|
|
هل سيعترف
الدستور المراجع باللغة الأمازيغيةبوصفها
لغة وطنية ورسمية؟
بقلم: عبد السلام خلفي
بدون شك أن مغرب ما بعد 9 مارس 2011، لن يكون هو مغرب ما قبل هذا التاريخ. فلقد دخلنا، بكل تأكيد، مرحلة تاريخية جديدة. مرحلة لن تعود فيه السلطتان التشريعية (البرلمان) والتنفيذية (الحكومة) كما كانت من قبل، تسجلان حضوراً في البرلمان وتطرحان الأسئلة وتجيبان عنها في إطار قانوني محدد ومحدود، ولا تعملان إلا في إطار ضيق جيداً. فالدستور المقبل سوف يبوئ البرلمان موقع الصدارة على مستوى التشريع والمراقبة ويخول له اختصاصات جديدة، كما أن الغرفة الثانية لن تعود إلى وظيفتها التقليدية في عرقلة عمل البرلمان من خلال إعادة النظر في كل الأشغال التي يقوم بها هذا الأخير. وإذا كنا اليوم ما زلنا نتلمس أبعاد هذا الخطاب وآثاره على مستوى توزيع السلط واستقلاليتها رغم كل ردود الفعل الإيجابية الصادرة عن هيئات وطنية وفاعلين مغاربة أو عن دول أجنبية، إلى درجة وصف هذا الخطاب بكونه سيحقق الثورة الثانية بعد الثورة التي قادها محمد الخامس، فإننا من الضروري أن نتوقف عند الشكل الذي يمكن أن يخرج به هذا الدستور، خاصة فيما يتعلق باللغة الأمازيغية وثقافتها. فمن المعلوم أن الحركة الأمازيغية كانت من الحركات التي طالبت بتغيير الدستور الحالي، ليس لكونه لا يلبي، فقط، طموح الشعب في حرية التعبير وإصلاح التعليم والمنظومة الإعلامية والقضاء والإدارة والاقتصاد إلخ، ولكن أيضاً، وهذا هو الأهم، لأن هذا الدستور لا يعترف إطلاقاً بالهوية الأمازيغية وبالأسس التي ترتكز عليها هذه الهوية، والتي هي: اللغة والثقافة والحضارة الأمازيغية. لقد بحت حناجر المناضلين الأمازيغ، ولكن الجواب كان دائماً هو الصد والرفض ما عدا المواقف التي عبر عنها الملك نفسه من خلال تأسيسه للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية استناداً إلى الفصل 19 من الدستور. وقد انضافت إلى هذه الحناجر أصوات شباب «الفايسبوك» الذين اعتبروا ترسيم اللغة الأمازيغية إحدى الدعامات المبررة لتغيير الدستور الحالي واستبداله بآخر جديد. ونحن إذا عدنا إلى الصيغة التي اعتمدها عاهل البلاد في مراجعة الدستور الحالي، فسنلاحظ أنه ركز على آليتين اثنتين، أولاهما: تأكيده على «اتباع منهجية الإصغاء والتشاور مع جميع الهيئات وكل الفعاليات المؤهلة دون استثناء»؛ وثانيهما إعطاؤه «الكلمة الأولى والأخيرة للشعب المغربي الذي سيعبر عنها مباشرة عبر استفتاء حر ونزيه». وللحقيقة فإن الآليتين تسعفان في هذه المراجعة، كما أنهما تحملان في ثناياهما آمالاً عراضاً في إعادة النظر في الكثير من فصول الدستور استناداً إلى المبادئ السبعة التي طرحها جلالته. وهو ما يعني أن الكرة الآن في ملعب اللجنة المكلفة بمراجعة الدستور، وفي ملعب السيد محمد معتصم الذي سيتابع عملية المراجعة، على أساس أن هذه الكرة ستنتقل، في مرحلة تالية، إلى الشعب الذي سيقول كلمته الأخيرة. وباعتبارنا متتبعين للشأن الثقافي المغربي، وللمواقف المعبر عنها من طرف مختلف الهيئات والمنظمات والفاعلين الأساسيين داخل المجتمع المدني المغربي، وكذا للمواقف المحافظة لأغلب الشخصيات المكونة للجنة إذا ما استثنينا موقف لحسن ولحاج، فإنه لا يسعنا إلا أن نضع أيدينا على قلوبنا مما ستؤول إليه وضعية اللغة والثقافة الأمازيغية في ثنايا هذا الدستور الجديد. إن أول سؤال يمكن أن يُطرح، في هذا الصدد، على اللجنة المكلفة بالمراجعة، هو هل ستتشاور مع كل الفعاليات بدون استثناء؟ وإذا افترضنا أن اللجنة شاورت الجميع، فهل معنى ذلك أنها ستأخذ بآرائها، ونخص بالذكر هنا آراء الفاعلين في الحركة الأمازيغية؟. ثم هل يمكن أن يكون لهذه الآراء صدى عند اللجنة، خاصة وأن أغلب الأحزاب السياسية والهيئات النقابية والفاعلين في المجتمع المدني ما يزالون بعيدين جداً عن فهم المطالب التي يطالب بها الأمازيغ، بل إن منهم من يعادي هذه المطالب إضماراً وإعلاناً. ويمكن لنا أن نميز، على الأقل، بين ثلاثة تيارات في هذا الإطار: فهناك تيار عدمي إما أنه لم يتخذ موقفاً محدداً، أو لأنه يعادي بشكل واضح أية صيغة من صيغ إدراج اللغة الأمازيغية وثقافتها في الدستور، وهناك تيار ثانٍ يبدو متفهماً لكن تفهمه لا يتجاوز أبداً مستوى سقف دسترة اللغة الأمازيغية بوصفها لغة وطنية؛ وفي كلتا الحالتين فإن الأمازيغية لن تستفيد من شيء، فأمامنا تجارب عدة، أدرجت فيها اللغة كلغة وطنية في الدستور، ولكنها في الواقع لم تستفد، لا على مستوى التعليم، ولا على مستوى الإعلام، ولا على مستوى الإدارة. وهل لنا أن نذكر بتجربة الجزائر التي جعلت من الأمازيغية لغة وطنية، ولكنها، مع ذلك، ما تزال إلى اليوم تعيش أسوأ أيامها. وأما الموقف الثالث، وهو موقف أقلية تقتسمه بعض الأحزاب والمنظمات الحقوقية، وهو الموقف الذي يتماهى مع موقف الحركة الأمازيغية من حيث الدعوة إلى جعل اللغة الأمازيغية لغة وطنية ورسمية. ويمكن أن نضيف إلى هذا موقفا رابعا، سيأخذ بمنطوق الخطاب الملكي دون روحه، فيتوقف عند الهوية الأمازيغية بوصفها انتماء مغربياً أو رصيداً لكل المغاربة، ويجعل منها مرتكزاً لدفاعه عن دسترة رمزية في ديباجة الدستور دون صلبه ودون الإشارة لا إلى اللغة ولا إلى الثقافة ولا إلى الحضارة. وهو موقف يمكن أن نضيفه أيضاً إلى الموقف الأول والثاني، لأنه موقف عدمي، ولا يريد إلا أن يضع الأمازيغية في موقع رمزي دون أن تكون لها أية وضعية داخل المؤسسات. وأمام هذه المعطيات يتبين لنا أن الأمازيغية تحيط بها مخاطر كثيرة؛ مخاطر من داخل اللجنة نفسها، نظراً لغلبة المحافظين داخلها، ومخاطر من الهيئات والفاعلين الذين ستتم عملية التشاور معهم نظراً لتبنيهم لاختيارات إديولوجية عروبية إن لم يكن أندلسية وبعثية. وهو ما يطرح على الحركة الأمازيغية وعلى المعهد الملكي بالدرجة الأولى مسؤوليات كبرى في الدفاع عن مطالبهم، وإقناع الفاعلين الأساسيين، والضغط بكل الوسائل من أجل ترسيم اللغة الأمازيغية ومساواتها باللغة العربية. وإذا افترضنا أن اللجنة كانت في مستوى المطالب التي عبرت عنها الحركة الأمازيغية، وكذا عند نص الخطاب الملكي الذي أكد «على الطابع التعددي للهوية المغربية الموحدة، الغنية بتنوع روافدها، وفي صلبها الأمازيغية، كرصيد لجميع المغاربة»، فما هو موقع المغرب فيما يُسمى بـ»المغرب العربي»؟ بله وما هو موقعه من انتمائه إلى هذا الكيان الذي يُسمى «الجامعة العربية»؟ فهل يحق دستورياً أن نعترف بأن المغرب دولة غنية بتنوع روافدها، وبطابعها التعددي للهوية، ثم نأتي لكي نتراجع عن كل هذا داخل نفس النص الدستوري ونعلن انتماءنا إلى كيانات تقصي نهائياً وكلياً إحدى هذه الروافد، ولنكرس للطابع الأحادي للهوية؟. إن المغرب مقبل على مرحلة جديدة، وهي المرحلة التي تعيش فيها هذه الدول التي تسمى «عربية» مخاضاً عسيراً، وثورات تعكس رفض الشعوب لكل هذه الكيانات والأطر السياسية التي وضعتها أنظمة قومية دكتاتورية لا تؤمن بحرية التعبير ولا بالتعددية ولا بحقوق الإنسان. فهل سيبقى المغرب خاضعاً لنفس التوجهات التي مأسست لها هذه الأنظمة، أم أنه سيستبق الزمن فيعلن من خلال هذا الدستور الجديد عن اختياره الديموقراطي الكامل، وإيمانه العميق بقيم التعدد الثقافي واللغوي والديني والسياسي بعيداً عن تركة القوميين البعثيين، ودكتاتوريي الدول القمعية. إن اختياره التعددي يجب أن يكون منسجماً مع اختياراته الإقليمية، والجهوية كما يجب أن يكون منسجماً مع المواثيق الحقوقية الدولية؛ هذا ما سوف يساعده في تكريس حقوق الإنسان الثقافية واللغوية ويمكنه من المساهمة، مستقبلاً، في تغيير هذه الكيانات «العروبية» من خلال إعادة تأسيسها على أسس جديدة. وأما الإبقاء على تعابير الانتماء إلى تنظيمات «عربية» فمعناه عدم الاعتراف للأفراد باستعمال لغاتها كما هو منصوص عليه في الميثاق الذي اعتمده، مثلاً، مجلس الجامعة العربية سنة 1994 (النص 27) ومعناه أيضاً عدم الاعتراف بالأقليات كي تجهر بشعائر دياناتها كما هو الأمر في الميثاق المعدل سنة 2004 الذي لا يشير إلى حق الأقليات الدينية في الجهر بهذه الشعائر، بل والأدهى من كل ذلك أن على المغرب أن يلتزم بميثاق هذه الجامعة الذي يبرر الحكم بالإعدام على المرضى العقليين، وعلى الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم 18 سنة، والإبقاء على الممارسة الهمجية في ختان الفتيات وربط الزواج بالتشريع النافذ. إن على المغرب أن يخرج من هذه الدوامة التي تسيء إليه وتسيء إلى القيم التي يريد الانخراط فيها. بل إن عليه مسؤولية مساعدة هذه الدول كي تدخل إلى نادي المؤمنين بالقيم الديموقراطية، خاصة وأن شعوبها ضاقت ذرعاً من القمع الدكتاتوري الذي فرض عليها لعقود طويلة. والإشكالية الثالثة التي ستواجهنا –نحن الأمازيغ- أيضاً، هي إشكالية علاقة اللغة الأمازيغية بالجهوية. فإذا كنا نؤمن بأن المغرب يتشكل من جهات ثقافية، فإن الأكيد أيضاً هو أن هذا المغرب قد استثمر منذ عقد من الزمن في مجال بناء لغة أمازيغية ممعيرة، هي لغة كل المغاربة بدون استثناء. فهل يعني أن دسترة الجهوية سيشكل تراجعاً عن كل ما تم تحقيقه إلى حدود الآن؟. إن العاهل المغربي قد أكد على أن الأمازيغية «رصيد» لكل المغاربة، كما أكد على «الوحدة الوطنية والترابية» في استنزال هذه السياسة التي ستساعد، بدون شك، في إعادة النظر في آليات التسيير والتدبير الاجتماعي والاقتصادي والثقافي جهوياً، ولكن التراجع عن مبدأ التوحيد سيمس، في