| |
"هرهرة" الألسن وسياسة
الذاكرة عند الأمازيغ
بقلم: إبراهيم عيناني (أسيف ن دادس،
ورزازات)
Ahraru yahraru، ahraru n ihriran
Awi d- yiwin idan awin-d ussan
Awi rzat-asen tirkwa g lealu
Tekwesm-asen-d ilgwuma
Ad tawim ad tessum iysan
Han ijenwiyen da ttucwun
Ad tenjem i yeqwma n iytan
هكذا تكلم هيرو. إن هذه الملحمة التاريخية تحكي قصة ربيبة
أمازيغية كانت تعمل عند أناس وافدين على تمازغا عندما نزلت في ضيافة مجموعة من
الأمازيغ،حيث استطاعت الخادمة بـ"هرهرتها" أن تنقذهم من ويلات السيوف. إن الإسراع
في نشر هدا النص التاريخي بامتياز يرجع إلى سببين: فالأول ينضوي تحت المحاولة التي
أقوم بها من أجل تفكيك المنطوق "هيرو ن ويرو" (انظر الأعداد السابقة لتاويزا)، وذلك
كاستئناف للبحث عن الاشتقاق، الأنساب والجينالوجية الدلالية للمركب الصوتي "هيرو"
وارتباطها بمعاناة الكائن الأمازيغي في المنطقة الجنوبية الشرقية للمغرب. وكما تمت
الإشارة إليه سابقا، فإن الهدف الأساسي من وراء هدا التفكيك، هو معرفة السر من وراء
ذلك الجين الباتولوجي الأمازيغي واستمرار لغته في الوجود والبقاء على تخوم كل
الثقافات التي أتت أساسا من اجل القضاء على لغته. أما السبب الثاني فيرجع إلى
مجموعة من الانطباعات حول الالتفاتة المكثفة تجاه الذاكرة الشعبية والإرث
الأمازيغيين من طرف وسائل الإعلام المغربية.
لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الموروث الثقافي الأمازيغي، فشملت برامج
التلفزة أفلاما وثائقية وبحوثا عن الأركيولوجيا الأمازيغية لمعرفة أصل تفيناغ،
مرورا بوصف تاريخ غامض دون التفكير في إعادة كتابته، وصولا إلى صناعة أفلام مبنية
أساسا على مجموعة من النماذج الأصلية داخل الأساطير الأمازيغية، وذلك من أجل
التسويق للحرف العربي بشكل عام. فبالإضافة إلى كون هذه الأعمال لا تتجاوز ذلك الوصف
الإثنوغرافي التقليدي المعهود لدى كل المستعمرين لشمال إفريقيا (ابتداء من الرومان
ووصولا إلى الأوربيين)، فإن هذا الرجوع المكثف إلى الماضي والموروث الأمازيغي ليس
إلا نوعا من التصالح مع الذات، يشير إلى نوع من الاعتراف المحتشم بالخطيئة واقتراف
الجرائم ضد إنسانية الكائن الأمازيغي.
إن طلب الصفح والاعتذار عن طريق الرجوع إلى الذاكرة الأمازيغية يقوم على اتهام
الذات. إنها التوبة من الجرائم المرتكبة، توبة تستدعي إعادة النظر في ثورات اعتبرت
مشروعة في وقتها، وذلك من أجل تطبيع العلاقات مع الذات. وبما أنه لا يمكن التعايش
بذاكرة مثقلة بالجرائم من طرف يدعو إلى النسيان عن طريق التذكير بجرائمه، فإن الصفح
بنفسه يتضمن الاستحالة والمأساة. فالكائن الأمازيغي لن يصفح عما لا يقبل الصفح لأنه
أولا سيجد نفسه أمام إحياء وكشف مكبوت قد يصبح أكثر مرارة مما عاشه في الوضع السابق.
وثانيا لأنه لا يمكن الحديث عن الصفح بدون استعمال اللغة الأمازيغية كوساطة مؤسسية.
