|
|
عن الجالية الأمازيغية في المغرب بقلم: ميمون أمسبريذ لا وطن للأمازيغيين... بل لا وجود للأمازيغيين في وطنهم... فالمغرب، في وسائل الدعاية الرسمية وشبه الرسمية وغير الرسمية المغربية، بلد عربي، شعبه عربي ودولته عربية. لا شيء يذكر بالأمازيغيين في المغرب سوى نشرات الأحوال الجوية في فصل الشتاء؛ حيث تتعثر ألسنة المذيعات في أسماء ألأماكن الأمازيغية من قرى جرفتها السيول أو جبال غطت قممها الثلوج أو وديان خرجت عن مهدها فذهبت بالمال والبنين... أو تلك الروبورتاجات القصيرة التي تتكرم بها القناتان بين الحين والحين على الأمازيغيين والتي تظهر إلى الوجود ساكنة أمازيغية معزولة، محاصرة بالثلوج، تشكو حزنها وبثها في لغة غريبة لشعب لا وجود له في مغرب عربي؛ الشيء الذي يضطر معه الصحفيون إلى «السوتيتراج» بالعربية... ساكنة يزهق البرد القارس وسوء التغذية وانعدام وسائل التطبيب أرواح أطفالها الحفاة العراة وشيوخها الضعاف، وتموت فيها النفساء المتعسرة وجنينها في كوخها أو في طريقها إلى مستشفى لا وجود له... إن نكران الأمازيغيين من قبل الدولة المغربية يشمل جميع المجالات؛ ولكني أريد أن أحصر كلامي هنا في المجال الهويتي بأبعاده القانونية والرمزية؛ إذ النكرانات الأخرى فروع عن هذا الأصل ونتائج لهذا السبب. الدولة المغربية تعامل الأمازيغيين – على هذا المستوى - معاملة الدول الغربية للجاليات الأجنبية المقيمة بها بغرض العمل؛ مع فارق أن هذه الدول تضمن الحقوق الاجتماعية لجالياتها؛ هذه الحقوق التي رأينا كيف تحرم منها الدولة المغربية جاليتها الأمازيغية. في الدول المذكورة تخصص القنوات الإذاعية والتلفزيونية ضمن شبكات برامجها برنامجا دوريا يعكس جانبا من جوانب ثقافة البلد الأصلي للجالية؛ وربما أدرجت وزارات التعليم حصة اختيارية لتعليم لغة البلد الأصلي... لكن إذا كانت سياسة الدول المستقبلة للمهاجرين هذه معقولة ومفهومة ما دام الأمر يتعلق بأجانب، فإن ما ليس معقولا ولا مفهوما هو أن تعامل الدولة العربية في المغرب الأمازيغيين معاملة الأجانب المقيمين عرضا على أرضها وهم السكان الأصليون لها، الذين ضحى آباؤهم وأجدادهم عبر القرون بدمهم فداء لها. الدولة العربية في المغرب تستعمل الأمازيغية أكسسوارا تزين به عروبتها في أعين الخارج، بينما تتمسك بثوابتها الإيديولوجية التي تكرس عروبة المغرب أرضا و شعبا ودولة. هكذا يمكنها أن تقتني لنفسها صفة الدولة الحداثية الديمقراطية بثمن بخس عبر التغني البلاغي الصرف ب»التعدد الثقافي» والتسامح وما شابه من هذه الشعارات التي تستسيغها الأذن الغربية التي من أجلها تغنى. لكن ما أن تمر وصلة الحداثة والديمقراطية والتعدد الثقافي والتسامح... حتى يستعيد الخطاب العروبي الدوغمائي المبادرة مدويا مجلجلا، ليعلن نهاية الاستراحة. وكأنما الحديث الفضفاض عن الأمازيغية ومكانتها من الهوية الوطنية ليس سوى فلتة لسان يسارع إلى تداركها بإعادة التشديد على الهوية العربية للمغرب والمغاربة. للخطاب العروبي هذا تيماته وسجلاته البلاغية الأثيرة التي يتخذها ذريعة إلى الانتشار déploiement والتحين المتكرر كوسيلة فعالة إلى تشكيل الأذهان وصياغة الأوعاء تكريسا للاستلاب. من بين هذه التيمات: «المغرب العربي» والجامعة العربية» والصراع العربي- الإسرائيلي, فهذا المسخ المسمى ب»المغرب العربي» ليس له من وظيفة سوى وظيفة ترسيخ عروبة المغرب في أذهان المغاربة عن طريق التكرار الهوسي لعبارة «المغرب