الأمازيغية
والأزمة الجزائرية
بقلم:
حساين عبود (الرباط)
تمثل الجزائر حقلا
إتنوثقافيا ولسانيا موسوما بالتعدد، لم تتمكن لا السلطات الاستعمارية،
ولا الذين تولوا مقاليد السلطة بعد الاستقلال من القضاء عليه، بل كان
مصدر مطالبة دائمة ومستمرة تختلف حدتها تبعا لملابسات وظروف كل مرحلة.
وتبين كل المؤشرات أن الحركة الثقافية الأمازيغية تعبر عن دينامية
مجتمعية وازنة، وليست دينامية بدون ذاكرة. فهي وريثة مسار طويل من
التراكمات تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر حين تبلور وعي بالخصوصية
الأمازيغية من خلال أشعار المقاومة المسلحة، وكذلك الدراسات
السوسيولوجية والإتنوغرافية الاستعمارية التي كان لها دور مزدوج: فمن
جهة أدت إلى تداول مجموعة من المعارف من حيث دراسة التنظيمات
الاجتماعية والاقتصادية... وفتحت أفاقا جديدة للاهتمام بالتاريخ ما قبل
الإسلامي للمنطقة، وكتابة الأمازيغية بنظام الخط اللاتيني، حيث كان
تقليد الكتابة مفقودا، وإضفاء قيمة اعتبارية على الأمازيغية كلغة وتراث
وثقافة. ومن جهة أخرى شحذ همم المثقفين خريجي المدرسة الفرنسية لدحض
وتفنيد تلك الصورة التي رسمتها الدراسات الإتنوغرافية عن الإنسان
الأمازيغي كإنسان بدائي فض وخشن يعيش على هامش التاريخ، معتمدين
العلاقات القبلية والتنظيمات الاجتماعية والسياسية المحلية كمرجعية
لهم. وسيمثل أدعياء الأمازيغية إحدى الحساسيات المشكلة للحركة الوطنية
الجزائرية، وهو ما تعكسه بعض المحطات التاريخية:
ـ 1936: عرفت
الأمازيغية صراعا داخل حزب الشعب الجزائري بين وطنيين شباب من طبقات
شعبية ذوي ميولات ثورية ينحدرون من أصول أمازيغية، يعتبرون الكفاح
المسلح السبيل الوحيد للانعتاق، مستلهمين تجارب تاريخية لماسينيسا
ويوغرطة والديهيا، ويناضلون من أجل تدبير ديموقراطي
للحزب
يقطع مع مظاهر الزعامة الكاريزمية ومن أجل جزائر جزائرية مستوعبة
لمختلف أبعادها. واتجاه له أفق لإصلاحي يتزعمه مصالي الحاج، ويتكون من
أبناء النبلاء والأعيان ويعتبرون العروبة والإسلام هي المححدات الوحيدة
للجزائر، وأن أية لغة أخرى هي تهديد للوحدة الوطنية
ووحدة
الحزب. ويعتبر بعضهم أغلبية الشعب جهلة لا يستحقون أية تضحية.
ـ 1949: مثلت هذه
السنة ذروة الخلاف بين الاتجاهين، وتسمى في أدبيات الحركة الوطنية
الجزائرية بـ"الأزمة البربرية". وهي مصادمة بين مصالي الحاج والشباب
القبائلي داخل حزب "حركة الانتصار للحريات الديموقراطية".
وسيتخذ المطلب
الأمازيغي تمظهرات أقل حدة داخل جبهة التحرير الوطني إبان معركة
الاستقلال. وبفضل الرعاية الناصرية سيتأتى التمكين للاتجاه العروبي (بن
بلة، بوصوف، بوتفليقة..) مقابل تهميش أدعياء الأمازيغية الذين كانوا
قادة عسكريين، وهو ما أدى إلى اغتيال عبان رمضان (أدى ثمن علمانيته)
وإقصاء كريم بلقاسم.