إن عدم الاعتراف بلسان الضحية سيجعل من مسألة السيادة والهيمنة مشروعا سيستمر لكي
يشمل الصفح نفسه. إن استعمال اللغة العربية كأداة للتسامح أو كمؤسسة علمية للنبش في
ذاكرة الأمازيغ ما هو إلا تأكيدا واستمرار للسيادة العربية، بل هو إشارة واضحة
لحرمان الضحية/ الكائن الأمازيغي من حرية البحث العلمي والحديث عن موروثه بلغته
الأم. إذن لا يمكن الحديث عن الصفح داخل استمرار استعمال وسيادة لغة لا تقبل الصفح
والمصالحة، أو بدون لغة مشتركة أو إحالة مرجعية موحدة. وكما يقول الفيلسوف "دريدا"
هناك ما لا يقبل الصفح، وهذا هو الشيء الوحيد الذي يستحق الصفح. فالاعتذار بلغة لا
تفهمها الضحية استمرار لاقتراف الجرائم في حقها. ونفس الشيء يشير إليه هيجل عندما
اعتبر أن دائرة الصفح تتسع لتشمل كل شيء عدا الجريمة ضد الفكر... أي ضد القدرة على
المصالحة التي يتمتع بها الصفح.
إن البنية التقليدية للتسامح والمصالحة لدى الكائن الأمازيغي لا تنبني على معالجة
الشر، وإنما على الهروب من الشر والفرار إلى الجبال. فـ"هرهرة" الأمازيغ، نسبة إلى
اهرارو داخل الكهوف، نوع من التسامح وليس نسيانا، بل الأهم من ذلك أن استمرار وصمود
هذه "الهرهرة" أو "البربرة"، على هامش اللغات التي قدمت خصيصا للقضاء عليها إشارة
واضحة بأن العفو العام لا يعني أبدا النسيان. فـ"الهرهرة" ترجمة صوتية لذاكرة
مهووسة بالاغتصاب والمجازر التي ارتكبت في حقها، بل هي آلية لسانية تبعد الانتقام
وتزكي الأخلاق التي يتحدث عنها "ادكار موران" حين قال: يجب على الضحية أن تكون أكثر
ذكاء أو إنسانية ممن كان وراء معاناته. فإذا كان الصفح والمصالحة السياسية ملخصا في
القولة المشهورة لنلسون مانديلا: نعم للصفح لا للنسيان، فإن ما أسميه بالمصالحة
اللسنية ستؤسس على: نعم للمصالحة لكن بلغتي.
"أهرارو" كآلية لفلسفة اللسان
لقد كان هيدغر على حق عندما اعتبر اللغة من أخطر النعم لأن مهمتها تكمن في جعل
الموجود منكشفا، أو لأنها تبدأ بخلق إمكانية الخطر. فـ"أهرارو"، إضافة إلى كونه
يحمل دائما في طياته ذلك الجين الباتولوجي في بقائه وصموده، الذي هو مركب صوتي يضمن
إمكان الوجود وسط موجود ينبغي أن يكون موجودا منكشفا باستعمال تعابير هيدغر. إنه
يستدعي وجود عالم أمازيغي خاص وتاريخ مليء بالمعاناة والمجازر. والأهم من ذلك انه
يضمن وجود كائن له لغة ليس فقط للتعبير عن عواطفه وتجاربه، أو كأداة تتصرف في
الإمكانية العليا لوجوده، بل أيضا كلغة تنشئ إمكانية ضياع وجوده وانفتاحه على الخطر.
وإذا كان الخطر هو التهديد الذي يحمله الموجود للموجود حسب هيدغر، فإن "أهرارو"
يؤرخ لمرحلة تأسيس الأخلاق النبيلة بعد الهروب من الأخلاق الفاسدة. فالتيه في
الجبال والأدغال ما هو إلا إشارة لغياب الحب وانعدام التسامح. واستعمال الكائن
الأمازيغي للغة تتسم بـ"الهرهرة" أو "البربرة" أو "البلبة" ( إشارة إلى أسطورة
بابل، ولنا عودة إلى هذا الموضوع في ما بعد) ما هو إلا تعبيرا عن نزعة أخلاقية
مبنية على لغة التعصب واللاتسامح وانحطاط مستوى نظرية السلوكات الوافدة على تمازغا.
