|
|
افتتاحية: من أجل دولة أمازيغية الهوية بالمغرب بقلم: محمد بودهان يعتبر المغرب اليوم بلدا عربيا تحكمه دولة عربية وبسلطة عربية. صار هذا الوضع "العربي" للمغرب أمرا واقعا لا يشك فيه ولا يعترض عليه أحد. كيف يشك المرء في "عروبة" المغرب وهو عضو بالجامعة العربية التي لا تقبل أن تنضم إليها إلا البلدان ذات الانتماء العربي؟ كيف يعترض أحد على عروبة المغرب وكل دول العالم، وهيئة الأمم المتحدة، تدرجه ضمن مجموعة الدول العربية وتتعامل معه على هذا الأساس، أي كدولة عربية؟ أصبحت إذن "عروبة" المغرب أمرا مسلما به تماما كعروبة اليمن أو الأردن أو قطر... وحتى عندما لم يعد ممكنا اليوم إنكار الأمازيغية كهوية أصلية للمغرب، يتم الالتفاف والتحايل على هذا المعطى باعتباره عنصر اختلاف وتنوع يثري ـ ولا يلغي ـ الهوية العربية الغنية بمكوناتها الثقافية والعرقية في إطار وحدة الهوية العربية للمغرب، حيث يصبح الأمازيغيون مجرد أقلية إثنية "اختارت" الانصهار في الهوية العربية والانتماء إليها وتبني لغتها العربية. هكذا يبقى المغرب بلدا عربيا وبهوية عربية وحكم عربي ودون أن يطرح كل ذلك السؤال التالي: كيف أصبح المغرب بلدا عربيا؟ لماذا هذا السؤال؟ لأن الجميع، بمن فيهم المقتنعون بعروبة المعرب، يعرفون ويعترفون أن المغرب لم يكن بلدا عربيا في الأصل، بل كان بلدا أمازيغيا، بشعب أمازيغي ولغة أمازيغية وهوية أمازيغية وحكم أمازيغي. وهذا يعني أنه أصبح بلدا عربيا في مرحلة معينة من تاريخه ما دام أنه كان قبل ذلك بلدا أمازيغيا. إذن متى أصبح المغرب بلدا عربيا؟ وكيف تم ذلك؟ لننطلق، قصد التوضيح والتبسيط، من أمثلة ملموسة ومعروفة: نعرف اليوم أن الولايات المتحدة بلد يحمل هوية ذات أصول أوروبية. لكن تاريخيا كانت هوية هذا البلد هندية (نسبة إلى الهنود الحمر، السكان الأصليين لما يعرف اليوم بالولايات المتحدة الأميريكية). فمتى أصبح إذن هذا البلد ذا هوية أوربية وغير هندية؟ وكيف تم ذلك؟ حصل ذلك ما بين القرن السادس عشر ونهاية القرن الثامن عشر بعد هجرة مئات الآلاف من الأوروبيين إلى أميريكا الشمالية ليستوطنوها ويستقروا بها بصفة دائمة ونهائية. لكن ليست هذه الهجرة، في حد ذاتها وبصفتها هجرة، هي التي قضت على الهوية الهندية الأصلية لأميريكا وأحلّت محلها الهوية الأوروبية الجديدة. بل ما صاحب تلك الهجرة من غزو لأرض الهنود الحمر بالحرب والعنف، والاستيلاء عليها بقوة السلاح والرصاص لتتحول إلى ملك للمهاجرين الدخلاء وتصبح امتدادا هوياتيا لموطنهم الأصلي الذي هو أوروبا. كان هناك إذن استعمار أوروبي فيه عدوان وقتل وبطش بالسكان الأصليين، نتجت عنه إبادة حقيقية للهوية الهندية الأصلية، إبادة شملت الإنسان واللغة والهوية والثقافة، لتفسح المجال لإنسان آخر هو الإنسان الأبيض الأوروبي، وللغة أخرى هي اللغة الإنجليزية والإسبانية، ولهوية أخرى ذات أصول أوروبية، ولثقافة أخرى هي الثقافة