بعد الحصول على
الاستقلال سيكون التعريب إحدى المهام العاجلة للدولة المستقلة. وسيؤكد
بن بلة في خطاب له بتاريخ 5 يوليوز 1963 أن "التعريب ضروري... ولا
اشتراكية بدون تعريب ولا مستقبل لهذا البلد إلا في العروبة". وهذا ما
سترسخه القوانين الأساسية: ميثاق الجزائر 1964،
الميثاق
الوطني سنة 1976، دستور 1989 يجعل العروبة والإسلام ثابتين أساسين
متلازمين وغير قابلين للنقاش. وهذا ما كا قد كرسه هواري بومدين بإعطاء
العربية مكانة الصدارة. وتم تشكيل اللجنة الوطنية للتعريب تحت وصاية
جبهة التحرير الوطني، كما ألغى كرسي الأمازيغية بجامعة الجزائر.
على امتداد عقدي
الستينات والسبعينات، ظهرت في الأوساط الشبابية خلايا تهتم بالعمل
الثقافي، مستفيدة من إنتاجات رواد كبار أمثال الطاوس عميروش، مولود
معمري... تحديدا ببعض الثانويات وفي الحي الجامعي بن عكنون وبكلية
الآداب بالجزائر العاصمة. وموازاة مع ذلك ستعرف فرنسا دينامية داخل
أوساط الجالية الأمازيغية بتأسيس الأكاديمية البربرية في 1967 التي
عملت على التعريف بالنظام الخطي الأمازيغي العريق. وستساهم الأغنية
المعاصرة بنفحتها الهوياتية في تعميق الوعي بسؤال حول الأمازيغية
والحيف الذي يلحق مكونا أساسي للثقافة الجزائرية من جراء السياسات
والخيارات التي سطرتها النخبة الحاكمة.
كانت القبائل محطة
ارتياب وحذر لأنها، وفق الفهم الرسمي، مصدر خطر دائم للوحدة الوطنية.
ومع سنة 1980، ستكون مسرحا لأحداث الربيع الأمازيغي لـ20 أبريل 1980
بعد منع مولود معمري في 10 مارس من نفس السنة من إلقاء محاضرة له
بجامعة تيزي وز حول الشعر القبائلي القديم. وهي الأحداث التي وصفها
وزير التربية الوطنية آنذاك بعمل خياني يسعى إلى إضعاف موقف الجزائر في
المفاوضات الدولية لتزامنها مع استقبال الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان
لمكل المغرب.
أبان الربيع الأمازيغي
أن الأمازيغية ليست شأنا لمثقفين معزولين، كما روج لذلك النظام، وإنما
قضية لها قاعدة شعبية واسعة: طلبة، تلاميذ، عمال، أطر ومواطنون بسطاء
انخرطوا في التجمعات والمسيرات الشعبية إلا أن فشل مقاطعة الدراسة التي
نادت بها الحركة الثقافية الأمازيغية سنة 1985 يسجعلها تتجه وجهة العمل
القاعدي . وتجدر الإشارة إلى أن التعددية السياسية لسنة 1989 لم تكن
مصحوبة بتعددية ثقافية، مما يجعل المهمة صعبة أمام الحركة الثقافية
الأمازيغية لأن العروبة والإسلام يمثلان قاسما مشتركا بين طرفي الأزمة.
فلا الأصولية ولا
النظام
الحاكم يؤمنان بإمكانية التنازل لصالح الأمازيغية. وقدرة لـMBC
تناقصت
نتيجة الأزمة للاعتبارات التالية:
ـ في السنوات الأولى
للأزمة، ظهرت منطقة القبائل كأنها تتمتع نسبيا بمناعة وحصانة ضد أعمال
العنف التي زحفت صوبها في السنوات الأخيرة لإقحامها في الأزمة.
والمواطنون الذين يفترض فيهم أن يكونوا السند الشعبي لهذه القضية،
أصبحوا يبحثون عن النجاة بأرواحهم وكفى.
ـ تباينت قراءات
ومواقف الأحزاب السياسية المحسوبة على الأمازيغية من الأزمة. فجبهة
القوى الاشتراكية تؤمن بالحوار وضرورة إشراك الجميع، بما فيها الجبهة
الإسلامية للإنقاذ، ووقعت إلى جانبها وثيقة العقد الوطني بروما في
يونيو 1992، وقاطعت كل الاستحقاقات الرئاسية التي عرفتها الجزائر، في
حين أن التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية يرى الأصولية نوعا من
الطاعون التاريخي، ولا فرق ببين الجبهة الإسلامية للإنقاذ وحركتي مجتمع
السلم والنهضة.