فإذا كانت العلامات وبشائر التجربة الدينية السائدة غامضة وعابرة، فإنها تتطابق مع
الواقع الصوتي لـ"أهرارو" أو "هيرو". إن الحديث عن "هرهرة" الألسن (أو بربرتها)
يؤدي إلى المفارقة الكبرى للغز الدين كمحبة (وأعني كل الأديان التي مرت على خشبة
مسرح الكائن الأمازيغي)، وسيرفع الالتباس عن اختزال الكائن الأمازيغي إلى مجرد اسم
"بربر" بدون جوهر. فالمفارقة الأولى تكمن في دعوة الدين إلى محبة الأعداء، أي
المختلفين لسنيا، لكن باستعمال لغة السيف. فأن يحب المرء أعداءه فهذه مفارقة. لقد
نشر الفاتح أمامه لغة الحق والخير والعدالة دون أن يدرك أنه بينما كان ينطلق باحثا
عن هذه القيم، يعطي الدليل على غيابها أصلا عنده، وهو ما لم يكن يفجر إلا العنف
والجرائم. أما الجانب الآخر للمفارقة فيكمن في استحالة حب المرء لجلاديه: ولكي نعبر
عن ذلك نلتجئ إلى استعمال لغة غير عادية على شكل "هرهرة" كتعبير على الحفاظ على ما
لم يوجد بعد من أجزاء الحياة، ومقارنة لما قد قيل أو أنجز. ومن "هرهرة" الألسن
انبثقت تسمية الكائن الأمازيغي بـ"البربر"، ليس كتعبير عن دونيته، لكن كتعبير عن
عجزه في فهم الإيتوس الوافد عليه. إن وضعية أو استمرار "أهرارو" في البقاء إشارة
لاستمرار غموض الأخلاق الوافدة عليه، وبالتالي فهو إثبات لانتشار الاختلاف كتطوير
لإيثار الآخر. وبما أن الآخر سري لأنه آخر، باستعمال تعابير دريدا، فإن "أهرارو،
كاختلاف في هذا السياق، لن يكون بالضرورة كلاما واضحا أمام لغة السيوف التي لا تقبل
الاختلاف، وإنما شيا يتعذر التعبير عنه: شرط إمكانية وجود المفاهيم والكلمات على حد
تعبير دريدا. فالاختلاف عند فتنجنشتاين هو ما لا يمكن وصفه، والذي يجعل ما يمكن
وصفه ممكنا. "أهرارو ن اهريران" عندما تغنى بها الخادمة وهي تحمل طفلا على ظهرها (كما
تشير إليه هاته الخرافة التي بين أيدينا)، كلام قديم في تاريخ الأمازيغي، أتى من
عمق صامت، حيث نجده هنا يستعيد ذلك المصدر الهوياتي كوسيلة لإعادة تنظيم الجمع كشكل
لمقاومة الانفصال والتشتت: فاستعمال الضمير "ن" المنتمي إلى "أهراو ن إهريران" له
ارتباط بالذات وتفيد إعادة لامتلاك. فـ"إهريران" جمع لـ"اهرارو" أو لـ"هيرو"، مرتبط
بالتكاثر. يحقيق ذلك على مستوى اللغة. والشكل الاختلافي إشارة إلى الشعور بالرعب
والتهديد إزاء مجموعات هائلة مهيمنة. كما أنه يمكن أن تفيد التكرار، أي تكرار
المعانة مع جميع الأديان، واستمرار ظواهر الشر الجذري بمفهومه الكانطي. وإلى جانب
الألم والحنين المخفيين من وراء الأصوات، فإن "أهرارو" خطاب تكراري وحنين إلى إيجاد
مرجع دلالي لمشاريع الإبادة التي تعرضت لها اللغة الأمازيغية من طرف عدة أديان، حيث
يمكن فهم الأصوات كشيء لا يمكن قوله، كما هو إبان حدوثه (باستعمال اللغة العادية).
لكن يجب حفظه في الصمت، ليس فقط كتبادلات لفظية تسجل في أية ظرفية عسيرة، لكن
كتعابير تحافظ على التاريخ السري لذلك الجين الباطولوجي للغة الأمازيغية حيث يوصف
بـ"الهرهرة" أو "البربرة" كلما تعرض لسوء الفهم.
و من جهة أخرى، وتماشيا مع ظاهرية هوسرل، فعندما يمثل أمامنا موضوع ما، فإننا نقصده.