الأوروبية، ولديانة أخرى هي الديانة المسيحية. هكذا اختفت ـ تقريبا ـ الهوية الهندية الأصلية وحلت محلها هوية جديدة أوروبية الأصل من حيث الإنسان واللغة والثقافة والانتماء والسلطة السياسية الحاكمة. وهذا ما حدث كذلك ببلدان أخرى فقدت هويتها وأصبحت تمثل هويات أخرى لشعوب أخرى غزت هذه البلدان واستوطنتها بقوة السلاح، كما حصل في كندا وأستراليا اللتين اعترفت مؤخرا حكومتاهما، وبشكل رسمي وعلني، بالجرائم التي ارتكبها الغزاة الأوروبيون في حق الشعوب الأصلية لأستراليا وكندا، وقدمتا اعتذارا حكوميا رسميا لما تبقى من السكان الأصليين، مع التزام حكومة كندا بدفع تعويضات لهؤلاء السكان. نعود إلى سؤالنا حول المغرب: إذا كان المغرب في الأصل بلدا أمازيغيا، فكيف أصبح بلدا بهوية عربية؟ ومتى حصل ذلك؟ 1 ـ هناك من يرى أن المغرب، وكل شمال إفريقيا، تحول من بلد أمازيغي إلى بلد عربي الهوية بنفس العملية التي رأيناها في مثال أميركيا الشمالية التي تحولت من بلد هندي الهوية إلى بلد بهوية أوروبية. بمعنى أنه، على غرار ما جرى بأميريكا، كان هناك استعمار عربي استولى على الأراضي الأمازيغية بالمغرب وتملكها واستوطنها بقوة السلاح، ونقل إليها طبعا لغته وهويته فأصبحت تلك البلدان الأمازيغية في أصلها، منذ احتلالها من طرف العرب، بلدانا تابعة للموطن الأصلي لمستعمريها ومستوطنيها العرب، هوياتيا ولغويا وسياسيا، أي أصبحت جزءا من الأراضي العربية. هذه النظرية "الاستعمارية" التي تفسر تحول المغرب إلى بلد عربي، تثير مجموعة من الملاحظات والأسئلة: أ ـ متى حصل هذا الاستعمار العربي للأرض الأمازيغية والاستيلاء عليها وإحلال الهوية العربية بها؟ فما دام أن دولا أمازيغية، بهوية أمازيغية وحكم أمازيغي، مثل البرغواطيين والموحدين والمرابطين والمرينيين، قد حكمت المغرب بعد فترة ما يفترض أنه غزو عربي للمغرب بعدة قرون، فهذا يعني واحدا من اثنين: ـ إما أنه لم يكن هناك استعمار عربي أصلا للمغرب، بل استمر المغرب بلدا أمازيغيا يحكمه أمازيغيون بعد أن اعتنق سكانه الدين الإسلامي. ـ وإما أنه كان هناك بالفعل استعمار عربي، لكن تم الانتصار عليه وطرد المحتل العربي لتعود الأرض إلى أهلها الأمازيغيين وبهوية أمازيغية وحكم أمازيغي، تماما كما حدث بإسبانيا مثلا. إذن ففي كلتا الحالتين سيكون المغرب أمازيغيا ليبقى السؤال مطروحا: كيف تحول المغرب إلى بلد عربي؟ ومن جهة أخرى، إذا كان الأميركيون والأستراليون يعترفون بأنهم استعمروا وغزوا بلدان الغير وفرضوا هويتهم بها بعد أن أبادوا الهوية الأصلية للسكان، فإن العرب الذين يفترض التفسير "الاستعماري" لعروبة المغرب أنهم هم كذلك عربوا المغرب باحتلالهم له واستيلائهم على أرضه وإبادتهم لهويته الأمازيغية واستبدالهم لها بهويتهم العربية، هؤلاء العرب أنفسهم يؤكدون أنهم لم يأتوا إلى شمال إفريقيا لغزوها واستعمارها والقضاء على هويتها الأمازيغية، بل جاؤوا لنشر