|
|
إنها الأمازيغوفوبيا بقلم: محمد مغوتي
« البرابرة أبناء مازيغ هم سكان المغرب الأقدمون جاءوا من اليمن والشام عن طريق مصر والحبشة.» كانت هذه أول معلومة تلقيتها في مادة التاريخ، وأنا أدرس في الصف الرابع ابتدائي. وبعد ذلك تعلمت في «مدرستي الحلوة « معنى الهوية والانتماء. وببراءة الطفولة كنت أردد مع الآخرين: أنا مغربي أنا عربي بلادي كنوز من الذهب. قبل ذلك، وفي بداية حياتي المدرسية، كانت الأسئلة تحاصر عقلي الصغير، وأنا أعيش تمزقا هائلا بين لغة المدرسة ولغة البيت. وحينها لم أكن أدرك أن تلك الأسئلة كبيرة، وتعبر عن أزمة هوية حقيقية. كنت أسأل أمي: لماذا لا تتكلم المعلمة في القسم كما تتكلمين معي أنت وأبي وإخوتي وأهل قريتي جميعا؟. أمي، التي لم تذهب إلى المدرسة يوما، كانت لا تجيبني لأنها لم تكن تمتلك الإجابة أصلا. وبعد سنوات، وبحكم التطبيع مع «اللغة العالمة» بدأت أكتب أولى الخواطر بلسان العرب، وكانت كلماتي المبعثرة، التي أوهمت نفسي أنها من قاموس الشعر، تقطر حزنا وأسى على الواقع العربي... نعم لقد نجحت المدرسة في تعريب أفكاري، فبدأت - كما يفعل كل الآخرين - أكتب عن فلسطين و العراق والقومية العربية، وكأني فارس جاء ينثر أكاليل العروبة من بلاد نجد أو الشام... لكن عجلة الحياة تدور، ومعها تتغير المعطيات وتنضج الأفكار. لقد بدأت أسئلة الصبا تعاود اقتحام ذاتي من جديد. لكن موقفا خاصا سيظل عالقا بذهني دائما، أيقظني من نوم العسل العربي. وكانت براءة الطفولة هي من قذفت بالأسئلة في وجهي من جديد. طفل لا يعرف فك طلاسم معادلة في الحساب (المقارنة بين الأعداد باستعمال الرمزين أصغر وأكبر)، فهممت لمساعدته، وبعدما شرحت له الأمر من خلال عدة أمثلة، ولكي أطمئن إلى أن الطفل قد أدرك المسألة، طلبت منه أن يشرح لي كلمة «أصغر» بلغته الأم ( الأمازيغية )، وكان جواب الطفل بغاية الصدق والوثوق : «هو الأداة التي نستعملها في الحرث». وقد كان الطفل محقا، فالمحراث في الأمازيغية يسمى «أصغار»... هنا أدركت حجم المشكلة التي لا ينتبه إليها الكثيرون عن جهل أو عن سوء نية. وهنا أيضا استرجعت بعضا من أسئلة طفولتي المشاغبة. أسئلة الهوية الضائعة. ومن هنا أخيرا بدأت رحلة جديدة لفهم الذات...تذكرت هذه المحطات من تجربتي الذاتية وأنا أقرأ في بعض المواقع الالكترونية تصريحات القذافي حول الأمازيغية. ففي لقاء مع وفد مغربي يضم ممثلين عن الأحزاب السياسية وبرلمانيين وفعاليات نسائية ومنظمات شبابية ورجال أعمال بتاريخ 31 ماي 2010، قال العقيد الليبي معمر القذافي : «إن أولئك الذين تقولون عنهم في المغرب أمازيغ هم عرب أقحاح»، ودعا إلى إغلاق جميع الإذاعات والقنوات التلفزيونية الناطقة بالأمازيغية، لأن الإبقاء عليها يمثل «استجابة للمقولة الخاطئة إن هناك عربا وغير عرب». هذه الخرجة الإعلامية لم تكن مفاجئة. وليس مستغربا أن يصدر مثل هذا الكلام عن وريث وزعيم «القومية العربية «. والقذافي بتصريحاته هذه يقفز على الحقائق وينسجم مع المثل القائل: « عنزة (أو معزة) ولو طارت»، إذ لا يهم هنا ما يقوله التاريخ. وبعد فشل كل المشاريع القومية التي دافع عنها الزعيم لمدة طويلة، يبدو أنه استنتج أن العائق أمام الوحدة العربية هو قضية الأمازيغية التي شتتت الصف العربي وفرقت الإخوة العرب. وعندما يؤكد القذافي أن (الأمازيغية فكرة