فالقصدية من وراء "أهرارو"، كمركب صوتي، تشرح كيف أن ذات الخادمة الأمازيغية مرتبطة
بمواضيع العنف ولاأخلاقية الوافدين على بلادها. إن طبيعة المركب الصوتي (بعيدا عن
حقله الدلالي) يهدف إلى معرفة كافية ومناسبة بما جرى في العالم من حولها. فهل هذه
المركبات المنطوقة كافية لكي تحيط كلية بموضوع ذلك الكم الهائل من المواضيع الوافدة
عليها؟ إن قدرة "أهرارو" على ربط علاقة بين الغموض السائد وتمثيله بشكل عام، وفي
مرة واحدة، يذكرنا بأن اللغة هي النظام الرمزي الأكثر اقتصادا كما يقول بنقنست.
فهذا التعريف ينسجم مع أسطورة "أهرارو" لأنها تفعل الكثير بالقليل، حيث إنها تقدم
لنا صورة صوتية مرئية عن وجود السيوف والخطر، وذلك باستعمال وسيط رمزي لا يحتاج إلى
ذلك المجهود العضلي الذي تحتاجه السيوف. فـ"أهرارو" تحقق النجاة والخلاص فقط
باستعمال ضجات صوتية تختفي بمجرد إرسالها وبمجرد إدراكها. ولكن النفس ترتاح كلما
رددت الأجيال هذه المقاطع باستعمال تعابير بنفنست. واستئنافا للبحث عن المعنى لكلمة
"أهرارو" أو "هيرو"، سنتجاوز هذا الطرح القائل بوجود تقابل وتطابق بين المواضيع لأن
اللغة التي تسمي أو تصنف الكيفية، كما تقول البنيوية، تنبثق من الاختلاف. وتماشيا
مع مبدأ التفكيكية الذي يؤمن بأن الكلمات لا تنسى معانيها من اللغوس السائد، أو
حضور الأشياء في وعينا، بل من الكلمات الأخرى، فإن منطوق "أهرارو" يدخل في علاقة مع
المنطوقات الأخرى داخل اللسان الأمازيغي. فهناك "هيرو ن هيرو" و"اهنعورو" كزواج
وثقافة للجنس، ثم هناك "أهرارو" كأنشودة لتنويم الطفل الأمازيغي في غياب الطعام.
لنستمع إلى إلام هيرو اوهرا أو يطو (كاسم علم) وهي "تهرهر" لولدها حمو أو يشو:
Ahraru yahraru ahraru n ihriran
Askka tensi-d ghur-i
Aghrum ur ur t-id –tufit
Zbib ihrem zar-i
Tiyni tella g lealu
إن منطوق الخادمة في النص، وهي تحمل على ظهرها طفلا (وفي ضيافة المجموعة الأمازيغية)
يدخل في علاقة مع المنطوقان والأشكال السابقة، وتربطهم وحدة الموضوع والأشكال (غياب
الأمن والطعام). إنه حوار ينفتح أيضا على أصوات المستقبل. وبما أنه يفتقد إلى وجود
ما يعادله على مستوى اللغة العادية، فإنه يصنع من اللغة الشفوية كأداة مرة غير
محدودة بتعبير هيدغر، حيث يصبح الصوت قادرا على استحضار موضوع جديد وفي كل مرة. إن
رجوع الضيوف إلى ذاكرة الطفولة عند سماعهم لهذه الأصوات إشارة بأن علامة "هيرو" أو
"أهرارو" لها علاقة باستحضار الغائب، أي الأمن والأخلاق النبيلة... إن العلامة
اللسنية، يقول تودوف، هي ربط بين شيئين، واحد حاضر والآخر غائب. فالغائب هو الطعام
والأكل في أنشودة الطفل، والأمن والأخلاق في حكاية "أهرارو" كنص تاريخي. وهذا أيضا
هو ما يزكي ازدواجية وظيفة العلامة عند تدوروف. فـ"أهرارو" دلالية لأنها تشير إلى
سيادة الخطر، وهي أيضا تداولية لأنها أصوات معروفة في الذاكرة الشعبية. يقول
تودوروف إن البعد العملي أو الاستعمال للكلمات لا يلغي بعدها الدلالي أو الرمزي.