العربي» في نشرات الأخبار والأحوال الجوية. وما عدا هذا فلا وجود لهذا الكيان الوهمي في أي مجال من مجالات حياة سكان الشمال الإفريقي: لا في تأمين التكامل بين اقتصاديات بلدانه، ولا في تيسير تنقل مواطنيه بين أقطاره، ولا في تحقيق وفاق سياسي من شأنه صيانة الوحدة الترابية للمغرب – أحد أعضائه (بل العكس هو الصحيح: إذ يعمل النظام العروبي الجزائري كل ما في وسعه لبتر جزء من الجسم المغربي)، ولا في صياغة دبلوماسية مشتركة تتعاطى مع العالم بقواه العظمى وتكتلاته الجهوية بما يؤمن مصالح الشعوب المغاربية... لا شيء من كل ذلك يضطلع به هذا «المغرب العربي». بالمقابل هناك وظيفة مزدوجة يؤديها بنجاعة ليس عليها مزيد، كما ألمعنا إلى ذلك أعلاه، عن طريق استثماره خطابيا في وسائل الإعلام الجماهيري : 1) ممارسة الاشتراط le conditionnement السيكولوجي للمتلقين تحقيقا لاستلابهم عبر التكرار وشحن الأدمغة؛ 2) استفزاز مشاعر الأمازيغيين الواعين بأمازيغيتهم، صباح مساء، بتذكيرهم أن البلد الذي يقيمون فيه ليس لهم، وليس لهم منه شيء ما دام هو ملك للعرب حصرا ودون سواهم: المغرب العربي = مغرب العرب. أشرح رغم أني أعلم أن شرح الواضحات من المفضحات؛ ولنفهم أن ألأمازيغيين هم – قانونيا ومؤسسيا – شعب بلا وطن des apatrides؛ وفي أحسن الأحوال جالية أجنبية تقيم في بلاد العرب.والتيمة الأخرى (مع سجلها البلاغي) التي ينشط من خلالها الخطاب العروبي عن عروبة المغرب هو هذه المخلوقة البريطانية التي لا يزال العروبيين يستعملونها فزاعة ظرفية عندما تقتضي الحاجة، ولا أحد يحملها محمل الجد، بمن في ذلك أعضاؤها: سميت «الجامعة العربية». فهذه «الجامعة» التي لا شيء يجمع بين أعضائها غير الخلاف والاختلاف تستدعى يوميا إلى وسائل الإعلام المغربية؛ وليست الذرائع هي ما ينقص: من اجتماع «البرلمانات العربية في سوريا أو ليبيا (حيث لا وجود لبرلمان طبعا) إلى انعقاد مؤتمر قمة عربية طارئ يتنابز فيه رؤساء الدول «العربية» بالألقاب، مرورا باجتماعات وزراء الخارجية العرب، والمهندسين العرب والمحامين العرب... وكل هذه المؤتمرات والاجتماعات تكون موضوع تغطية صحفية موسعة ظاهرها الأخبار وباطنها ترسيخ عروبة المغرب والمغاربة في الأذهان. ألم يقل الوزير الأول عباس الفاسي عقب مشاركته في مؤتمر القمة العربية الأخير في الكويت (وما أدراك ما مؤتمرات القمة العربية نفاقا وشقاقا) _ ألم يقل، بالنص، إن مشاركته كانت «للدفاع عن القومية العربية»؟ أما أقوى التيمات-السجلات البلاغية التي ينشط من خلالها الخطاب العروبي في المغرب فهو ولا شك القضية الفلسطينية. ولقد كانت الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة شهر يناير الماضي مناسبة لتشتغل الآلة العروبية في المغرب ملء طاقتها: تحريفا لمشاعر التعاطف الإنساني العفوي للمغاربة مع ضحاياها من المدنيين العزل في اتجاه تضامن عرقي قومي، ومزايدة بين الأحزاب أيها أولى بالغنيمة الانتخابية المرصودة، وتغطية على العجز والفراغ السياسيين والنقابيين لأحزاب ونقابات ليس لها ما تقدمه للمغاربة، فتنتظر الكوارث «القومية» لتقتني بها عذرية جديدة لدى جماهير المسحوقين تحت ثقل البطالة وغلاء المعيشة واستشراء الفساد وانعدام الحكامة. هكذا يعاد استثمار مأساة سكان غزة إيديولوجيا في اتجاه ترسيخ أسطورة «وطن عربي يمتد من المحيط إلى الخليج». وكأن الإنسان لا يتعاطف إلا مع بني قومه وإخوانه في الدم. ولو أن ذلك كذلك فكيف نفهم خروج أناس لا تربطهم بالغزاويين أية صلة غير صلة الإنسانية في مظاهرات احتجاجية في مختلف بلدان المعمور؟ لكن للعروبيين مفهوما آخر للتضامن هو التضامن القبلي (انصر أخاك ظالما أو مظلوما). وإلا فكيف نفهم صمتهم المتواطئ بل تبريرهم لحروب الإبادة التي قادها ويقودها بعض قادتهم على شعوب لا ذنب لها سوى أنها شعوب غير عربية (لنتذكر الحرب الكيماوية لصدام حسين على الأكراد، والحرب «الجانجاويدية» التي يقودها منذ عدة سنوات النظام الفاشي العروبي في السودان. ولن أذكر الحروب غير المعلنة التي تقودها أنظمة عربية أخرى ضد ألأجزاء غير العربية من الشعوب التي تحكمها سعيا إلى إبادتها رمزيا ثم ماديا)، فهل سمع أو قرأ أحد كلمة استنكار واحدة من حزب أو نقابة أو جريدة عربية (ناهيك عن العروبية) لما يرتكبه عرب في حق غيرهم من الشعوب؟ استطرادا أقول: لقد شارك كاتب هذه السطور في وقفة احتجاج على الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة استنكارا لتقتيل المدنيين العزل وترويعهم. كان ذلك ذات أصيل بلجيكي قارس الصقيع؛ وأذكر أنه كان يشد طرفا من العلم الفلسطيني، تشد بطرفه الآخر مواطنة بلجيكية لا هي بالعربية ولا بالعروبية... فعل ذلك كما وقع العرائض التي تطلقها منظمات حقوق الإنسان للتنديد بحرب الإبادة التي يشنها النظام السوداني على سكان دار فور – لا فرق عنده بين عربي ولا عجمي؛ خلافا للمفهوم العروبي لحقوق الإنسان؛ هذا المفهوم الذي يجعله مرادفة لحقوق الإنسان العربي. ومن هنا غضباتهم الانتقائية. انتهى الاستطراد. بسطت أعلاه كيفية اشتغال الميكانيزم الإيديولوجي مزدوج الوظيفة: تغييب الأمازيغية l’amazighité – الاستحضار المفرط للعروبة في الوسائط السمعية-البصرية والمكتوبة كأداة في خدمة إستراتيجية التعريب والإبادة الرمزية للأمازيغيين. وليست هذه بالمرة الأولى التي أتناول فيها هذا الموضوع من منظور الإعلام؛ وذلك من جهة لأنه لا شيء تغير في وضع الأمازيغية في الإعلام، ومن جهة أخرى لأن الإعلام في عصرنا هذا هو شهادة الوجود/الحياة أو العدم/الوفاة لأي كيان أو مجموعة. والدولة العروبية في المغرب تعرف هذا حق المعرفة؛ وهو ما يفسر تلكؤاتها وتماطلاتها وتسويفاتها كلما تعلق الأمر بمطلب إنصاف الأمازيغية في وسائل الإعلام، ولجوئها، مقابل ذلك، إلى إغراق الفضاء السمعي-البصري المغربي بالقنوات الإذاعية والتلفزيونية العربية. إن الوسائط السمعية-البصرية لا يقتصر دورها على نقل الوقائع، بل يتعدى إلى خلق «وقائع» جديدة وفرضها عن طريق التكرار الذي هو أنجع أدوات تشكيل الأذهان le formatage des esprits . لقد سبق لي أن تعرضت على صفحات هذه الصحيفة المناضلة إلى أحد أساليب محو الذاكرة الأمازيغية من الأرض الأمازيغية من خلال ما دعوته بمأسسة التعريب المتوحش لأسماء الأماكن، وذلك بتبني التحريفات والتعريبات الماسخة للأسماء الأمازيغية في لغة الإعلام والكتب المدرسية ولوحات التأشير... وضربت هنالك الأمثال. من «جزيرة ليلى» إلى «بحيرة عزيزة»... ومن هذه الأمثال ما سمعته أخيرا على لسان أحد مراسلي القناة التلفزيونية الأولى إلى الأطلس المتوسط في سلسلة من «الروبورطاجات»-البطاقات البريدية التي تفادت بعناية التعرض للبؤس الذي ترزح تحته ساكنة هذه المنطقة المجاهدة، لتقتصر على المناظر الطبيعية الخلابة فعلا في منظور سياحوي فرجوي... أقول: من تلك الأمثال على السعي الحثيث إلى محو الذاكرة الأمازيغية من الأرض الأمازيغية