|
|
لا للدجل: لا «للغة الريفية»1
بقلم: ميمون أمسبريذ
ألزمت نفسي ألا أخوض في الخلافات الأمازيغية- الأمازيغية ألبته. فلم أشارك – على مدى عقد من الزمان – في أي من الصراعات أو الخصومات التي يتواجه فيها مناضلان أمازيغيان، اعتبارا مني أن أعداء الأمازيغية الحقيقيين الذين هم أحق بأن توجه إليهم سهام النقد والدحض والتفنيد إنما يوجدون خارج الأمازيغية؛ وأن أبناءها – مهما اختلفت تصوراتهم – لا يمكن أن يكونوا خطرا عليها: إذ ليس الاختلاف في الآراء بشأن الأمازيغية إلا تنوعا في أساليب إعلان الحب لها... تمسكت بهذا الموقف على مر السنين وإن كان يحز في نفسي ما كان يعتور النقاش الأمازيغي-الأمازيغي من انزلاقات لفظية كان حق الأمازيغية على أبنائها ألا ينحدروا إلى مهاويها: أعني النزوع السهل إلى تخوين الأمازيغيين بعضهم بعضا، واستمراء التراشق بالجمل القاتلة، وتبادل الاتهامات غير المبنية على أساس في معظم الأحيان، ومحاكمة النوايا، وتسقط الهفوات وغير ذلك من الآفات التي تسيء إلى أي قضية مهما كانت عدالتها. وإذ أقول هذا، لا أنفي أن جانبا من السجال الأمازيغي-الأمازيغي حوار جاد ومشروع؛ و الأطراف التي تخوضه جادة ومسئولة؛ كما أن رهاناته جديرة بأن يخاض من أجلها: فوحدة القضية لا تقتضي بالضرورة وحدة الآراء حولها. هذا، حين كانت القضية واحدة تحديدا... وحين كان السجال تعبيرا عن وجهات نظر مختلفة إلى القضية الواحدة... أما ما صار يروج هذه الأيام على لسان أشخاص من الريف عن «لغة ريفية»، يبدو أنها ظهرت إلى الوجود في غفلة من الأمازيغيين، فلم يعد يدخل في باب اختلاف المنظورات إلى ذات القضية الواحدة: لقد أصبحنا إزاء قضايا «أمازيغية» (إن كان هؤلاء لا يزالون يقبلون أن تنعت «قضيتهم» بالأمازيغية. وهو ما أستبعده). لقد أصبحنا بالأحرى أمام «قضايا». وهذا – تحديدا – هو ما جعلني أفسخ ذلك العقد الذي قلت إني أبرمته مع نفسي ألا أشارك في السجالات الأمازيغية-الأمازيغية أبدا. فإذ أخرج هؤلاء أنفسهم من الأمازيغية بادعائهم «الريفية» هوية ولغة، أصبحوا هدفا مشروعا للمدافعين عن الأمازيغية، ما داموا أصبحوا أعداء لها؛ بل وأعداء لها أشد خطرا عليها من أعدائها التقليديين: إذ هؤلاء يفجرونها من الداخل. وبذلك وجب نزالهم بالأولوية إلى أن يعودوا عن غيهم أو تصير دعوتهم هشيما تذروه الرياح. لقد أصبت – ككثيرين غيري ولا شك – بالذهول والهلع وأنا أقرأ بيانات عن «اللغة الريفية» وإعلانات عن محاضرات سيلقيها أناس عن «اللغة الريفية»منشورة في صحف محلية. في بادئ الأمر لم أنتبه، بل لعلي قرأت «الأمازيغية» مكان «الريفية» على سبيل التعود .. لكن تكرار لفظ «الريفية» صفة لـ»اللغة» في تلك البيانات والإعلانات جعلني أستفيق من غفلتي وأدرك الطامة الكبرى التي توشك أن تحل بالأمازيغية على يد زمرة ممن كانوا ينتسبون إليها، ما لم يتصد لخططهم وتدحض دعاواهم. هكذا، وبين عشية وضحاها، يعاد العداد إلى نقطة الصفر، ويعصف بعقود من نضالات الحركة الأمازيغية من أجل القضية الأمازيغية... هكذا، وبكل خفة واستخفاف، يراد تبديد رصيد ثمين من الشرعية والمشروعية النضاليتين تراكم للقضية الأمازيغية عبر نضالات دءوبة في المغرب وشمال أفريقيا وأوروبا. ومن أجل ماذا؟ من أجل إرضاء النزعة الميغالومانية لـ»نشطاء» يتجاوز حجم أنواتهم حجم أي قضية. يقدم هؤلاء أنفسهم على أنهم «راديكاليون» في دعوتهم «الريفية»؛ والحال أنهم لا يفعلون أكثر من تكريس ما انتهت إليه «السياسة البربرية» للدولة المغربية – تلك السياسة التي أفضت إلى تشتيت اللغة الأمازيغية وتحجيمها إلى لهجات (أصبح «الراديكاليون» الجدد يعتبرونها من فرط استلابهم «لغات»). هل من نجاح أكبر من هذا كان يمكن أن يحلم به أعداء الأمازيغية؟ ويا لها من راديكالية هذه التي تدعو إلى تحصيل حاصل» السياسة البربرية» للمخزن العروبي وتبني إحدى أسوء نتائج هذه السياسة - تفتيت الأمازيغية – باعتبارها مطلبا نضاليا! هل من مفارقة أغرب من هذه: أن تطالب الضحية بترسيم الضرر الذي ألحق بها بوصفه مكسبا دستوريا؟! ربما يحسب هؤلاء أن «ثوريتهم» تكمن في استبدال كلمة «لغة» بكلمة «لهجة» لتصبح لدينا «لغة ريفية» مكان «لهجة ريفية»! وكأن للكلمات مفعولا سحريا يمكنها من تغيير الأشياء؛ أو كأن الكلمات عند هؤلاء هي ذات الأشياء!إن تعدد لهجات اللغة الأمازيغية وانعدام – إلى الآن – لغة أمازيغية وسط، تكون لغة كتابة مشتركة بين الأمازيغيين على اختلاف لهجاتهم لهو أمر واقع، ليس له من دافع. لكن الغريب أن يظهر بين الأمازيغيين من يحول هذا الأمر الواقع مطلبا نضاليا وهدفا استراتيجيا. وبذلك يتحول واقع مفروض إلى مثال مرغوب في التفكير المقلوب ل»الراديكاليين» الجدد. وإذا بالضرورة تتحول إلى فضيلة! وأغرب من هذا أن بيانات هؤلاء تنطوي على عداوة لا تكاد تخفي نفسها إزاء المكونات الأخرى للأمازيغية. عداوة تتراوح أشكال التعبير عنها بين «النسيان» المقصود والتنقيص الصريح. هكذا نقرأ في أحدها أن أهل «اللغة الريفية» المبشر بها سينفتحون على قائمة من اللغات لا حد لطولها سوى حدود الخيال المجنح الجانح لواضع القائمة: من باسكية وكاطالانية وفارسية وكردية... وكما لو بالصدفة لا نجد في لائحة بريفير2 اللغوية هذه أيا من «اللغات» الأمازيغية الشقيقة (هكذا يجب أن نسميها منذ الآن: فما دام أصبح للريفيين لغة، يجب أن تكون للسوسيين لغة، وللأطلسيين لغة ولسكان الجنوب الشرقي لغة، الخ، في انتظار أن يظهر بين أهل هذه «اللغات» راديكاليون آخرون يطالبون بترسيم لكناتهم لغات جديدة – فالبداية هي التي تكون صعبة، كما يقال، وبعدها...!). يعلمنا علم الإجرام أن أبشع الجرائم هي تلك المرتكبة بين أقارب، وذلك بسبب المزيج العاطفي من الحب-الحقد الذي يكون وراء هذا النوع من الجرائم. لكني كنت أظن أن هذا الصنف من الجرائم إنما ينحصر داخل النطاق الفردي المحكوم بدواعي بسيكولوجية حميمة، ولا تتجاوزه إلى المجال الجماعي الذي تكون رهاناته هي التاريخي والثقافي واللغوي والإيديولوجي والرمزي... إلى أن كانت الجريمة التي يخطط لها أمازيغيون ضد الأمازيغية باسم... أمازيغية أخرى صارت تعرف عندهم ب»اللغة الريفية». والآن، ماذا ستكون هذه «اللغة الريفية» التي يبشرنا به هؤلاء الريفيون؟ هل هي» لغة» سوق السمك بالناظور؟ أم لعلها «لغة» نقطة العبور بين بني انصار ومليلية؟ أو ربما هذا الخليط الذي يتواصل به الناس في المقاهي والمد اشر والذي ثلثه عربي محرف قليلا أو كثيرا، وثلثه الثاني قشتالي مشوه، والآخر أمازيغي عملت فيه عوامل التعرية الشفوية عملها حتى صارت ألفاظه أثرا بعد عين. أم لعل «الراديكاليين» الريفيين سينحتون لنا لغة جديدة نمتاز بها نحن الريفيين، وتكون ألفاظ معجمها من اللغات التي سننفتح عليها بزعمهم كالكردية والباسكية والفارسية و، لم لا، الكينيا-روندية؛ مع استثناء «اللغات» الأمازيغية الأخرى طبعا، ما دام الناطقون بها أعداء يخشى كيدهم ؟! يا للضلال!
بمناسبة لغات الانفتاح، هل سأل نشطاء «اللغة الريفية» أنفسهم: كم من الريفيين والريفيات ينوون أو يرغبون في أن يتعلم أبناؤهم وبناتهم الكردية والفارسية والباسكية... مع احترامي المطلق لهذه اللغات ولكل لغات العالم وأهلها. على أية سوسيولسانيات يعتمد هؤلاء في صياغة خططهم اللغوية المزعومة؟! إني أخشى أن يكون الأمر في هذا كله إنما يتعلق بسيكولوجيات وليس بإيديولوجيات: بسيكولوجيات من نوع خاص، القضية عندها وسيلة لا غاية؛ وسيلة للإشباع الفانطازماغوري لرغبة الذات المتضخمة في الزعامة؛ أيا كان حجم «الزعامة» الموهومة (ألا يذكركم هذا بشيء؟). فكل من جمع حوله خمسة من تلاميذه أو طلبته وجعل يخطب فيهم، ادعى قضية وأصبح يعد نفسه زعيما وثوريا وراديكاليا... حتى إني أخشى أن يأتي علينا حين من الدهر يكون عندنا فيه من القضايا واللغات والأطروحات قدر عدد «النشطاء». أليس كل واحد منا يحلم أن يكون زعيما على شيء ما؟!وفيما تلفظ الأمازيغية أنفاسها الأخيرة، يرقص «الزعماء» على جثمانها منتشين بزعاماتهم الوهمية؛ إلى أن يستيقظوا يوما على حقيقة أنهم «زعماء» على لا شيء. لكن بعد فوات الأوان. لم يصف أمازيغيو الريف لغتهم المحكية أبدا بغير الأمازيغية، ولا أنفسهم إلا بالأمازيغيين. وصفة الريفية وصف أطلق على أمازيغية الريف من خارج الريف ولم يكن من صنع أهله. ولنتذكر الخطأ الفادح الذي وقعت فيه وكالة لحليمي في إحصائها للناطقين بالأمازيغية، حيث أجاب معظم الريفيين بأنهم يتكلمون الأمازيغية؛ الشيء الذي جعل وزارة التعليم تظن أن اللهجة السائدة في الريف هي لهجة الأطلس، التي يسميها أهلها الأمازيغية أيضا! فاعتبروا يا أولي الأبصار: المتكلمون يقولون إنهم يتكلمون الأمازيغية، والمنظرون الراديكاليون يريدون أن يقنعوهم بأن لغتهم هي «اللغة الريفية»! هكذا، لا يكتفي «الثوريون» الريفيون بتبني النتائج التي انتهت إليها «السياسة البربرية» للدولة المغربية كما ذكرت سابقا، بل يتجاوزون ذلك إلى تبني المصطلحات والمفاهيم الإيديولوجية للخطاب الحامل لتلك السياسة – هذا الخطاب الذي أصبح نفسه يميل، تحت ضغط النضال الأمازيغي، إلى الحديث عن لغة أمازيغية بدلا من لهجات هي من التباعد والاختلاف بحيث تشكل «لغات» قائمة بذاتها. نعم إن معضلة لغة أمازيغية معيارية قائمة لا جدال فيها. لكن هل حل المعضلة هو التخلي عن العمل المتضافر من أجل بناء تلك اللغة، من باب «كم حاجة قضيناها بتركها»؟ أم أن حلها يكمن في رفع تحدي المعيرة من خلال جهد عبر-أجيالي طويل النفس، بعيد المدى؛ قد لا نشهد ثمرته نحن؛ لكن الأمازيغية ستشهدها؟ لكن أصحابنا على عجلة من أمرهم: يريدون لغة جاهزة، هنا والآن، ولو لغة إشارات وتعابير جسدية!