الصميم، بمبدأ كون الأمازيغية رصيد لكل المغاربة، كما سيعرقل بكل تأكيد نمو وتطور هذه اللغة؛ والأخطر في كل ذلك أنه سيمس بحق الأمازيغ، الذين لا يتواجدون في المنطقة التي ولدوا وكبروا فيها بحكم انتقالهم إلى مناطق أخرى لظروف العيش، في أن يعلموا أبناءهم هذه اللغة، وسيحول هذه اللغة إلى جزر منفصلة، ويكرس للغة (ات) مهيمنة وقوية تراكِب اللغات الأمازيغية، وتضطلع، من جهة، بدور اللغات الناقلة أو الوسيطة، وما تدفع بالأمازيغية، من جهة ثانية، إلى الانعزال كما وقع، مثلاً، للرومانش في سويسرا. وكل التجارب العالمية تؤكد أن هذا هو الطريق الملكي لاندثار أية لغة. فهل ستخضع الحركة الأمازيغية للتوجهات «الانفصالية» التي تعبر عنها الكثير من الأحزاب العروبية والهيئات القومية والأندلسية التي تريد أن تخلق «انفصالاً» داخل الأمازيغ من خلال خلق «انفصال» في اللغة الأمازيغية؟. إن الإشكالية خطيرة للغاية. وعلى كل المدافعين بصدق عن أمازيغية المغرب أن يقفوا في وجه هذا الاختيار الذي يريد أن يقتل الأمازيغية بأسرع وقت ممكن. ولنا في تقرير اليونيسكو لسنة 2008 الجواب عن المصير الذي ينتظر هذه اللغة بعد أربعة أو خمسة عقود إن لم تُمنح لهذه اللغة المكانة التي تستحقها داخل الدستور، وإن لم تُعتمد صيغ عقلانية وثورية في إدماجها داخل مؤسسات الدولة. وقد يفرح البعض منا مستبشراً ومعتقداً أنه بتقليص سلط الملك، من خلال إعادة النظر في الفصل التاسع عشر، سنكون بالفعل قد حققنا ما كنا نطالب به. وليعلم الجميع أننا –نحن الأمازيغ- نعيش فترة دقيقة وحاسمة من حياتنا الثقافية. فإذا كنا، إلى حدود اليوم، نتدثر بالخطب الملكية، ونحاجج بها في وجه كل من يناهض حقنا في مأسسة لغتنا وهويتنا، خاصة خطاب أجدير، والظهير المحدث والمنظم للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، فإنه بإخراج الدستور المراجع سنكون أمام واقع جديد، وربما قد يكون أمَرّ مما كنا عليه من قبل. إن كل ما تحقق، إلى اليوم، في مجال اللغة والثقافة الأمازيغيين كان بفضل الفصل التاسع عشر الذي خول للملك التدخل لكي، يستجيب جزئياً لمطالب الأمازيغ، ويمنحنا، على الأقل، هذا المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. ونعلم جيداً أن البرلمان والحكومة طيلة العقود الماضية لم تنبس ببنت شفة في تدعيم الحق اللغوي والثقافي الأمازيغي؛ فهي لم تشرع لصالح الأمازيغية، ولم تتبع المسار الذي اتخذته تجربة إدراج اللغة الأمازيغية في مؤسسات الدولة، بله إنها، على العكس، وقفت حجرة عثرة في هذا المسار إما بتجميد المعهد الأمازيغي الذي تمت المصادقة عليه منذ السبعينات، أو من خلال عرقلة إدراج الأمازيغية في المنظومة التعليمية وباقي المؤسسات الأخرى أو من خلال هجومها على المناضلين الأمازيغ بواسطة ما تمتلكه من سلطة إعلامية تفتقدها الحركة الأمازيغية. والآن، بعد أن ستتغير وضعية هذا البرلمان من خلال تقوية السلطة التشريعية، وتتغير وضعية الوزير الأول من خلال تقوية سلطته التنفيذية، فإننا، وبحكم معرفتنا بالمشهد السياسي المغربي، وبالمواقف المضمرة والمعلنة للأغلبيات البرلمانية التي