|
|
افتتاحية: إشكالية الهوية بالمغرب (الجزء 3)بقلم: محمد بودهان
الهوية والعرق: لقد قلنا بأن العرق ليس عنصرا في تحديد الهوية. وهو ما يتعارض مع قناعات رسّختها الثقافة العربية التي يحتل فيها العرق والنسب مكانة كبيرة وبارزة. وفي الحقيقة، إذا كانت الهوية لا تنفصل، في التصور العام الشائع لهذا المفهوم لدى الكثير من المثقفين المغاربة، عن الأصل العرقي والانتماء الإثني، فذلك لأن الثقافة المهيمنة بالمغرب هي ثقافة عروبية تعتبر العرق هو المحدد الأول، إن لم يكن الوحيد، للهوية.ومن جهة أخرى يجب الاعتراف بأن العرق يلعب دورا لا يستهان به في التاريخ وتحريك عجلته. وهو شيء نلمسه بسهولة في أن الكثير من الدول التي صنعت التاريخ قامت على العرق، كما أن الكثير من الملكيات العصرية التي لا تزال تحكم بأوروبا هي ملكيات وراثية يقوم فيها توريث الحكم على قاعدة العرق والنسب. فكيف يعقل استبعاد العرق في تحديد الهوية إذا كانت له كل هذه الأهمية والتأثير في السياسة والتاريخ الذي تصنعه تلك السياسة؟ لأن النقاء العرقي الكامل، أي الذي يمتد إلى عشرات الأجيال، لا وجود له بشكل مؤكد كما سبقت الإشارة. وحتى على فرض أنه موجود، فلا يمكن التحقق منه علميا وموضوعيا. فمن يستطيع أن يثبت بالمغرب أنه عربي أو أمازيغي مائة في المائة من الناحية العرقية؟ وإذا تزوج أمازيغي عربية، فماذا ستكون هوية أولادهما؟ هل ستكون أمازيغية أم عربية؟ لحل هذا الإشكال الذي يطرحه التصور العرقي للهوية، يقول أصحاب هذا التصور بأن هوية الأولاد الذين ينجبهم مثل هذا الزواج «المختلط» ستكون «متعددة»، أي أمازيغية وعربية. وهذا هو المأزق الذي يؤدي إليه المفهوم العرقي للهوية: فالعرق، بما أنه متعدد بسبب الاختلاط الناتج عن التزاوج والتصاهر، فإن ما ينتج عنه من هوية ستكون متعددة بتعدد الأعراق التي شكلت هذه الهوية تاريخيا. وهذا الفهم العرقي التعددي للهوية يلغي في الحقيقة مفهوم الهوية نفسه، لأن عدد هذه «الهويات» ذات الأصل العرقي سيصبح مماثلا لعدد العائلات والعشائر والقبائل والبطون التي ستقدر بالمئات، وهو ما ينفي وجود هوية واحدة وقارة للشعب المعني. فضلا على أن الدولة يجب منطقيا أن تعكس في هويتها هذا «التعدد» الهوياتي لتكون دولة أمازيغية عربية يهودية أندلسية صحراوية زنجية فاسية ريفية سوسية فينقية رومانية بونيقية وندالية إفريقية فرنسية إسبانية ألمانية سويدية أميريكية كندية إيطالية... إلخ، لأن هناك مغاربة تزوجوا أجنبيات من هذه البلدان وأصبحت هوية أولادهم، حسب هذا المنطق العرقي التعددي، تحمل في جزء منها هوية هذه البلدان. هكذا نلغي الهوية عندما نريد ردها إلى العرق، الذي هو بطبيعته متنوع ومتغير ومتعدد الأصول بسبب اختلاط الأنساب الذي يفرضه التزاوج والهجرة والتنقل عبر الحدود.إذن، إذا لم يكن هناك نقاء عرقي صافٍ، فعلى أي أساس نقول بأن هوية المغرب والمغاربة هوية أمازيغية؟ على أساس أن أرض المغرب كانت دائما، ولا تزال، أرضا أمازيغية. فكل من ينتمي إلى هذه الأرض الأمازيغية، بغض النظر عن أصوله العرقية، فهو إذن أمازيغي الهوية، كما هو الحال بالنسبة لكل بلدان المعمور حيث تتحدد هوية شعوبها بانتمائهم الترابي ـ وليس العرقي ـ إلى تلك البلدان. ولنا أمثلة من الرئيس الفرنسي ساركوزي ذي الأصول الهنغارية كما هو معروف، لكن الفرنسيين انتخبوه رئيسا عليهم لأنه أصبح فرنسي الهوية مثلهم بحكم انتمائه الترابي إلى الأرض الفرنسية، والذي (الانتماء) لا علاقة له بانتمائه العرقي الهنغاري. ونفس الشيء فيما يخص رئيس الولايات المتحدة ذا الأصول العرقية الكينية، والتي لا علاقة لها بانتمائه الترابي لأرض أميريكا المحدد لهويته الأميريكية التي على أساسها انتخبه الشعب الأميريكي. التنوع والتعدد في اللغة والثقافة وليس في الهوية التي هي واحدة: وتبيان أن المغرب ذو هوية أمازيغية واحدة لا ينفي وجود تعدد لغوي وثقافي وعرقي وحتى ديني كما في كل بلدان العالم. ففي فرنسا مثلا، هناك تعدد لغوي يتمثل في تدريس عدد من اللغات الأجنبية بما