|
لا لممارسة الابتزاز على المؤسسة الملكية باسم فلسطين بقلم: محمد بودهان إذا كانت كثير من الأحزاب لم تبدَ معارضتها الصريحة لزيارة وزير خارجية إسرائيل، سليفان شالوم لبلادنا، معبرة بذلك عن اتزان في موقفها ونضج في رؤيتها، فإن مجموعة من المثقفين والإعلاميين، إلى جانب عدد من الجرائد "المستقلة"، استنكروا هذه الزيارة وأصدروا بيانا ينددون فيه باستقبال وزير ما يسمونه "بالكيان الصهيوني". وهكذا عنونت "الأحداث المغربية" كلمة عددها ليوم 3 شتمبر بـ"زيارة غير مناسبة.. وفي توقيت غير مناسب"، كما كتبت "الأيام" افتتاحيتها بالعدد 99 بعنوان "لا شالوم على شالوم" مع ملف كامل حول الموضوع بعنوان "المفاجأة". ونفس الشيء بالنسبة لـ"لوجورنال" و"الصحيفة". كما أصدرت مجموعة من المثقفين والإعلاميين، ذوي التوجهات الإسلاموية والقومانية العروبية ـ وهل هناك فرق بين الإثنين ـ، بيانا تنديديا سموه "ضد التطبيع مع الصهاينة". كل هذه الردود من الأفعال الغاضبة عن الاستقبال الملكي لسليفان شالوم تبرر غضبها وتنديديها ورفضها لزيارة الوزير الإسرائلي للمغرب بالإنشاء المكرور والمستهلك إلى حد الملل: "حرب الإبادة الجماعية التي يخوضها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني"... نعتبر أن استقبال الصهاينة، مسؤولين وغيرهم في أي بلد عربي وإسلامي يشكل تشجيعا لهم على الاستمرار في مخططاتهم الإرهابية"، (بيان ضد التطبيع، "الأيام"، عدد 99)، "قرار يضرب من الخلف الصمود الفلسطيني لتحقيق دولة مستقلة" (من البلاغ الأول للجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني)، "بعد ثلاث سنوات من القتل والتدمير تتحرك النيات المضمرة بين بالمغرب وإسرائيل من أجل ترسيم العلاقات" (الأيام، عدد99)، "وهو (سلبفان شالوم) الذي يحمل في أحذيته آثار الدم الفلسطيني الساخن" (نفسه)، استقبال (استقبال سليفان شالوم) "سياسة لامسؤولة" (لوجونال، عدد 124)، "لا يمكن من الناحية الأخلاقية والعملية التحاور مع ممثلي حكومة متطرفة في وقت تعتمد فيه أبشع السياسات ضد الشعب الفلسطيني" (الصحيفة، عدد 127)... أما خالد السفياني، مجنون القومية العربية، فقد اعتبر، في حوار له مع "لوجورنال، ليوم 13 شتمبر، أن استقبال وزير خارجية إسرائيل من طرف المسؤولين المغاربة »جريمة تجاه إخواننا الفلسطينيين«، داعيا هؤلاء المسؤولين »إلى استرجاع صوابهم«. نعم، المجنون ـ مجنون القومية العربية ـ يطالب من العقلاء العودة إلى الصواب!! وقد ذهب به ابتزازه للسلطات أن اتهمها تلميحا وضمنيا بالتنسيق مع إسرائيل للقضاء على حركة حماس كأحد أهداف زيارة سليفان شالوم للمغرب. كل هذا التذكير والتكرار لخطاب معروف حول "جرائم الكيان الصهيوني"، لتبيان أن استقبال ممثل لهذا الكيان خطأ كبير فيه تحدٍّ سافر "لإجماع الأمة" على مقاطعة هذا الكيان، هو نوع من الابتزاز يمارس على السلطة بالمغرب، وخصوصا المؤسسة الملكية التي تشرف مباشرة على السياسة الخارجية. ومضمون هذا الابتزاز واضح: إما أن تقاطع هذه السلطة كل علاقة مع إسرائيل، ولو على حساب المصلحة العليا للوطن، وإلا فإنها تشجع الإرهاب الصهيوني وتستخف بمشاعر الشعب المغربي وإجماعه ضد التطبيع مع العدو الصهيوني. ما ذا تعني ـ وما ذا تريد ـ هذه المواقف القومانية الإسلاموية؟ ـ إنها تجعل من السلطة بالمغرب رهينة محدودة السيادة، غير قادرة ولا حرة على اتخاذ قراراتها استنادا إلى معيار خدمة مصلحة الوطن والمواطنين، إذ لا بد أن تضحي هذه السلطة بهذه المصلحة من أجل مصلحة وهمية وأجنبية. ـ إنها تفرض على المغرب أن يعلن عداءه ومقاطعته لدول بسبب نزاعات خارجية لا ناقة له فيها ولا جمل، مما يحد من سيادته وحريته كما قلت. ـ إنها تتخذ من قضية فلسطين "أصلا تجاريا" تتكسّب به رمزيا وماديا (جمع التبرعات). لهذا فهي ترفض أي حل للقضية الفلسطينية حتى عندما يقبل بهذا الحل الفلسطينيون أنفسهم، لأن أي حل للقضية الفلسطينية سيضع حدا لمتاجرة أصحاب المقاطعة بفلسطين التي هي مصدر رزقهم الإيديولوجي والمالي. فبدون فلسطين سوف لا يجد هؤلاء المبتزون والمنافقون ما سيكتبونه في جرائدهم وما سيقولونه في خطبهم حول "اليهود أبناء القردة والخنازير". وسيكون ذلك إفلاسا لمشاريعم وركودا لتجارتهم. ـ إنها تشجع وتزكي الإرهاب الإسلاموي وتحرض على معاداة اليهود وقتلهم وتزرع ثقافة الحقد والتطرف والظلامية. ولا شك أن اغتيال مغربيين من الديانة اليهودية مباشرة بعد زيارة الوزير الإسرائيلي ذو علاقة بهذه المواقف العدائية والتحريضية. في الحقيقة، مثل هذه المواقف الشديدة العداء لليهود، هي التي جنت على فلسطين وأضرت بها كثيرا. فلو لم تكن هناك مثل هذه المواقف المعادية والحاقدة على اليهود، لما كان الفلسطينيون يعيشون اليوم مأساة يومية مستمرة. ذلك أن العرب، أصحاب هذه المواقف المعادية لليهود، هم الذين ساعدوا وشجعوا على إقامة ذلك "الكيان الصهيوني" الذي يمقتونه ويحقدون عليه. كيف ذلك؟ إن غالبية اليهود الذين تتشكل منهم دولة إسرائيل قدموا إليها من الدول العربية هروبا من اضطهاد العرب لهم بعد تصاعد العداء ضد المواطنين ذوي الديانة اليهودية والتحريض على قتلهم باعتبارهم صهاينة وأعداء الله. فلو أن العرب كانوا يعاملون اليهود بأوطانهم الأصلية كمواطنين كاملي المواطنة لا تمييز بينهم وبين العرب بسب العرق أو الدين، لما قامت دولة إسرائل إطلاقا، أو على الأقل لما قامت بالشكل الذي توجد عليه اليوم. وفي هذا السياق، لا ننسى أن خطب جمال عبد الناصر التي كان يرددها راديو القاهرة على مدى 24 ساعة، والتي يهدد فيها "بإلقاء اليهود في البحر"، هي التي فرضت على إسرائيل أن تنتصر ذلك الانتصار الساحق على العرب في 67 وتحافظ على تفوقها عليهم كخيار وحيد إذا أرادت أن لا "يلقى بها في البحر". فمثل هذه المواقف وهذه الخطابات العدائية لليهود هي التي جعلت منهم قوة عظمى دفاعا على البقاء ومواجهة لمن لا يعترف بوجودهم ويسعى إلى إبادتهم وإفنائهم. فـإذا كان هناك من "إرهاب صهيوني ضد الفلسطينيين"، فهو من صنع العرب الذين يتظاهرون اليوم بالبكاء على هؤلاء الفلسطينيين. لقد ملك هؤلاء الغاضبون عن زيارة المسؤول الإسرائيلي للمغرب الشجاعة لإصدار بيان ينددون فيه بهذه الزيارة ويحذرون فيه السلطة بالمغرب من عواقب أي تقارب بين المغرب ودولة إسرائيل. لكن لماذا لم تكن لهم هذه الشجاعة لإصدار بيانات ينددون فيها بالسجن الرهيب تازمامارت في سنوات الثمانينات، هذا السجن الذي سيظل معلمة من العار في تاريخ المغرب؟ أم لأن نزلاء تازمامارت لم يكونوا فلسطينيين ولا عراقيين، بلا مجرد مغاربة لا يستحقون مساندة ولا تعاطفا. إن جبن هؤلاء أمام قضاياهم الوطنية وشجاعتهم إزاء قضايا الآخرين موقف يعبر عن أقصى درجات المازوشية الإيديولوجية والاستلاب الثقافي. والمفارقة الغريبة هو أن السلطة الفلسطينية، من خلال ما عبر عنه رئيس الوزراء عباس أبو مازن قبل استقالته، رحبت بالزيارة وثمّنتها باعتبارها تساهم في إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية. وهو نفس الموقف عبر عنه سفير فلسطين بالرباط أبو مروان. لكن هذه المجموعة من المغاربة، الذين نددوا بزيارة الوزير الإسرائلي للمغرب، يصرون أن يكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم. إنها مأساة وملهاة الوعي الزائف لدى التيار العروبي والإسلاموي ـ وهل هناك فرق بينهما ـ بالمغرب. يتحدثون باسم الشعب المغربي وإجماعه الموهوم على مقاطعة كل علاقة مع إسرائيل. يا للكذب! يا للنفاق! ألم يسبق لأحدهم أن شاهد الطوابير المصطفة من المغاربة أمام مكتب الاتصال الإسرائلي قبل إغلاقه طلبا للحصول على تأشيرة الذهاب إلى إسرائيل بحثا عن عمل هناك؟ أليس هؤلاء هم الشعب الحقيقي، وليس موقعي بيان "ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني"، الذين لا تربطهم بالمغرب إلا أمواله وخيراته التي يستمتعون بها دون أن يقدموا له أية خدمة لأن كل مجهوداتهم موجهة لخدمة مصالح الآخرين؟ على السلطة بالمغرب ـ والمؤسسة الملكية أساسا ـ، أمام هذا الابتزاز الذي تمارسه عليها شرذمة من المتطرفين القومانيين والإسلامويين باسم فلسطين، أن لا ترضخ لمثل هذه الابتزازات التي طالما أضرت بمصالح المغرب، بل عليها أن تقف موقف الحزم والصرامة تجاه هذه النزعات الشرقانية اللاوطنية، وأن تكفّ عن مغازلة القوميين العروبيين بإعطاء كل الأهمية لقضايا المشرق، متوهمة أن هذه المغازلة تفيد النظام والحكم. وهو خطأ سبق للنظام أن وقع فيه عندما ظل يغازل الحركات الإسلاموية لأزيد من ربع قرن ظنا منه أن في ذلك حماية له ضد معارضيه اليساريين. لكن التفجيرات الإرهابية ليوم 16 ماي بالدار البيضاء أثبتت للحكم أنه كان مخطئا في تساهله مع حركات الإسلام السياسي وتقربه منها. على السلطات إذن أن تكون واضحة وصريحة في مواقفها، وخصوصا المتعلقة بسياستها الخارجية التي لا ينبغي أن تراعى فيها سوى مصلحة الوطن والمواطنين. وهذا يعني أن لا شيء يمكن أن يحد من سيادتها وحريتها بإقامة علاقات أو قطعها مع أية دولة، إذا استدعت ذلك مصلحة الوطن، دون الرضوخ لأي ابتزاز باسم فلسطين أو العراق أو "التضامن العربي" المزعوم. وأول شيء ينبغي على السلطة بالمغرب القيام به، حتى لا تبقى رهينة لابتزاز التيارات القومانية والإسلاموية، هو الانسحاب مما يسمى "الجامعة العربية" التي لا وجود لها على مستوى الأثر والفعل والنتائج، والإعلان رسميا ودستوريا أن المغرب مملكة أمازيغية. أما هؤلاء الذين يعطون الأسبقية لمشاكل المشرق على المشاكل الداخلية للوطن، فما عليهم، حتى يكونوا منطقيين مع أنفسهم وقناعاتهم ومواقفهم، إلا أن يرحلوا عن المغرب ويغادروه إلى الأبد، وليستقروا بفلسطين أو العراق أو أفغانستان، التي هي مواطنهم الروحية، ما دام أن المغرب يستحيل أن يكون هو فلسطين أو العراق أو أفغانستان. |
|