تعاليم الإسلام والتعريف بعقيدة التوحيد. وبمجرد ما انتشر الإسلام واعتنقته غالبية السكان، رجع "الفاتحون" إلى بلادهم العربية أو اختاروا البقاء بالمغرب الأمازيغي بعد أن اندمجوا مع السكان الأصليين وأصبحوا جزءا منهم منتمين إلى الهوية الأمازيغية لهؤلاء السكان. في الحقيقة، كل التبريرات التي تسوّغ مجيء العرب إلى شمال إفريقيا تؤدي إلى نتائج تناقض تلك التبريرات وتحرج العرب أنفسهم: ـ فإذا جاؤوا لاستعمار شمال إفريقيا وفرض هويتهم العربية محل الهوية الأمازيغية للسكان كنتيجة لانتصارهم العسكري، على غرار ما حدث بأميركيا مع الهنود الحمر، فهذا يعني أن الإسلام الذي جاؤوا لينشروه بالبلاد الأمازيغية هو دين احتلال وغزو واستعمار. وهذا ما يتنافى مع قيم الإسلام المعروف بالتسامح واللاعنف. كما أن الاعتراف بالاستعمار العربي لبلاد تامازغا يعطي الحق للأمازيغيين في مقاومة هذا الاستعمار العربي الذي لا يمكن أن يصبح شرعيا أو امرأ واقعا بالتقادم، تماما كاحتلال مدينة مليلية من طرف الإسبان منذ 1497، والتي يعتبرها المغرب مدينة مغربية تحت الاحتلال على اعتبار أن مغربيتها لا تسقط بالتقادم أبدا مهما طالت مدة استعمارها واحتلالها. ـ أما إذا كانت أهداف مجيء العرب إلى البلاد الأمازيغية سلمية تتمثل في الهداية إلى الإسلام بطرق سلمية لا حرب فيها ولا عنف ولا إكراه ولا غزو ولا احتلال، فهذا يعني أن المغرب هو دائما بلد أمازيغي ما دام لم يسبق لأية جهة أن غيرت هويته الأمازيغية أو استبدلتها بهوية أخرى دخيلة. لكن إذا تناولنا دخول إلى العرب إلى البلاد الأمازيغية بشيء من الموضوعية، بعيدا عن التبريرات الأخلاقية والدينية المحرفة للحقيقة التاريخية، سنخلص إلى أن العرب غزوا بالفعل شمال إفريقيا واستولوا على أجزاء من أراضيها وحولوها إلى أراضٍ عربية تابعة هوياتيا وسياسيا للسلطة العربية بالمشرق، خصوصا في العهد الأموي الذي كان فيه المغرب إقليما عربيا خاضعا للحكم العربي بدمشق. لكن هذا الواقع الاستعماري لم يدم طويلا، إذ نجحت المقاومة الأمازيغية المحلية في استرداد السيادة الأمازيغية على المغرب، الذي أصبح مرة أخرى كيانا أمازيغيا مستقلا هوياتيا وسياسيا عن المشرق العربي. ولهذا فإن حالة احتلال الأوروبيين لأميركا وأستراليا وغرس هويتهم بهذه البلدان بعد إبادتهم للهوية الأصلية لتلك البلدان، لا تنطبق على الاحتلال العربي المؤقت للبلاد الأمازيغية، بل تنطبق عليه حالة احتلال الإنجليز لجنوب إفريقيا ومحاولتهم القضاء على الهوية الأصلية للسكان السود وإحلال محلها هويتهم الأوروبية. لكن المقاومة المحلية بقيادة "نلسون مانديلا" نجحت في القضاء على نظام الأبارتايد الاستعماري العنصري، واسترداد السيادة الهوياتية والسياسية كاملة للسكان الأصليين على بلدهم جنوب إفريقيا، تماما كما فعل الأمازيغيون في العهد الأموي حسب ما سبقت الإشارة إليه. انطلقنا إذن من الفرضية الشائعة التي تفسر "عروبة" المغرب بما تعرض له هذا الأخير من استعمار عربي على غرار ما حدث بأميركا وأستراليا. وبعد مناقشة هذه الفرضية وجدنا أنها غير صائبة ولا تجيب عن سؤالنا الذي يبقى مطروحا: كيف أصبح المغرب بلدا عربيا؟ 