|
|
محاولة في بحث أسباب الاضطهاد وفي سبل زوالــه بقلم: ذ- الصافي مومن علــي
أعتقد أنه إذا سلمنا بأن الفكر هو الذي يخلق الواقع، وسلمنا بأن الواقع ما هو إلا تجسيد مادي لما في الفكر من تصاميم وسياسات وتصورات، فمن البديهي أن نعلم أن ترسيخ مبدأ التسامح في بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط لن يتحقق إلا بتغيير الفكر الذي خلق فيها واقع الاضطهاد الذي تعاني منه هوياتها، إذ من دون تغيير هذا الفكر المضاد لمبدأ التسامح، سيجعل مجهود كل المنظمات الداعية إلى السلام وإلى المحبة والعدل، مجرد صيحة في واد، أو سكب الماء في الرمل كما يقول مثل أمازيغي مترجم إلى العامية المغربية. ومن هذا المنطلق لا شك أن ذهننا سينصرف مباشرة إلى الفكر القومي العربي باعتباره المنظومة الفكرية التي شكلت عقلية مجتمعات هذه البلدان بعد خروجها من نير الاستعمار الغربي في أواسط القرن الماضي، وباعتباره أيضا الموجه الرئيسي لسياساتها وسلوكياتها مع الغير، ولا سيما مع الهويات الأخرى المختلفة معه. ذلك أن ثقافة الحوار والعيش المشترك، والتدبير العقلاني للتنوع الثقافي واللغوي، وغير ذلك من القواعد التي يقوم عليها مبدأ التسامح، من المعلوم أن الفكر القومي العربي لم يكن يؤمن بها، بل كان يسعى إلى محو جميع الهويات غير العربية في ما يطلق عليه الوطن العربي الممتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج، وكان يضطهد كل من يدافع عن الحقوق الطبيعية لهذه القوميات في البقاء على قيد الحياة وفي النماء والتطور، متهما إياه بأخطر التهم كالتآمر على وحدة الأمة العربية، وخيانة الشعب العربي ومحاولة تمزيقه، والعمالة للاستعمار الأجنبي، وتكريس التخلف بإعادة المجتمع العربي إلى العصر الحجري وغير ذلك من أسوء النعوت والتهم.وكان أيضا فكرا استبداديا توتاليتاريا يسعى إلى فرض النظام الجمهوري في هذه البلدان، وإلى القضاء على جميع الأنظمة الملكية فيها، لا لشيء إلا لحقده عليها دون أن يميز في ذلك بين الأنظمة الملكية الوطنية والفاضلة وبين غيرها، بدليل أنه كان يعادي النظام الملكي المغربي رغم علمه بتضحية الملك محمد الخامس بعرشه وبملكه من أجل الدفاع عن استقلال وطنه وحرية شعبه. وقد عانت من جبروت هذا الفكر الكثير، من الهويات أذكر منها على سبيل المثال الهوية الكردية في العراق والهوية الأمازيغية في شمال أفريقيا. غير أن الأقدار شاءت أن تنتشر في العالم ثقافة حقوق الإنسان وحقوق الشعوب نتيجة توقيع الأمم المتحدة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وصدور العهدين الدوليين للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية، فاستفادت الهويات المضطهدة من هذا الانفتاح الحقوقي العالمي، وتقوت به، في حين ضعف الفكر القومي العربي وأصابه الوهن بسبب سقوط المعسكر الاشتراكي الذي كان يستمد منه قوته وإشعاعه. وما من شك أن ضعف هذا الفكر كان من بين الأسباب التي أدت إلى ظهور العديد من الأصوات التي تسعى إلى نشر ثقافة التسامح وإلى إعادة الاعتبار للهويات التي تضررت من اضطهاد الفكر المذكور، لأنه كما قال فيلسوف العــقد الاجتماعي»جـون لوك» في كتابه «رسالة في التسامح»: « أن معظم المعتقدات والأفكار تنادي بالتسامح في أيام ضعفها، ولكنها تأباه في أيام قوتها» ولكن لما قال أيضا نفس هذا الفيلسوف «إن التسامح يشجع على المعرفة وعلى الحق، وأن الاضطهاد يصنع المنافقين»، فإنني أؤكد أن