كما أن مادية العلامة، أي ما يجعلها تظهر أمام الأشياء الأخرى، لا يلغي قدرتها على
الاستحضار، أي الحضور/ الغياب الذي يميزها... إن العلامة تكون مفهومة من طرف
المستمع عندما تستحضر في ذهنه تصورا يذكره بعلامة أخرى، وهي ما يمكن في نفس الوقت
أن يشير إلى شيء، وأن يحقق التواصل.
لتفكيك كل المفاهيم المنبثقة من المركب الصوتي "هيرو"، سنجد أنفسنا أمام المعضلة
التي طالما تحدث عنها جاك دريدا وسماها بـ "أبوار". إنها محنة يضعنا فيها ما هو غير
قابل للبت فيه، والذي يمكن فيه للقرار وحده أن يحدث. بيد أن القرار لا يضع حدا
لمرحلة معضلة. وبما أن تعريف "هيرو" ينفلت دائما من التعريف، فإن تفكيكه يجب أن
يتجاوز ويفترض وجود اللغوس كأرضية لكل المعارف. ولتجاوز تلك المعضلة لا بد من شيء
غير متفق عليه. وهذه مسألة معروفة في تاريخ الاينوس الوافد كضرورة متغيرة لا
مبدئية، تكون فيها علامة هيرو دائما ومسبقا تحث ضغط اللعب بالإيثار والتكيف معها.
إن تفكيكية دريدا ترى بالضرورة مسافة بين الشيء المقصود كموضوع للمعرفة، وبين
تمثيليته المتجسدة في اللغة. فهذه المسافة يمكن وصفها بشكل خطاطي وباستحضار
الاشتقاقات المنضوية تحث علامة هيرو، وفي إطار تطورها الجينسالوجي: فهناك بنية
للواقع الأمازيغي بعد وفود اللغوس العربي عليها، لكن قدرة الأمازيغ اللسنية
المحدودة (والمرتبطة بشكل عام بفلسفة الأرض و لنافع) لا تمكنه من فهم هذا الواقع
الغامض والمتناقض، أو المتعالي على حياة الأرض. فالبنية هنا لا تلعب إلا دورا صغيرا
في تكوين العلامات. وكما يشير إليه دريدا، فإننا لا نفهم جوهر ومعنى المواضيع أو
الأشياء في وعينا، بل نقوم بإلصاق العلامات أو الدوال لهذه التجارب، والتي بنفسها
وحول نفسها تكون واضحة لنا انطلاقا من معرفتنا القبلية أو السابقة للعلامات. فعلامة
"هيرو" بكل أشكالها الصواتية، لا يكون لها إي معنى لأنها تحيل إلى شيء خارج عن
الذات الأمازيغية، بل إن هذه العلامات لها معنى داخل صيرورة اعتباطية لتكوين
العلامات أو إعادة تكوينها. ولتوضيح ذلك سأورد هنا علاقة "أهرارو" كعلامة بموضوع
النسب والدم داخل النص التاريخي "أهرارو". يقول المثل الأمازيغي:
Idammen zund igdi,mek da wer ishiwwi ar ishirri
ما يهمنا في هذا المثل هي علامة "اهوي" كفعل يقوم به الكلب عندما لا ينبح. فهو مثل
رابطة الدم يثير أصواتا داخلية على شكل "هرهرة" (كما هو الحال عند الخادمة) عندما
لا يتكلم أو لا ينبح. فنباح الكلاب و"هرهرتهم" إنذار باقتراب الخطر. فكما سبقت
الإشارة إلى ذلك سابقا، فهيرو كعلامة قد تم إلصاقه لتجربة الزواج وطقوسها، ليس
كبنية تمثيلية له، وإنما انطلاقا من تجربة سابقة كما هو الحال في هدا المثل
الأمازيغي:فـ"اهوي اهيري" الضجيج هو أصل هيرو. وقد نتكلم في بعض الأحيان عن الفعل "اهيري"
أو "هرو" كفعل "امر" يفيد الشجاعة. وهذا ما يزكي أيضا اعتبار "هيرو" أو وروده
كأسماء علم، وتعني الهائجة الصاخبة المتمردة (ومازالت بعض المناطق الأمازيغية