2 ـ هناك تفسير آخر ثانٍ، جد شائع كذلك، يرى أن تحول المغرب إلى بلد عربي كان نتيجة اعتناق سكانه للإسلام كدين ذي هوية عربية، نزل بلغة عربية وعلى رسول عربي وحمله إليهم أناس عرب بهوية ولغة عربيتين. وبالتالي، فاعتناقهم لهذا الدين شمل كذلك اعتناقهم لهويته العربية التي تبنوها كلغة وانتماء وكجزء من الدين الجديد، فأصبحوا بذلك ذوي هوية عربية انسجاما مع لغة القرآن العربية والانتماء العربي للرسول العربي. لا يحتاج هذا التفسير لعروبة المغرب إلى استدلال طويل لدحضه وتفنيده. ـ لو كان الإسلام وراء تحول المغرب إلى بلد عربي، لتحولت كذلك كل البلدان الإسلامية غير العربية، إلى بلدان بهوية عربية مثل تركيا وإيران أفغانتستان وأندونيسا... ـ هذا التفسير يسيء في الحقيقة إلى الإسلام إذ يجعل منه دينا استيعابيا يعرّب الذين يعتنقونه ويحول هويتهم الأصلية إلى هوية عربية. مع أن الإسلام لم يأت لتعريب الشعوب أو تحويل هويتهم إلى هوية عربية، بل جاء ليعرفهم بعقيدة التوحيد ويهديهم إلى الإيمان بها، دون أن يمس ذلك الهوية الأصلية لتلك الشعوب. 3 ـ التفسير الآخر، والأكثر شيوعا كذلك، يذهب إلى أن انتقال المغرب من هوية أمازيغية إلى هوية عربية كان بسبب انتشار اللغة العربية كلغة دين وثقافة وتعليم وسلطة. ليس من الصعب تبيان خطأ هذا التفسير هو أيضا. أ ـ اللغة عندما تكون دخيلة، لا يمكنها لوحدها أن تغير الهوية الأصلية للشعب الذي يستعمل تلك اللغة الدخيلة، خصوصا عندما تكون لغته الأصلية لا تزال حية ومتداولة مثل اللغة الأمازيغية. فلو صح أن انتشار اللغة العربية ـ على فرض أن هذا الانتشار شيء صحيح ـ بالمغرب هو سبب تحول هذا البلد من بلد أمازيغي إلى بلد عربي، لكانت دولة الهند ذات هوية إنجليزية نظرا لانتشار اللغة الإنجليزية بها واستعمالها كلغة رسمية وكلغة إدارة وعلم ومعرفة وسياسة وتدريس. ولكان السينيغال كذلك دولة بهوية فرنسية لأن اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية ولغة الإدارة والثقافة والعلم والتدريس... بل لكن المغرب نفسه ذا هوية فرنسية هو كذلك، نظرا للدور الكبير الذي تحتله اللغة الفرنسية بالمغرب، هذا الدور الذي أصبحت معه اللغة العربية لغة ثانوية ومتجاوزة. ب ـ إذا كانت لغات قوية ونافذة مثل الإنجليزية والإسبانية والفرنسية، لم تستطع تغيير هويات الشعوب التي تستعمل هذه اللغات كلغات دخيلة وأجنبية، مثل الهند والسينيغال والبيرو، فكيف للغة لا يتخاطب بها أحد مثل اللغة العربية أن تغير بلدا بكامله من بلد أمازيغي إلى بلد عربي، مع أن هذه اللغة لم تكن موجودة بالمغرب، قبل الحماية الفرنسية، لا كلغة رسمية ولا كلغة إدارة؟ 