استعمارية دسها المستعمر بيننا لتفريقنا وتشتيتنا)، فهذا يعني أن الثقافة واللغة الأمازيغية التي ما زالت حية في شمال إفريقيا منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة، لا تعني شيئا ولا تشير إلى أية هوية إنسانية. وتعليق الأمازيغية على مشجب الاستعمار يندرج ضمن أسطوانة المؤامرة التي لا يمل العرب من تكرارها في كل المواقف والحالات. عند تعريض مواقف الحركة الأمازيغية في المغرب والجزائر على الخصوص للقراءة والتعليق، يتفق كثير من النقاد والمهتمين بأنها تحمل خطابا راديكاليا ومتطرفا. لذلك لا بد أن نسأل هنا: من الراديكالي الحقيقي؟ هل هو من يطالب بحقوقه الهوياتية المشروعة أم ذلك الذي ينكر أي وجود لهذه الهوية؟. طبعا لا يحتاج السؤال إلى جواب. إذ من الواضح أن منطق العروبة يتأسس على الأحادية ويختزل كل المكونات الثقافية في إطار واحد. ولا يمكن لأي عاقل أن يقبل أطروحة أن الأمازيغ من أصول عربية، في الوقت الذي تثبت شواهد التاريخ أنهم سبقوا العرب إلى شمال إفريقيا بمئات القرون. لكن يبدو أن هذه الحقائق لا معنى لها في عرف هؤلاء الذين يريدون استئصال الأمازيغية بدعوى الحفاظ على وحدة المجتمع. وهذه الثقافة التي تستقي أفكارها من تراث القبلية والعشيرة، تظهر حجم الانغلاق وغياب التعددية في الفكر القوماني العربي الذي ما زال، رغم كل الدروس والعبر، يرفع شعارات وهم الوحدة العربية، ويحاول تجاوز إخفاقاته بالعزف على أوتار حساسة بالنسبة لآخرين.في المغرب وشمال إفريقيا أرض أمازيغية تبعا لمنطق التاريخ والجغرافيا، لكن الهوية تقرر لها أن تكون عربية. أما شعارات التعدد والتنوع فقد كانت مجرد كلمات فارغة من أي محتوى، لأن الأمازيغية ظلت دائما ديكورا خلفيا لتأثيث مشاهد الاحتفالية والفولكلورية... غير أن اعتماد السياسات الرسمية لهذا النهج في دول شمال إفريقيا يعبر عن اختيارات إيديولوجية يحركها هاجس الخوف من الأمازيغية. إنها الأمازيغوفوبيا بمفاهيم علم النفس المرضي. ومرض الخوف هذا يمثل القاسم المشترك بين الأطياف الفكرية التي قد تتناقض في كل توجهاتها، لكنها تلتقي في موقف محدد وموحد من الأمازيغية، وهو الدعوة إلى إذابتها وأحيانا إلى استئصالها، وذلك بدعوى الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي. فالإسلاميون كما القوميون لا ينظرون إلى الأمازيغية كثقافة وهوية ثابتة للمغاربة، بل يعتبرونها تهديدا للعروبة والإسلام. وباسم الدين يعتبر التيار الإسلامي العربية لغة وهوية المغاربة لأنها لغة القرآن. وباسم الامتداد الوجداني مع الشرق يعلن التيار القومي ولاءه للعروبة، ويتنفس هموم ومآسي وقضايا الشرق في كل لحظة وحين. وفي الحالتين معا لا تنفصل الهوية عن اللسان. إن مثل هذه الأفكار الاستئصالية هي التي تحتاج إلى نقد وعلاج، فالأمازيغية حقيقة ثابتة لا يمكن القفز عليها بجرة قلم أو ببضعة كلمات مرتجلة. وما لا يمكن القبول به هو هذا الإصرار على إماتة الأمازيغية وطمس معالمها والتشكيك في وجودها. ولأن قدر هذه المنطقة هو أن تكون نقطة تلاقح بين أعراق مختلفة، فإن المستقبل لا يمكن أن يصنع إلا عبر الاعتراف الرسمي والواقعي بالهوية الأمازيغية باعتبارها وعاء مشتركا بغض النظر عن اللسان أو العرق، وهذا لا يتأتى إلا عبر إنقاذها من الفولكلورية ورفع الوصاية العربية. (محمد مغوتي، في 03/06/2010) |
|