق الاجتماعي الذي يفرض مراقبته وتوجيهه في إطار التنظيم والتدبير العقلاني للواقع الجماعي. |
|