4 ـ هناك من يرى أن عروبة المغرب بدأت مع المهاجر إدريس الأول، باعتباره، حسب ما يحكيه التاريخ العروبي الأسطوري، مؤسس الدولة العربية بالمغرب عندما أصبح ملكا عربيا بنسب عربي، وهو ما جعل من المغرب بلدا عربيا تبعا لعروبة ملكه العربي. فهل هذا أمر ممكن ومعقول؟ أ ـ كيف لشخص واحد، جاء لاجئا وفارا يطلب الحماية والنجدة، ينجح في تحويل هوية بلد بكامله إلى هويته العربية التي هرب منها وتخلى عنها هو بنفسه يوم هرب من العروبة إلى الأمازيغ بشمال إفريقيا، مع أنه لم يكن غازيا يقود جيشا مسلحا للاستيلاء على أرض الأمازيغيين لتحويلها إلى ملك عربي؟ ب ـ إن حالة إدريس الأول، على فرض أن قصته صحيحة وليست أسطورة، والتي تقول بأن الأمازيغ نصّبوه ملكا عليهم، لا تختلف عن حالة كثير من المهاجرين الذين أصبحت لهم مسؤوليات سياسية بالبلدان التي هاجروا إليها في إطار هويتهم الجديدة للبلد الذي استقروا به، والتي اكتسبوها بحكم الموطن الجديد الذي أصبحوا ينتمون إليه. وهكذا لا تختلف حالة إدريس الأول ـ إذا سلمنا كما قلت تجاوزا بصحة ما تقوله الحكاية التي هي أقرب إلى الأسطورة منها إلى التاريخ ـ عن حالة الرئيس الفرنسي "نيكولا ساركوزي" الذي هاجر من المجر إلى فرنسا وانتخبه الفرنسيون رئيسا لهم بعد أن أصبح فرنسي الهوية تبعا لهوية البلد الجديد الذي أصبح ينتمي إليه. ولهذا فالسلطة التي يمارسها الرئيس "ساركوزي" سلطة بهوية فرنسية ولا علاقة لها بهوية أجداده المجرية. فهو لا يحكم فرنسا باعتباره مجريا، بل كفرنسي في هويته وانتمائه ولو أن أصوله العرقية مجرية. حالة إدريس الأول هذه، التي تشبه حالة الرئيس "ساركوزي" كما أوضحنا، تصدق كذلك على الأسرة العلوية الحاكمة بالمغرب ـ إذا صح أن أصولها العرقية عربية ـ التي ينطبق عليها ما ينطبق على الأسرة الملكية الحاكمة ببريطانيا، والتي هي ذات أصول ألمانية من الناحية العرقية، لكن هويتها إنجليزية مستمدة من هوية البلد الذي تحكمه رغم أن أصولها السلالية غير إنجليزية. فالأسرة الملكية بالمغرب هي إذن ذات هوية أمازيغية مستمدة من هوية الأرض الأمازيغية التي استقر بها أجداد محمد السادس العلويون منذ زمن بعيد، ولو أن أصولهم قد تكون عربية، لأن المحدد للهوية هو الأرض والموطن وليس العرق والأصل الإثني. لقد انطلقنا من السؤال: لماذا أصبح المغرب بلدا عربيا؟ ومتى تم ذلك وكيف؟ استعرضنا كل النظريات والتفسيرات التي حاولت تبرير الانتماء العربي للمغرب، فأثبتنا أنها غير صحيحة ومجانبة للصواب ولا تقدم جوابا شافيا عن السؤال المطروح. لماذا لا تستطيع هذه النظريات الجواب عن هذا السؤال؟ لأن المغرب، بكل بساطة، لم يسبق له أن كان بلدا عربيا تحكمه قوة عربية استولت عليه وألحقته بالأراضي العربية كجزء منها تابع لهويتها وسلطتها بعد أن قضت تلك القوة العربية على الهوية الأصلية الأمازيغيين كما حدث في أميركيا وأستراليا حسب ما أشرنا إليه. ولهذا فإن السؤال الذي طرحناه لا يمكن الجواب عنه أبدا لأنه غير ذي موضوع، هذا الموضوع الذي هو هوية المغرب العربية. فإذا لم يسبق للمغرب أن كان عربيا، فإنه من المستحيل الإجابة عن هذا السؤال: لماذا أصبح المغرب بلدا عربيا؟ مثل استحالة الجواب عن هذا السؤال: لماذا أصبح القطار يطير في السماء؟ لأن القطار لم يسبق له أن كان يطير في السماء بل لا زال يسير فوق السكة على الأرض. وبالفعل، فبالرجوع إلى ما كتبه المؤرخون العرب أنفسهم عن المغرب، سنلاحظ أنهم لم يكونوا يعتبرونه بلدا عربي الهوية في أية مرحلة من تاريخه قبل الحماية الفرنسية، كما يفعلون عندما يتحدثون عن اليمن مثلا أو الحجاز أو الشام أو العراق... بل كانوا يسمونه "بلاد البربر" إحالة عل هوية السكان، أو "بلاد إفريقية" إحالة كذلك على هوية الأرض الإفريقية البعيدة جدا عن الأراضي العربية التي تقع في قارة أخرى هي القارة الأسيوية. وحتى لفظ "المغرب" كان العرب يقصدون به مكان غروب الشمس التي تغرب جهة شمال إفريقيا حيث يقع المغرب. ولهذا كانوا يميزون بين المغرب الأقصى والأوسط والأدنى. أما الاسم الهوياتي الذي كان يعرف به المغرب منذ القرن الثاني عشر الميلادي فهو "مراكش" الذي ظل مستعملا إلى منتصف القرن العشرين، والذي يعني بالأمازيغية: أرض الله، وهي عبارة مكونة من كلمة "مور" التي تعني الأرض، وكلمة "كوش" التي تعني الله. واللافت أن كل الألفاظ الأجنبية الدالة على المغرب لا علاقة لها باللفظ العربي (المغرب)، بل هي مصاغة من اللفظ الأمازيغي "مراكش"، مثل: Maroc, Morocco, Marokko وMarruecos التي هي نطق إسباني لاسم "مراكش". وقد كان سلاطين فاس العلويون قبل الحماية يوقعون الظهائر والمراسلات باسم "سلطان مراكش" وليس "سلطان المغرب".لم يسبق للمغرب إذن أن كان ـ قبل الحماية كما سنرى ـ بلدا عربيا أو ذا انتماء عربي، لا عند العرب أنفسهم الذين كانوا يعتبرونه بلدا أمازيغيا، أي ما كانوا يسمونه "بلاد البربر"، ولا عند حكام المغرب أنفسهم من ملوك وسلاطين لمختلف الدول التي حكمت المغرب قبل الحماية طبعا. إذن من أين جاءت فكرة عروبة المغرب، الذي ظل دائما، كما أوضحنا، بلدا أمازيغيا بهوية أمازيغية؟ مصدرها هو الاستعمار الفرنسي الذي تعامل ـ وفرض التعامل ـ مع المغرب كبلد عربي ألحقه بمجموعة الدول العربية مع بذل مجهود مقصود وواعٍ ومنهجي لتحويله إلى بلد عربي، وذلك بخلق مؤسسات وإصدار قوانين وإعداد خطط وسياسات ترسخ عروبة المغرب بجانب التركيز على تعريب السلطة السياسية بالمغرب، والتي جاءت فرنسا لحمايتها، أي حمايتها من الأمازيغية كخطوة أولى لتعريبها وخلق وعي زائف لديها بأنها عربية الانتماء والهوية. هكذا تأسست في المغرب، لأول مرة في تاريخه، دولة عربية بناها المارشال "ليوطي" الفرنسي ووضع لها علمها ونشيدها الوطنيين. ومع 1956، تاريخ استقلال المغرب، كانت هذه الدولة العربية، ذات الأصل الفرنسي، قد نضجت واكتملت وأصبحت تتوفر على كل الوسائل والشروط لإعادة