|
”أورنيد“،
شيخ من
بورغواطة
بقلم:
عساسي عبد
الحميد (الرباط) نادرا
ما يبكي
الرجال... وها
هي دموعي
الآن تبلل
خصري وأخمص
قدماي حزنا
عليك يا
بورغواطة.
فلم تعد
لإشراقة شمس
صباحنا ولا
لطلوع قمرنا
البهي طعما
في حياتنا. أين
أعيادنا
وأعراسنا؟
أين فرحتنا
وبهجتنا عند
موسم الحصاد
وجمع الغلال؟
أين أهازيج
صبايانا عند
الغدير
ونغمات
مزامير
رعاتنا وهي
تمتزج مع
أنفاس
الصنوبر
والزعتر وعبق
الورد
والخيزران؟ لقد
صار كل شيء
إلى خراب،
وغدوت أنا
كالمجنون
أخاطب جدران
البيت وأسامر
أشباح الليل،
وأبكي بملء
قلبي كما
تفعل نسوتك
يا بورغواطة... لم
أر في حياتي
شيخا مسنا
يجهش وينوح
ولو على فراق
أعز الناس
وأغلى
الأحباب،
فشيوخ
بورغواطة
وسائر
تامازغا من
طبعها تهدئة
الروع وإدخال
السكينة في
نفوس أهلها
وأحبتها وقت
حصول الفاجعة
وعند حدوث
مصاب جلل،
لأننا ، نحن
المسنين،
نتحمل عطية
القدر بصبر
وجلد أكثر من
غيرنا. فشيوخ
القبيلة
قطبها
وعمادها،
يسدون
النصيحة
ويضفون
البركة
بجلالهم
ووقارهم
وتعقلهم. هذا
هو عرفنا
الجميل
وتقليدنا
الأصيل الذي
دأبنا عليه
وورثناه
كابرا عن
كابر. بالأمس
قاتل رجالنا
ونسوتنا
باستماتة
كبيرة وبسالة
نادرة، لكن
القدر كان
قاسيا عليك
يا بورغواطة،
وثقل الفاجعة
وهول المصيبة
أبكاني كحدث
يافع. لقد
فقدت سبعة من
أبنائي كانوا
من خيرة
فرسان
القبيلة
وكواسرها،
كلهم سقطوا
دفاعا عن
كرامتك وعرضك
يا بورغواطة.
وحتى أعز
حفيداتي "أوريكا"
التي لم تكمل
ربيعها
الخامس عشر،
والتي كانت
مضربا للمثل
في جمالها
الصارخ
ودلالها
الفاتن
ورجاحة عقلها
في بورغواطة
كلها قد
تناولت سما
زعافا فآثرت
الموت
والرحيل على
الوقوع في
أسر الأعداء
لكي لا تسبى
أو تباع أو
يتخذها أحد
قادة الأعداء
في خانة
حريمه أو ما
ملكت أيمانه. يقولون
إن الدين
الجديد يدعو
إلى الحق
والمساواة،
وإن الإله
عادل ورحيم،
وهذا صحيح،
وقد قبلنا به
نحن وجهاء
وأعيان
بورغواطة
وسائر الناس
بكامل
إرادتنا
وخالص
إيماننا، لكن
هؤلاء الغزاة
رفعوا في
وجوهنا سيف
الظلم
والجبروت
فاحتقرونا
وأهانونا في
عقر ديارنا،
وهذا الذي لم
تقبل به
بورغواطة. قبل
ثلاثين سنة
كان يتردد
على ربوعنا
ومضاربنا من
حين لآخر رجل
حافي القدمين
يرتدي أسمالا
مرقعة حاملا
عصا طويلة
ويرخي من
ورائه شعرا
غزيرا ويطلق
لحية كثة
اختلط فيها
الأبيض
بالأسود،
وكان الرجل
يردد زجلا
بصوت رخيم
دافئ. لم نكن
يومها نعير
لكلامه أي
اهتمام، بل
كان تركيزنا
بالكامل على
نبرته التي
كانت تطرب
أسماعنا. بالأمس
أخبرتني عجوز
من قبيلتنا،
وكانت
الوحيدة
بيننا التي
اعتقدت ببركة
"البوهالي"
وكرامته، بأن
الرجل الذي
حسبناه
مجنونا ذات
يوم قد تنبأ
في زجله بما
حل اليوم بك
يا بورغواطة. بعد
مرور عشرة
قرون يا
أورنيد... أيها
العتيق، ممجد
إلهنا رب
السماوات
والأرض،
ومخلدة روحك
العظيمة،
ومباركة
تامازغا
الأبية،
والعزة
لإيمازيغن،
أهل الحمية
والبيارق
العالية" ياسيدي،
هو ذا "بوهالي"
بورغواطة
الذي يجوب
ربوعكم
ويتردد على
مداشركم حافي
القدمين، رث
الثياب، لقد
زارنا اليوم
ودخل بيوتنا،
هو... هو... بكامل
هيئته
وأوصافه، إلا
أن نبرته هذه
المرة ليست
حزينة وقسمات
وجهه لا
تعلوها
الكآبة كما
عهدته عجوز
بورغواطة، بل
جاءنا اليوم
حاملا بشارة
ونبأ سارا.
لقد تناول من
عشائنا
واحتسى من
شاينا
وقهوتنا
وبارك
أطفالنا وقص
عليهم قصصا
آية في
الروعة
والجمال،
وحتى الكبار
منا كانوا
مشدودين
لطريقة سرده
العجيبة
لحكاياته
وأمثاله، لقد
شاهدنا في
تامازغا
أناسا
يحترفون
رواية القصص
وحفظ الأمثال
وترديد
الأزجال
وبرعوا
بمهارة في
هذا المجال،
بيد أن ضيفنا
قد تفوق
عليهم جميعا،
فقد كان
لأسلوبه نكهة
خاصة وروحية
فريدة تلمس
القلوب
بدفئها
ورقتها وتبهر
العقول بعظيم
روعتها وبليغ
حكمتها. ولما
حل الصباح،
وهم ضيفنا
بالانصراف
أخبرنا بأن
شمس بورغواطة
ستشرق من
جديد، وأن
فرحنا عظيم
سيعم كل شبر
من تامازغا.
ولما ودعنا
الرجل كانت
هالة مشرقة
تخفر خطواته
وتكلل هامته
بكل وضوح وهو
يبتعد عن
أنظارنا
متجها نحو
الجنوب مرددا
بصوت رخيم
ودافئ أغنية
على مسامع
أطفالنا حتى
تكتحل عيونهم
جيدا بنور
السماء
وتمتلئ
قلوبهم بعشق
الوطن
الخالد،
وتعرف نفوسهم
الرفعة
والسمو
كما عرفها
أسلافنا
العظام. وكانت
بيننا عجوز
في غاية
النباهة
والفطنة حفظت
هي الأخرى
أغنية
البوهالي،
لكن بحماس
أكبر من
حماسنا
ورددتها
بإقاع أعلى
من إيقاعنا
وصوت أعذب من
أصواتنا
جميعا، وكانت
في ذروة
الغبطة
والسرور وهي
تهتف وتقول: ألم
أخبركم؟ ألم
أقل لكم؟ ألم
أقصص عليكم
ما رأيته
البارحة في
واضحة
أحلامي؟ |
|