ستشرِّع، وبالشخصيات الحزبية التي سيؤول إليها أمر قيادة الحكومة، وبضعف التمثيلية الأمازيغية سواء داخل الغرفتين أو في الحكومة، فإن واقع الأمازيغية، إذا لم يكن له حضور قوي في صلب الدستور وليس في ديباجته فقط، سيؤول إلى الانحطاط بشكل أكبر. فقد كانت الأمازيغية إلى حد اليوم تستمد مرجعيتها من الفصل التاسع عشر، وإذا لم يكن هناك ما يعوض هذا الفصل من خلال التأكيد على اعتماد اللغة الأمازيغية لغة وطنية ورسمية للبلاد، فإننا سنكون قد تراجعنا إلى الوراء بسرعة ضوئية.ومن الإشكاليات المرتبطة بهذا التحول أيضاً، تلك التي سترتبط بوضعية المعهد الملكي نفسه. ذلك لأن مراجعة الفصل التاسع عشر جزئياَ، سيؤدي لا محالة إلى تغير في وضعية هذه المؤسسة القانونية والإدارية. فبعد أن كانت خاضعة لسلطة الملك من خلال هذا الفصل، سوف تصبح، بعد دخول الدستور الجديد حيز التنفيذ، خاضعة لسلطة الوزير الأول التي ستتقوى، كما ستصبح أيضاً خاضعة لمراقبة البرلمان. وقد يبدو لنا هذا على مستوى المبدأ تحولاً مهما وأساسياً في حياة دمقرطة المؤسسة ومؤسسات أخرى، ولكن الذي تجدر الإشارة إليه، في سياق هيمنة إديولوجية عروبية أندلسية وقومية إن لم نقل عائلية على أغلب الهيئات السياسية المغربية، هو أن تعيين المسؤولين عليها سيكون في يد الأحزاب الأغلبية، وستكون المؤسسة ملزمة بتنفيذ سياسة الحكومة ذات الأغلبية. فكيف سيكون وضع هذه المؤسسة التي تشتغل على موضوع الأمازيغية، ويطالب الأمازيغ منها إعادة النظر في تاريخنا وثقافتنا وتقديم معرفة أكاديمية رصينة وبعيدة عن تأويلات «الوطنيين» الذين يحصرون تاريخ الوطن في الغزوات والقومية والعروبة، بل ويقفون سداً منيعاً ضد كل ما يزعزع هذه القناعات الدوغمائية التي تحولت لديهم إلى عقيدة أكثر مما هي مواقف فكرية أو سياسية. ثم هل سيعمل البرلمان الذي ستصبح لديه سلطات واسعة في التشريع على حماية اللغة الأمازيغية وثقافتها أم أنه سيكرس لنفس منطق التعريب الذي نجد له أكثر من ملف وبرنامج داخل رفوف هذه المؤسسة التشريعية والتي تقدمت بها أحزاب يعرف الجميع توجهاتها؟. إن الأكيد، في جميع الأحوال، أن وضعية المعهد لن تبقى كما كانت إذا ما تم تعديل هذا الفصل في اتجاه تقوية سلطة الوزير الأول، وفي اتجاه منح البرلمان قوة أكبر في مجال التشريع. ومقارنة بوضعية اللغة العربية التي هي اللغة الرسمية للبلاد، والتي لا يمكن للجنة المكلفة بمراجعة الدستور بمراجعتها إلا –ربما- في اتجاه تقوية وضعيتها، سنجد أنفسنا، لأول مرة، في تاريخنا نُستفتى عن الوضعية التي ستكون عليه اللغة الأمازيغية (وضعية رمزية في الديباجة، ثقافة، هوية، لغة وطنية، لغة رسمية، لغة وطنية ورسمية؟). إنني أعتقد أن الرموز الوطنية يجب أن نتعالى عن وضعها في نفس مستوى البنود والفصول المتعلقة بتوزيع السلط وتنظيمها والفصل بينها. ولذلك أقترح أن تكون هذه الرموز، والتي تتحدد في الأمازيغية والعربية والإسلام، مقترنة بمفهوم السيادة المغربية؛ وهذا ليس فقط لأن ترك هذه الرموز للتدافعات الحزبية، وللتوجهات الإيديولوجية، قد يؤدي إلى العبث بمستقبلنا الثقافي والحضاري وبأمننا الروحي والوطني، بل كذلك