إنتاج عروبتها التي صنعتها فرنسا، والحفاظ عليها دون حاجة إلى حماية فرنسا التي يعود إليها الفضل في خلق تلك العروبة بالمغرب. وقد سلمت فرنسا الدولة العربية التي صنعتها بالمغرب إلى حكام ربتهم وصنعتهم كذلك لهذا الغرض، أي ليكونوا حكاما عربا وليحافظون على دولتها العربية ويتمموا مشروعها السياسي العربي الذي بدأته في المغرب. هكذا نشأت الدولة العربية بالمغرب كبلد عربي ينتمي إلى مجموعة الدول العربية. عروبة المغرب إذن إرث استعماري فرنسي. واستكمال تحرير المغرب واسترجاع كامل سيادته يفترض تحريره مما بقي من الإرث الاستعماري الفرنسي، الذي لا يزال يستعمر المغرب، أي تحريره من فكرة العروبة كهوية للمغرب، والتي كانت، كما شرحنا، من نتائج احتلال فرنسا للمغرب. وهذا التحرير يشترط العودة إلى الوضع الهوياتي الأمازيغي الأصلي الذي كان عليه المغرب قبل الاحتلال الفرنسي، عندما كان بلدا أمازيغيا أرضا وشعبا وسلطة، دون أن ينفي ذلك التنوع اللغوي والثقافي والعرقي والديني، لكن في إطار وحدة الهوية الأمازيغية للمغرب. وكما أن خلق فرنسا لدولة عربية بالمغرب اعتمد أساسا على خلق حكم عربي وبوعي انتماء عربي، فكذلك اليوم، فإن تحرير المغرب من هذا الإرث الفرنسي بخلق دولة أمازيغية منسجمة مع الأرض والشعب، يشترط أساسا خلق حكم أمازيغي وبوعي انتماء أمازيغي، على مستوى الهوية وليس على مستوى الأصل العرقي والإثني، بمعنى أن الدولة الأمازيغية الجديدة للمغرب لا تتمثل في حكام بأصول عرقية أمازيغية صافية ـ وهو أمر لا يمكن التحقق منه كما أنه غير مفيد ـ بل بهوية أمازيغية مستمدة من هوية الأرض الأمازيغية التي تحكمها هذه الدولة. وقد لا يتطلب الأمر تغييرا في الأشخاص والحكام، بل فقط تغييرا في هويتهم التي عليهم أن يعلنوا أنها أمازيغية، مع ما يترتب عن ذلك من نتائج تخص التوجه الأمازيغي للدولة في سياستها ومشاريعها وتعليمها، مع إيمان هؤلاء الحكام بانتمائهم الأمازيغي ودفاعهم عن هذا الانتماء والاعتزاز به. وإقامة هذه الدولة الأمازيغية، بالمفهوم الهوياتي طبعا، أصبح أمرا ملحا وضروريا للأسباب التالية: 1 ـ إعلان أن المغرب دولة أمازيغية هو استرجاع للسيادة الوطنية واستكمال لاستقلال المغرب بعد تحريره من الإرث السياسي الاستعماري الفرنسي المتمثل في خلق دولة عربية على أرض غير عربية. 2 ـ المصالحة بين الدولة والشعب، بين السلطة والأرض، إذ لا يمكن أن تكون الدولة ذات انتماء عربي مغاير للانتماء الأمازيغي للأرض والشعب، وإلا كانت تلك الدولة استمرارا لنفس الاستعمار الذي خلقها، وهو الاستعمار الفرنسي، وهو ما تجب مقاومته ومواجهته. 