|
|
سنوات الغاز بقلم: محمد مغوتي. قاسيطة
غيوم كثيفة تتراكم هذه الأيام في سماء العلاقات المغربية الاسبانية. ويبدوأن قدر الجارين المتوسطيين محكوم بلعبة شد الحبل التي يتم فيها تبادل الأدوار حسب الظروف. وقد كانت الطماطم المغربية مقدمة لسلسلة من المساجلات والاتهامات المتبادلة بين الجانبين. ولكن المثير في الأمر أن ما يجري لا يحرك القرارين الرسميين سواء في الرباط أو مدريد الا باحتشام شديد. لكن إعلان حزب «التجمع الوطني للأحرار» عن رغبته في فتح ملف ضحايا الغازات الكيماوية الإسبانية في الريف المغربي خلال الاستعمار الاسباني، يشكل نقطة بالغة الأهمية في سياق الفتور الذي يميز العلاقات بين البلدين. إن قرار الحزب المغربي جاء كرد فعل مباشر على التحرشات التي مست المغرب مؤخرا، بعد تسريب الصحفي الاسباني «اغناسيو سيمبيريرو» في صحيفة «الباييس» تقرير اللجنة الأوربية حول وضعية حقوق الإنسان في الصحراء قبل صدور النسخة النهائية للتقرير من طرف الاتحاد الأوربي. وكذا بعد تهجم أحد البرلمانيين الأسبان على الحكومة والعائلة الملكية في المغرب. وهكذا يجب وضع قرار حزب الحمامة المغربي في إطاره الظرفي. لكن هذه السابقة التاريخية تستحق مع ذلك كل الاهتمام والمتابعة، إذ تعيد إلى أذهاننا ملفا كبيرا ورثت الحكومات المغربية المتعاقبة فضيلة السكوت عنه. والحال أن ملفا بحجم ما جرى في الريف خلال عشرينيات القرن الماضي، استحق أن يكون أولوية وطنيةـ منذ فجر الاستقلال ـ كنوع من رد الاعتبار لآلاف الضحايا الذين سقطوا نتيجة إطلاق تلك الغازات، ولتكريم رجالات المقاومة الريفية الذين لقنوا الماكينة العسكرية الإسبانية درسا في البطولة وإستراتيجية الحرب في «أنوال» الخالدة. مسألة الغازات الكيماوية التي أطلقها الجيش الاسباني في الريف، تتجاوز بكثير مجرد اللعب بها كورقة سياسية أو انتخابية ظرفية. إنها جزء من المصالحة التي دشنها المغرب مع ماضيه. والسكوت عن هذه القضية يعد تواطؤا على طمس الذاكرة المغربية. وكل رؤية مستقبلية في إطار العلاقات الدولية لا بد أن تنطلق من معالجة اختلالات الماضي. ولأن ذاكرة التاريخ لا تموت، فإن الدولة المغربية قبل غيرها مطالبة بوضع هذا الملف في صلب الاهتمام لأنها مؤهلة، بحكم موقعها في صناعة القرار السياسي، لمناقشة هذا الموضوع مع الجانب الاسباني الذي ـ وفي ظل غياب هذا الضغط المطلوب من المغرب ـ يتعامل مع المسألة بلا مبالاة واضحة لأن المعنيين بالأمر لم يضعوا هذه القضية ضمن اهتماماتهم في إطار العلاقات بين البلدين. لقد انتبهت الدولة المغربية خلال السنوات الأخيرة، بناء على تقارير ودراسات وزارة الصحة، إلى أن الإصابة بمرض السرطان يشهد في منطقة الريف ارتفاعا ملحوظا بالمقارنة مع باقي جهات المغرب. وتعددت التحليلات التي تربط بين هذه الظاهرة وواقعة الغازات الكيماوية الاسبانية. ولكننا لم نسمع بمطالبة رسمية تدعو إسبانيا إلى الاعتذار والتعويض المادي للمتضررين. ولو حدث هذا فلن يكون المغرب استثناء في هذا المقام. فها هي فرنسا تقرر ـ تحت ضغط السلطات الجزائرية ومنظمات حقوقية فرنسية ودولية ـ تعويض أبناء منطقة «بشار» في الجزائر عن الضرر الذي لحق بهم نتيجة إشعاعات التجارب النووية التي قام بها الفرنسيون خلال ستينيات القرن العشرين في الصحراء الجزائرية. وغير بعيد عن هذه المنطقة يشهد إقليم «فكيك» المغربي بدوره حالات مرتفعة من الإصابة بالسرطان من المرجح أن تكون تلك التجارب النووية المذكورة قد تسببت فيها. وقد تحركت فعاليات مدنية محلية للمطالبة بالتعويض، لكن الدولة مطالبة بتبني هذا الملف من أجل تقوية موقف المتضررين. إن مصلحة المغرب الأولى تقتضي الدفاع عن القضايا الوطنية المختلفة سواء تعلق الأمر بالشأن الداخلي الخاص، أو بما هو مرتبط بالعلاقات الخارجية التي يتحتم على المغرب الانخراط فيها بقوة. ولا يمكن أن نبرر بأي حال من الأحوال سكوتنا عن المطالبة بحقوق ضحايا الغازات الكيماوية الإسبانية التي تعتبر محرمة دوليا بحكم اتفاقيات دولية متعددة. وكما امتلك المغرب الشجاعة لنبش ذاكرة الماضي القريب عندما فتح ملف «سنوات الرصاص» بالرغم من كل القيل والقال اللذين رافقا هذه التجربة، آن الأوان لامتلاك ذات الشجاعة للمطالبة الجهرية بإحقاق حقوق الضحايا المغاربة خلال الحقبة الاستعمارية. وفي هذه الخطوة مصالحة حقيقية مع الذات المغربية، وعرفان بدور المقاومة الريفية في الذود عن الهوية المغربية. أما أن يصبح تلويح حزب»التجمع الوطني للأحرار» مجرد خطاب للاستهلاك الظرفي، فذلك أمر سيزيد من كيمياء الغبن الذي يستشعره المتضررون الريفيون دون أن يكون لهم حول ولا قوة في تمكين العالم من الانتباه إلى قضيتهم. وتلك مسؤولية ينبغي أن يتحملها الجميع بدءا من الدولة والأحزاب السياسية والجمعيات الحقوقية وانتهاء بكل الفاعلين في هيئات المجتمع المدني محليا ووطنيا. والحسم في هذا الملف هو البوابة نحو الأجرأة الفعلية لتوصيات هيئة «الإنصاف والمصالحة» بخصوص جبر الضرر المناطقي الذي يعتبر الريف المغربي معنيا به بشكل كبير. وفي انتظار أن تتنازل اسبانيا عن كبريائها لتعترف بما اقترفه جيشها في جبال الريف المغربي من جرائم إبادة، نرجو أن لا يكون ما أعلنته مؤخرا شركة اسبانية عن اكتشاف بئر للغاز الطبيعي بالمياه المغربية بين طنجة والعرائش ذرا للرماد في العيون. فهل سينسينا اكتشاف الغاز الطبيعي مأساة استنشاق الغاز الكيماوي؟؟..(محمد مغوتي. قاسيطة في 07/04/2009. med_maghouti@hotmail.fr)
|
|