فيها اللغة العربية والأمازيغية بالإضافة إلى استعمال مجموعة من اللغات، من غير الفرنسية، من طرف الجاليات المهاجرة المقيمة بفرنسا، كما أن هناك تعددا ثقافيا يميز الحقل الثقافي بفرنسا المنفتحة على كل ثقافات العالم بما فيها الثقافة العربية. وهناك أيضا تنوع عرقي تجسّده الأصول الإثنية المختلفة للشعب الفرنسي. لكن كل هذا التعدد والتنوع على مستوى اللغة والثقافة والعرق لا يمس وحدة هوية فرنسا التي هي دائما هوية واحدة لا تعدد فيها ولا تنوع. بل إن التنوع اللغوي والثقافي والعرقي بفرنسا هو في خدمة وحدة الهوية الفرنسية التي تغتني به دون أن تفقد شيئا من وحدتها. وهذا ما نجده في كل البلدان التي تعرف تنوعا لغويا وثقافيا وعرقيا لكن في إطار هوية واحدة. وهذا ما ينبغي أن يكون عليه وضع التنوع اللغوي والثقافي والعرقي بالمغرب: أن يكون في خدمة الهوية الأمازيغية الواحدة للمغرب. نعم للتعدد اللغوي والعرقي بالمغرب، نعم للتنوع الثقافي والديني، ولكن كل ذلك في إطار وحدة الهوية الأمازيغية الواحدة للمغرب.الهوية والجنسية: قد يبدو للوهلة الأولى أن الهوية هي الجنسية، وأنهما اسمان لمسمى واحد ما دام أن الذي ينتمي هوياتيا إلى دولة ما فهو يحمل في نفس الوقت جنسية هذه الدولة. لكن عندما نحلل مفهوم الجنسية، سنلاحظ أنه يختلف كثيرا عن مفهوم الهوية ولا يتطابقان إلا نادرا واستثناء. فالجنسية هي رابطة قانونية وسياسية بين الفرد والدولة التي ينتمي إليها كمواطن. أما الهوية فهي رابطة «ترابية» بين الفرد والأرض التي ينتمي إليها كموطن دائم له. ولهذا، فحتى عندما يكون هناك «تطابق»، في الحالات النادرة، بين الهوية والجنسية، يبقى أن الشخص قد يكتسب، بجانب جنسيته الأصلية التي قد لا تختلف في هذه الحالة عن الهوية، جنسية أخرى يسري عليها قانون الدولة المانحة لتلك الجنسية عندما يكون موجودا ببلدها، مثله في ذلك مثل كل مواطني هذا البلد. أما الهوية فهي لا تكتسب لأنها واحدة كما سبق أن رأينا. فلا يمكن للشخص أن تكون له هويتان مثلما يمكن أن تكون له جنسيتان. وهذا ما يفسر أن الكثير من المغاربيين الحاصلين على الجنسية الفرنسية مثلا هم ضحايا سلوكات عنصرية لأن هويتهم ليست فرنسية رغم أن جنسيتهم فرنسية. أحفادهم فقط من الجيل الرابع أو الخامس يمكن أن يكونوا ذوي هوية فرنسية. ومن جهة أخرى ـ وهذا هو الفرق الأهم بين الجنسية والهوية ـ، إن الهوية قد تتسع لتشمل أكثر من جنسية واحدة. كما قد تضيق لتندرج أكثر من هوية تحت جنسية واحدة. فالهوية العربية مثلا تضم جنسيات متعددة مثل السعودية واليمنية والإماراتية والكويتية والقطرية والأردنية...، والهوية الأمازيغية تضم كذلك الجنسية المغربية والجزائرية والليبية...، والهوية الجرمانية تضم أيضا الجنسية الألمانية والجنسية النمساوية... إلخ. كما نجد العكس كذلك في حالة الجنسية الإسبانية التي تندرج ضمنها الهوية الفشتالية والكطلانية والباسكية والكاليسية، وفي حالة الجنسية العراقية التي تشمل الهوية العربية والهوية الكردية، وفي حالة الجنسية البلجيكية التي تضم كذلك الهوية الفلامانية والهوية الفالونية... إلخ. فالفرق في هذه الحالات والأمثلة بين الجنسية والهوية واضح: فأن يكون الشخص سعوديا في جنسيته فهو بالضرورة عربي في هويته، لكن أن يكون عربيا في هويته فلا يعني ذلك أنه سعودي في جنسيته، بل قد يكون يمنيا أو كويتيا أو قطريا أو أردنيا... إلخ. كما أن المغربي الجنسية هو بالضروري أمازيغي الهوية، لكن أمازيغي الهوية ليس بالضرورة مغربي الجنسية، فقد يكون جزائريا أو ليبيا أو حتى مصريا. فالهوية، لأسباب تطور تاريخي، قد تنقسم إلى كيانات سياسية مستقلة بجنسيات قُطْرية ووطنية مختلفة، لكن مع بقاء هويتها (موطن أصلي واحد ولغة واحدة) واحدة. كما أن هويات متعددة، بحدودها الترابية واللسنية، قد تشكل كيانا سياسيا واحدا بجنسية قُطْرية وطنية واحدة، كحالة إسبانيا أو العراق أو بلجيكا أو سويسرا مثلا. الهوية بين الانتماء الأمازيغي والانتماء المغربي (يتبع في العدد القادم)
|
|