ـ الأزمة تضع في
متناول النظام ذرائع لتأجيل الإجابة عن سؤال الأمازيغية. فالرئيس
بوتفليقة، وهو يقوم بالدعاية لقانون الوئام المدني الصادر في يوليوز
1999، قال بقاعة تازروت بتيزي وزو بتاريخ 2 شتمبر 1999 بأنه في تعقيدات
الأزمة الوطنية هناك أولويات يجب أن تحظى بالأسبقية ولا يمكن وضع
برنامج عمل لكل القضايا إلا بعد استئصال جذور الإرهاب، وأن المطالبة
بالأمازيغية هي بمثابة إضافة الزيت على النار، وأن لكل قضية وقتها
وجينها"، بل قال فسي ذروة الانفعال بأن ”الأمازيغية لن تكون لغة رسمية
للجزائر، لن تكون لغة رسمية للجزائر إلى عبر الاستفتاء"
ـ اغتيال لونيس معتوب،
أحد رموز الحركة الثقافية الأمازيغية دون تحديد من قتله فسح المجال
لتراشق بتهمة قتله بين الجيش والأصوليين، وبين بعض فرقاء الحركة
الثقافية الأمازيغية. فلحد الآن لم يتم تسليط الضوء على هذا الاغتيال،
ولم تنجز دراسة باليستيكية للرصاص الذي اخترقه، ولا أدينت الجريمة
رسميا، اللهم ما يتعلق بعرض بعض التعويضات على العائلة.
ـ استغلال الأجواء
المتأزمة لتمرير قانون إلزامية استعمال العربية داخل الإدارات
والمؤسسات العامة والشركات والجمعيات... تحت طائلة العقوبات الجنائية.
وكان محمد بوضياف قد اتخذ في سنة 1992 قرار تأجيل تطبيق قانون التعريب
هذا لكون الظروف غير مواتية، لكن المجلس لوطني الشعبي الانتقالي صادق
عليه في 1996 محددا تاريخ 5 يوليوز 1998 لتطبيقه. وحاولت بعض الأطراف
السياسية المغربية اقتباس تجربة الجزائر لتعريب الحياة العامة.
ـ ذهب سعيد السعدي في
حوار له مع مجلة "الحوادث" إلى أن النظام يفتعل المشكلات الخارجية مع
المغرب وفرنسا لمنع السجال حول القضايا الأساسية. هذا الرأي على درجة
مهمة من الوجاهة لأن افتعال المشكلات مع الخارج هو بحث عن إجماع على
المستوى الداخلي حول ما يرسمه الحاكمون دون أن تكون للحساسيات المختلفة
الداخلية حق الخروج عنها وانتقادها. فهذا يسهل مأمورية التلفيق ونعت
المعارضين بالعمالة للخارج ولأعداء الجزائر، وهي تهمة عانت منها الحركة
الثقافية الأمازيغية كثيرا.
ومع ذلك يجب الإقرار
ببعض الإيجابيات التي حققتها الحركة الثقافية الأمازيغية بالجزائر
كإحداث المفوضية السامية للأمازيغية بموجب مرسوم رئاسي في 28/5/1995
عقب مقاطعة شعبية للدراسة بمنطقة القبائل. وخلال شهري مارس وأبريل من
نفس السنة (1995) اضطر النظام لعقد مشاورات ولقاءات مع التنسيق الوطني،
جناح قريب من RCD،
وومثلي أولياء
وآباء التلاميذ حول خطوات تدريس الأمازيغية بـ 17 ولاية. وكذلك
الاعتراف في ديباجة دستور 1996 بالبعد الأمازيغي للجزائر... لكن ما زال
المسار شاقا وطويلا.
إحالات ومراجع:
- A propos de la crise
berbériste de 1949, Habib llah Mansouri, in Iles amazigh n° 7, 1996.
- - Réflexions et
témoignage sur le 20 avril 1980, Harid Sadi, Iles amzigh n°7,
- Les berbères
aujourd'hui, Salem Chaker.
-
جذور الأزمة
الجزائرية، غسان سلامة، ديرك فانديل، ضمن الإسلام السياسي وآفاق
الديموقراطية في العالم الإسلام، منشورات مركز طارق بن زياد للدراسات
ولأبحاث.