|
|
بلا عقد حين يخذل الفكرُ العقلَ... الجابري نمودجا بقلم: محمد بوزكَو
في الأيام الماضية رحل الجابري إلى الدار الأخرى... رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه... وقصدت هنا الحديث عن الجابري كفكر، لا كشخص رحل وووري الثرى، وكفاعل خلف وراءه أبحاثا وأفكارا وتأويلات توزعت بين البحث في التراث والدين والمجتمع والثقافة والفلسفة... وأفنى عمره في تتبع الشبكة الدماغية للعقل العربي، فظل تائها بين بنية فوقية عربية من نتاج واقع اجتماعي شرقي موغل في التخلف، وبين واقعه الحقيقي الأمازيغي الذي له بنيته الخاصة. وكان منذ القديم محط لقاء للحضارات ومهدا للثقافة والعلوم... وهو ابن أمازيغ فجيج الشامخة... فجيج التي لم يجد لها أثرا حين حفر في ذاكرته... بعد أن ترك واقعه الاجتماعي، وثقافته الأصيلة تتمرغ في وحل الإقصاء والتهميش، بل ولم يدخر جهدا لينفي حضارة أجداده الأمازيغ عبر البحث عن أدهى التبريرات والمراوغات التاريخية لإخفاء حقيقتها بحقيقة كاذبة... أجل تخلى عن أهم مكون لشخصيته ليرحل إلى أقاصي بنية عقل عربي غارق في أوحال الميتافيزيقا ويبحث فيه عن مدخل ما نحو شعاع شمس أبت إلا أن تشرق من الغرب... ففي الوقت الذي كان فيه الراحل يصول بين الدهاليز المظلمة للمخ العربي ويتبادل النيران مع مفكري الشرق حول حضارة بنت مجدها على غزو الآخرين وقتلهم وإتلاف محاصيلهم الفكرية... كان علماء الغرب قد تخلصوا من عقدهم، وشمروا على سواعدهم باعتمادهم على لغتهم وحضارتهم وأصلهم فانطلقوا في غزو الفضاء وصقل علم الجراحة والطب واختراع الكهرباء والتكنولوجيا في فضاء من الحرية والديمقراطية حيث لا سلطة تعلو سلطة العقل... والحصيلة... الحصيلة ها نحن وراءهم نلهث كالكلاب الضالة نحو منتجاتهم نفترسها، نستمتع بتلفازهم، بمكيفاتهم الهوائية، بتلفونهم الخلوي، بسياراتهم وطائراتهم... وننعم بعوازلهم الطبية ونحن ننكح ما ملكت أيماننا... رحل الجابري... رحل ولم يعبه يوما بأنه ابن تربة لها تاريخ، لها أجداد وحضارة... رحل دون أن يعترف بأن هناك عقلا أمازيغيا له بنيته هو الآخر كان أولى عليه أن يستقصيها، أن يبحث فيها ويقشر قشرتها المتكلسة بفعل الإقصاء والتغييب... رحل دون أن يبحث عن سر حضارة الأمازيغ التي توقفت فجأة... وانقطعت كما ينقطع تيار الكهرباء... فتكونت فجوة عميقة أحدثت قطيعة مع ما تركه يوبا الثاني، المثقف والعالم الأمازيغي، وأفولاي صاحب أول رواية في التاريخ "الحمار الذهبي"، والفيلسوف ابن باجة والكاتب دوناتوس وغيرهم كثيرون...فعوض أن يتجه مفكرونا نحو البحث والتنقيب عن سر هذا النكوص الذي يشهده الوضع الراهن ومحاولة فهم سر هذا الاندحار الحضاري والثقافي... حوّل جلهم صحنهم الفضائي نحو الشرق ليتيهوا في شرح الأفكار وتأويل النصوص وشحذ الفلسفات... وتلميع الجنس العربي مقابل تبخيس الأجناس الأصلية... وهم بذلك يقفزون عن الحاضر ويعمقون الهوة بين المستقبل والتاريخ ويبتعدون يوما بعد يوم عن سر التقدم... هذا السر المدفون بتربة أرضنا المعطاءة... نعم رحل الجابري... ولم ترحل الحضارة الأمازيغية... وسيرحل كثيرون في آتي الأيام... وحدها الحقيقة ستتسمر في العلا وستظل ثقافتنا تتجذر أكثر فأكثر بفعل تشبث أبنائها البررة بها... مقالي هذا ليس جلدا لشخص ميت... حاشا... لأنني آومن بأن موت الجابري كإنسان يقتضي مني كل الاحترام... لكن فكر الجابري لا زال حيا يغذيه أناس لا زالوا حاقدين على هوية هذا الشعب الأصلية... وتراهم، بلا حياء، يؤسسون جمعيات للدفاع عن هوية عربية ابتلعت كل شيء في المغرب... أناس يستديرون بأعناقهم نحو البعاد حتى تكاد تتهرس، فيما أرجلهم تطأ تربة أرض يحلبونها بأفواههم المجوفة من كل لسان... وها هي اللجنة المكلفة بميثاق التربية والتكوين تستعد للاجتماع هذا الشهر كي تُفعّل نيتها المبيتة في طرد الأمازيغية من التعليم وتحسم مع لغة تعلقت بحنجرتها كعلقة تُبرزِطُها كلما حاولت النطق... هكذا يريدون محونا ثقافيا، لغويا وحضاريا... أو على الأقل أن يحولوننا لشيء ما سوانا... ونمنحهم سكوتنا هدية الاشتراك... وبلا عقد... تاريخنا القديم أرست دعائمه حضارة عريقة تطورت في شتى الميادين، علمية، عمرانية، ثقافية وحربية... وبغتة طاح الظلام... فابتعدنا عن النور وفقدنا الارتباط بالعلوم والفكر وأدوات التطور... ورُفِعت معاول وفؤوس لتفتيت مظاهر الحياة وتغيير ملامح حضارة قاومت عبر التاريخ... وسُخِرت لذلك عقول تمحو وتبرمج، وأدمغة تزور وتبرر، وفلسفات تلغي وتوطّد... لكن... وحدها الحقيقة ستستمر... وستثبت أن كل من يريد أن يمحو حضارة ما بجرة قلم، أو بفذلكة تأويل أو حتى بضربة تزوير إنما كمن يريد تسلق الحائط بدبره... أو كمن خذل عقله بفكره... رحم الله الجابري... وحفظ الله هويتنا وحضارتنا الأمازيغية من كل فكر مدمر... آمين إنك سميع مجيب... (محمد بوزكَو thawalin@hotmail.com) |
|