كل لغات العالم تتكون من وجهين: وجه محكي ووجه مكتوب. فبماذا تتميز «اللغة الريفية» عن سائر اللغات لتكون اللغة المحكية فيها هي ذاتها لغة الكتابة؟ نعم، إن معظم الأدب الأمازيغي (بالمعنى العام لكلمة أدب) لا يزال يكتب إلى الآن في التنويعات المحكية للغة الأمازيغية؛ مع ما ينطوي عليه هذا الواقع من معيقات وحدود ونواقص جعلتني أقول عنه في مناسبة سابقة إن تاريخ الأدب الأمازيغي – عندما سيكتب – سيدرجه ضمن مرحلة ما-قبل الأدب الأمازيغي. لكن هل ينبغي علينا، كما يدعونا إلى ذلك أصحاب «اللغات» الجهوية، أن نعتبر هذا الواقع قدرا محتوما ووضعا نهائيا؟ أم على العكس حالة مؤقتة انتقالية، في طريقها بفضل الجهود الفردية والجماعية، إلى التحول إلى لغة أمازيغية جامعة يستعملها الأمازيغيون في التواصل المكتوب وفي التواصل الشفهي بين المتمدرسين إلى جانب اللهجات الجهوية كما يحدث في كل لغات المعمور؟ ختاما، ألم يفكر أدعياء «اللغات» الجهوية في الصورة التي يقدمونها عن الأمازيغيين؟ صورة أناس لا يعرفون ماذا يريدون، ولا بوصلة لهم غير أهوائهم التي تتجه حيثما وجهتها رياح الانفعال ورد الفعل.وفيما يأخذ «العهد الجديد» منعطفا عروبيا لم يشهده «العهد القديم» نفسه، متراجعا شيئا فشيئا عن شعاراته الأولى عن الأمازيغية بعد أن تبين له أن ورقة الأمازيغية ليست بالورقة الرابحة؛ أو بالأحرى: أن الأمازيغية لا تشكل ورقة بالمرة، مادام الأمازيغيون لا يمثلون حركة منظمة، موحدة الوجهة، بأهداف إستراتيجية واضحة ومطالب مرحلية محددة، بحيث يمكن للعهد الجديد أن يلعب ورقتها في لعبة التوازنات التي يباشرها – أقول: لما وجد هذا العهد أن الأمازيغية لا تشكل ورقة رابحة، تحول عنها إلى العروبة، مضاعفا استثماراته فيها، مطمئنا إلى ما تدره عليه من مردود رمزي وسياسي ودبلوماسي مضمون. ختمت مقالا لي سابقا بالجزم أن الأمازيغية إن ماتت لن تموت مقتولة بل منتحرة؛ وأن انتحارها: تخلي أهلها عنها. وأضيف هنا: وانتحارها: تفرق أهلها شيعا، كل حزب بما لديهم فرحون.إحالات: 1ينظر مقال متارك بلقاسم في نفس الموضوع بالعدد السابق من ثاويزا 2 الشاعر الفرنسي المعروف بقصائده التي هي عبارة عن لوائح أو جرود لأشياء متنافرة لا يجمعها شيء خارج القصيدة
|
|