تستعمل هذه الأسماء). كل هذا يشير إلى وجود علاقة لسنية بين هيرو كعلامة للضجيج،
وبين أهازيج "تمغرا"، خاصة أن أحد مقدمات "هيرو ن ورو" تقول:
Ad am-nasi Hirru imalass
من جهة أخرى، يمكن أن يكون اهرارو (في النص التاريخي) تكرارا لتجربة اللوغوس الوافد
على تمازغا في إلصاق العلامات لتجاربهم، حيث نتصور تقابلا أحادي الاتجاهين، اللغة
والعالم خارج اللغة. وبم أن تجربة الفكر العربي في تكوين العلامات، وبشكل اعتباطي،
خرافي قد فشل في تجريد الواقع الأمازيغي، وفشل في التوصل إلى معنى شامل لهذه
الحياة، فإن استمرار هيرو أو اهرارو في البقاء، وفي تمثيل الواقع الأمازيغي بنفس
النهج الخرافي الاعتباطي يؤكد استمرارية الضجيج والعنف وانعدام النظام داخل الفكر
المهيمن. إن هذا اللغوس المنظم داخل، ومن خلال الضجيج والعنف، هو مرجعية لكل معاني
المركبات الصوتية لهيرو. وهذا التنوع يفرض على هيرو بالضرورة إيجاد عدة أشكال،
فيتغير في الشكل والصوت، كاختلاف المتشابه، مع الإبقاء على نفس الحروف واختلاف
اللغوس المهيمن الذي بدأ من الفراعنة أو الرومان ووصولا إلى اللغوس الأوربي. وبما
أن هذه الاختلافات خاصة ومتنوعة، فإنه يستحيل تقليصها إلى وحدة منطقية واحدة تستطيع
أن تؤسس للذات. وبالتالي فإن تجسيدها (الاختلافات) في الجانب الصواتي واللعب
بالحروف على شكل "هرهرة" أو "بربرة" بشكل يدخل العنف والضجيج على اللغوس الوافد
بعدما أن استحمل اللغوس الأمازيغي هذا العنف والتشويش لمدة قرون. وهكذا، فالتاريخ،
كما يقول ميرلوبنتي في مستهل حديثه عن النزاع بين الأنا والآخر والتواصل: يحولني
الآخر إلى موضوع ثم أنفيه. فالنظرة اللاإنسانية لكل واحد تجاه الآخر تحل محل
التواصل. ورفض التواصل هو كذلك ضرب من التواصل. وحرية هيرو اللسنية والفكرية تعلق
التواصل لكن لا تقضي عليه.
وداخل هذا العالم "المهرهر" لسنيا، فإن العلامات هيرو ورو اهرارو اهران هرو لن تكون
لها معان ثابتة أو إحالات مرجعية ثابتة لأن معناها يتأسس في اختلافاته المباشرة مع
العلامات الأخرى، سواء الوافدة أو الأصلية. وفي صيرورة مستمرة للتفاوض مع هذه
العلامات، تعمل الذات على إعادة صناعة العلامات تماشيا مع تصورها الشخصي عن طريق
مفهوم العنف في تكوين هوية الأشياء والمواضيع، وفي تأجيل المعنى الثابت لتلك
العلامات. إن استمرار الكائن الأمازيغي في "هرهرة" أو "بربرة" لسانه داخل الكهوف
وفي وسط الأدغال دليل واضح أولا على وجود اختلاف متوحش (باستعمال تعابير عبد الكبير
الخطيبي)، وثانيا كدليل على الصمود واستمرار العيش على تخوم التخلف. فاهرارو كخطاب
تكراري ليس إلا حنينا إلى خطاطة مرجعية دلالية وإبستمية كافية للإحاطة بكل ما هو
سائد ووافد من ضجيج وعنف وانعدام لنظام للتواصل. لا شيء يستطيع وصف سيادة اختلاف ـ
الهرهرة ـ اللسان. وكما يقول أحد النقاد الغربيين في تقويمه لمشروع ما بعد الحداثة،
إننا نكون العلامات في حين أن العلامات تكوننا، وإننا لا نستطيع ابدأ أن نخطو خارج
نسق تكوين العلامات.
|