النبذة التاريخية التي استعرضتها عن هذا الفكر، لم أقصد منها أي شيء آخر غير البحث عن المعرفة التي توصل إلى الحق، التي يشجع عليها طبعا مبدأ التسامح المتعارف عليه دوليا، وأنه في هذا الإطار أود أن يدرك هذا الفكر الأوضاع السيئة للاضطهاد التي خلقها في هذه البلدان، وأن يقوم تبعا لذلك بإعادة النظر في تصوراته وفي سياساته، وأن يسعى إلى بناء علاقات التعايش والتعاون والسلام الحقيقية مع الهويات الأخرى على الأسس العقلانية والموضوعية الدائمة، عوض بنائها على أسس الضعف الزائفة والمتقلبة. وبالفعل فإذا ما اعتمد هذا الفكر على المعرفة العقلانية وما راكمته من حقائق في مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية تاركا أيدلوجيته العمياء التي كان يعمل بها، فمن البديهي أن توصله إلى إدراك ما يلـي: 1– أن الموقع الجغرافي الممتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج، لم يكن في أي زمن من الأزمان وطنا للشعب العربي، بل تتقاسمه مع هذا الشعب شعوب أخرى كثيرة منها الشعب الأمازيغي والشعب المصري في شمال افريقيا، والشعب الآشوري والكردي والتركماني وغيرها من الشعوب في ما يطلق عليه حاليا الشرق الأوسط.وهكذا فمن منطلق مبدأ سيادة الشعوب وكرامتها، لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار هذا الموقع تركة شرعية للشعب العربي، لأنه في وقت ما من العهد الإسلامي كان خاضعا للأمويين والعباسيين، وألا فسوف نبيح للرومان الحق في ادعاء تركة هذا الموقع لأنهم ضموه إلى وطنهم قبل العرب، وذلك إذا ما اعتمدنا على منطق الاحتلال في امتلاك الأوطان. 2- إن قيام شعب ما بتبني العربية، ويجعلها لغته الرسمية، لا يؤدي به ذلك إلى الانسلاخ عن هويته الحقيقية، وتحوله إلى شعب عربي، بدليل أن العديد من شعوب العالم تبنت ورسمت اللغة الفرنسية، والإنجليزية والإسبانية ومع ذلك بقيت محتفظة بهويتها، والأمثلة على ذلك كثيرة منها غالبية الشعوب الأفريقية، والهند في القارة الأسيوية، وأنه من هنا على هذا الفكر أن يتخلى عن شعاره الإيديويوجي السطحي «انت بتتكلم عربي إذن فأنت عربي» الذييستعمله في احتواء الهويات الأخرى. 3– أن هذه المعطيات العلمية، ستدفعه إلى الإقتداء بالشعوب الأوروبية التي بنت اتحادها على أساس جغرافي موحد، لا على أساس الجنس الجرماني أو الإيبيري أو الكالي الفرنسي أو غيره، ومن ثم سيسعى إلى بناء فكرة الوحدة مع الشعوب التي تتقاسم معه الموقع الجغرافي الآنف الذكر، على أساس محايد ومتوافق عليه، لكي لا تتحول هذه الوحدة إلى امبراطورية عربية.4- أن هذه المعرفة العقلانية ستؤدي أيضا بهذا الفكر إلى أن يعرف حقيقته وحجمه وحدود مجاله الشرقي الطبيعي، وبالتالي يفصل شخصيته عن شخصية الشعوب الأخرى فيعمل على احترام هويتها، واحترام اسمها الحقيقي فيتخلى بذلك عن الاسم العربي الذي يطلقه عليها تعسفيا. وبعد: فلما ثبت سابقا أن الفكر هو الذي يخلق الواقع الصالح أو الفاسد، وتبين لنا أن الاضطهاد الذي تعرفه منطقة شمال افريقيا والشرق الأوسط، كان بسبب سير هذه المنطقة بسياسة الفكر القومي العربي الايديولوجية التوسعية الفاسدة، فمن البديهي أن زوال هذا الاضطهاد رهين بتغيير هذا الفكر لسياسته الفاسدة تلك، وبإقراره حق شعوب هذه المنطقة في التمتع بسيادتها الكاملة على أوطانها، وبحقوقها الطبيعية في البقاء والتطور وبالتالي التعامل معها طبقا لقواعد التسامح المعلن عنها في المواثيق الدولية .
|
|