3 ـ لقد بلغت الدولة العروبية التي أنشأها الاستعمار الفرنسي بالمغرب، حدودها القصوى التي إذا تجاوزتها أصبحت هي نفسها خطرا على وجودها. أصبح ينطبق عليها المثل القائل: إذا بلغ الشيء حده انقلب ضده. لقد وصلت هذه الدولة إلى منتهاها الذي تصبح معه تلتهم نفسها وتلغي ذاتها كدولة. وهذا الالتهام والإلغاء الذاتيان يتجسدان بشكل جلي في: ـ تفشي ظاهرة الفساد والارتشاء في مؤسسات الدولة بشكل فظيع وغير مسبوق، هيمنة اقتصاد الريع الذي يأكل من الثروة الوطنية المحدودة ولا ينتج ثروة جديدة، اعتماد العلاقات العائلية والقرابة الدموية في تولي المناصب والاستئثار بخيرات البلاد بدل الكفاءة والاستحقاق وتكافؤ الفرص، استباحة الثروات الوطنية من طرف فئة من المقربين من مراكز القرار، والذين ينهبون المال العام دون الخوف من أية محاسبة أو مساءلة، تقوية الحكم الفردي واللاديموقراطي واحتكار السلطة والثروة ورفض اقتسامهما، تحول البرلمان والحكومة إلى مؤسسات شبحيه وشكلية لا حول ولا قوة لهما أمام سلطة البلاط التي هي كل شيء... ـ الاعتماد على الدين كعلة لوجود الدولة العروبية، واستعماله السياسي ضد الخصوم والمعارضين والأمازيغية، مع توسيع مجال "المقدس" على حساب القاعدة القانونية كما لو أن الدولة لا تزال في القرون الوسطى حيث كان الدين هو مصدر شرعية الحكم وممارسة السلطة. ـ عودة الدولة إلى الاستعمال المفرط للقوة لفرض وجودها، بدل اللجوء إلى القانون الملزم للجميع، بما فيه الدولة نفسها. وهذا ما رأيناه في قمع انتفاضة صفرو وبومالن دادس وسيدي إفني حيث تعاملت قوى الأمن مع المواطنين كوحش كاسر وجائع، وهو ما جعل الدولة ترجع إلى شكلها البدائي الأول المرتبط بالعنف والقوة والغلبة. كل هذه مؤشرات على أن الدولة العروبية بالمغرب بلغت غايتها التي إذا استمرت بعدها فإنها ستتحول إلى ضدها، أي إلى لا دولة. وهذا مبرر كافٍ للإعلان عن الدولة الأمازيغية لحماية المال العام من النهب، وإنقاذ نظام الدولة بالمغرب. دولة أمازيغية تقوم على مؤسسات سليمة يحكمها القانون الذي يحتكم إليه الجميع. قيام دولة أمازيغية الهوية بالمغرب لا يعني أن المغرب سيصبح بلدا ديموقراطيا ومتقدما كما لو أن الأمازيغية صيغة سحرية تفتح "سمسم" التقدم والحداثة والديموقراطية. لكن على الأقل سيصبح تحقيق هذه المطالب أمرا ممكنا بعد أن بات الجميع اليوم يائسا من إمكانية حصول أي تحسن أو تغير في ظل نظام الدولة العروبية. فضلا على أن الدولة الأمازيغية ستكون دولة منسجمة مع الشعب والأرض والهوية وليست إرثا استعماريا فرنسيا. فهل سيبادر المسؤولون الحكام بالإعلان على أن المغرب دولة أمازيغية وبهوية أمازيغية مع الانسحاب من جامعة الدول العربية؟ في هذا الاتجاه، اتجاه تمزيغ الدولة والسلطة السياسية بالمغرب، ينبغي مواصلة النضال والضغط على المسؤولين من أجل وضع حد للإرث السياسي الاستعماري الفرنسي. وإذا كنا نطالب بالإعلان عن دولة أمازيغية الهوية بالمغرب، فهذا لا يعني أننا نعادي العرب والعروبة التي نحترمها كهوية وانتماء في إطار بلدانها ودولها العربية. بل يعني ذلك إصلاح وضع شاذ أقامه الاستعمار الفرنسي، مع ما في ذلك الوضع من زيف وكذب لأن عروبة المغرب زيف وكذب كما شرحنا وبينا.
|
|