تحول «أكلمام أزيزا»، أي البحيرة الزرقاء، الى «أكلمام عزيزة» ثم إلى «بحيرة عزيزة» (لنلاحظ التدرج). خلال الشريط كان المذيع ومستجوبه يقولان «أكلمام أزيزا» أو «بحيرة عزيزة»، مما يشي بأنهما يقرآن خلف نعت «أزيزا» (= «الأزرق» في الأمازيغية)، مكتوبا بالحروف اللاتينية، اسم «عزيزة»، الذي هو اسم علم لامرأة. هكذا يستعاض بكل غباء (ولكن غباء محسوب لأنه مفيد من وجه آخر) عن اسم أمازيغي يجمع بين الدلالة الوصفية والشحنة الشعرية بمركب اسمي يجمع بين الخواء والبلادة، يسند فيه لفظ أمازيغي (أكلمام) إلى اسم امرأة عربية. فأي علاقة بين الموضوع والمحمول؟ أم أي صلة بين البحيرة وعزيزة؟ أتكون البحيرة ملكا لعزيزة هذه؟ أم أن عزيزة ألقت بنفسها أو ألقي بها في البحيرة فنسبت إليها؟ إزاء مفارقات بهذا القدر من العب، لا يملك المرء إلا أن يتمثل بقول قائلهم:يا أيها المزوج الثريا سهيلا لعمرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استقلت وهو إذا ما استقل يمان أراهن أن الحلقة المقبلة من سلسلة روبورطاجات الأولى (أو الثانية، لا فرق) ستخترع أسطورة تفسر فيها كيف سميت البحيرة ب»بحيرة عزيزة»؛ وليس ذلك على الخيال العروبي لقناتي»نا» العموميتين بعزيز. وليست هذه أول مرة ينسب فيها العروبيون المغاربة أرضا أو موقعا أمازيغيا إلى إحدى نسائهم... فلا شك أن القارئ يتذكر كيف أصبحت صخرة «ثورا» (هكذا ينطق أمازيغيو الشمال كلمة «ترولا» الأمازيغية التي تعني الهرب) بين عشية وضحاها جزيرة ل»ليلى» بالمفعول السحري لوسائط الإعلام العروبية خلال الأزمة التي نشبت بين المغرب وإسبانيا عقب إقدام هذه الأخيرة، في حركة استعمارية قديمة-جديدة، على إلقاء القبض على بعض عناصر الدرك المغاربة وإساءة معاملتهم خلال وجودهم بالجزيرة. حينئذ انبرى ثلة من الأمازيغيين لتصحيح ما ظنوه، طيبوبة منهم أو سذاجة، خطأ لغويا وقع فيه إعلاميون يجهلون كل شيء عن بلادهم فيما يعرفون الشرق الأوسط معرفتهم بجيوبهم... فشرحوا لهم أن «ليلى» ما هي بليلى العربية؛ وأن ما بدا لهم كذلك إن هو إلا وهم أوقعهم فيه جهلهم بلغة جيراننا على الضفة الأخرى، وبمذهب أهل أندلسيا في إسقاط حرف السين في بعض سياقات وروده تخفيفا؛ إذ ينطقون المركب الاسمي « la isla » (أي الجزيرة) « la i(s)la » بالقفز على حرف السين؛ وهو ما يعطي في السماع «ليلى». لكن على من تقرأ زبورك يا داود؟ أن الأمر لا يتعلق في بال مجترحيه بمجرد خطإ لغوي مرده إلى تصحيف كلمة أجنبية؛ بل بجهد واع وطويل النفس يهدف إلى تجريدنا من كل ما يذكرنا بأنفسنا تمهيدا لإحلال غيرنا فينا. اتضح لي هذا عندما عادت «ليلى» إلى صفحات الجرائد هذه الأيام عندما وردت الأخبار باتخاذ مروجي المخدرات للصخرة محطة لهم في الطريق نحو الضفة الأخرى... وبما أن العروبيين يتشبثون بليلاهم، فإني أقترح عليهم أن يزينوها بباقة من البقدونس آوالمعدنوس أسوة بأشقائهم الأندلسيين الذين يسمونها (في اسمها الكامل) « la isla del perejil » أي جزيرة المعدنوس.. وليسموها: ليلى المعدنوسية... إن الأمر يدعو إلى الضحك... لو أنه لا يتعلق بمحو ذاكرتنا المكانية وطمس معالمنا وعلاماتنا في مسلسل طويل الأمد لنزع الملكية الرمزية من الأمازيغيين على أرضهم. ذلك، ورغم ما قلت وقيل عن تكالب العروبيين على الأمازيغية، فإني أجزم أن الأمازيغية إن ماتت لن تموت مقتولة بل منتحرة؛ وانتحارها: أن يتخلى أهلها عنها. وتخليهم عنها: أن يرضوا لأنفسهم بوضع الجالية.
|
|