لأن رمزية التلاحم الوطني (الإتني والثقافي والديني) لن تتحقق إلا عندما توضع هذه الرموز في نفس المستوى. وعليه، فإنه من الضروري أن يتضمن الدستور القادم الالتزامات التالية: 1ـ التزام بجعل اللغة الأمازيغية وثقافتها إحدى الثوابت هذه الأمة والتي يجب أن تكون محط إجماع وطني؛ ويتمخض عن هذا أن يكون هناك التزام بجعل النظام الملكي هو الضامن الحقيقي لهذه الثوابت، أولاً بوصف الملك أميراً للمؤمنين، وثانياً بوصفه ملكاً على العرب والأمازيغ معاً، وليس فقط على فئة دون أخرى. فهو ممثل أسمى لكل فئات المجتمع وحافظ لخصوصية الهوية المغربية بتعدد روافدها؛ مما يستدعي بناء ميثاق جديد بين المؤسسة الملكية وجميع مكونات هذا المجتمع. فالملك هو صمام أمان في وجه قيام الدولة الدينية، من جهة، وهو أيضاً صمام أمان في وجه النزعات الإثنية الإقصائية.2ـ التزام بتبني جميع المواثيق والمرجعيات الحقوقية الدولية، خاصة تلك التي لها علاقة باحترام اللغات والثقافات ومنحها كل الوسائل القمينة بتطورها وانتشارها، والاعتراف باللغة الأمازيغية لغة وطنية ورسمية إلى جانب اللغة العربية، 3ـ التزام تشريعي يلزم البرلمان بغرفتيه على سن قوانين وتشريعات تنص على حماية اللغة والثقافة الأمازيغيتين دون إقصاء أو تمييز؛ 4ـ التزام يفرض على الوزير الأول بحكم الدستور أن يضع سياسة لغوية ثقافية متوازنة، يلتزم بتنفيذها؛ 5ـ التزام قضائي يجعل الحكومة إذا لم تنفذ هذه السياسة معرضة للمحاكمة في شخص وزيرها الأول، وفي حالة تأكد عدم تنفيذ هذه السياسة لأسباب تمييزية فإنه يجب أن تُقال؛ 6ـ التزام أمام الملك الذي يحق له أن يقيل هذه الحكومة إذا رأى أن من شأن تماديها (أي الحكومة) في سن سياسة تمييزية أو عنصرية قد يؤدي ذلك إلى تهديد إحدى ثوابت الأمة التي يمثلها ويحافظ عليها؛ 7ـ التزام أن تتبنى كل الأحزاب السياسية الثوابت الوطنية المشار إليها في النقطة الأولى؛ وفي حالة عدم تبنيها لهذه الثوابت فإنه لا يحق لها أن تشارك في الانتخابات ولا في الحكومة، اعتباراً لكونها أحزاباً «عنصرية» تميز بين المغاربة على أساس اللغة والثقافة والانتماء. هذه هي بعض المنطلقات التي يجب اعتمادها، في نظرنا، من أجل مراجعة الدستور الحالي؛ وإلا فإن وضعية الأمازيغية لن ستكون أسوأ مما كانت عليها في الدستور القديم الذي لا يعترف بالأمازيغية ولا بالمواطنين الذي ينتمون إلى إليها هوياتياً. ولكن هل ستُعتمد هذه المنطلقات دون حراك أمازيغي-أمازيغي؟ ودون تعبئة لكل الطاقات، والخروج من الصراعات البي-أمازيغية إلى رحاب التكاثف؟. الحقيقة، أن الأمازيغ، يتحملون في هذه الظرفية الدقيقة مسؤولية كبرى. فعاهل البلاد قد فتح باباً جديداً وآمالاً عراضاَ، وأعطى مسؤولية إنجاز مغرب «المستقبل» للشعب المغربي الذي ستكون له الكلمة الأولى والأخيرة. فهل الأمازيغ، بمؤسستهم المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وبجمعياتهم المنتشرة في ربوع الوطن، وبتنسيقياتهم وفيديرالياتهم الجهوية والوطنية، وبكونكريسهم الأمازيغي، وبفاعليهم وأكاديمييهم إلخ. قادرون على رفع التحدي؟ هذا ما سوف نراه في المستقبل القريب.
|
|