|
|
بـلا عقد حديث من أعماق الأرض.. بقلم: محمد بوزكَو
كلنا إلى الأرض رائحون. رائحون تاركينا وراءنا رائحتنا.. والأرض دائما وفية لأبنائها، تبقى مدى الحياة فاتحة أذرعها لإيوائهم في أحشائها بعد الحياة... وهي دائما صامتة كذلك.. فلماذا لا نمنحها فرصة الكلام...؟ بدل أن نتركها تغرق في صمتها.. ونحن في اغتصابها منهمكون..؟ دعوني أفوض كتابة هذا المقال لأرضنا الحبيبة.. لندعها تتحدث هي عن نفسها... عن أبنائها.. عن ملامحها... تحدثي أيتها الأرض.. حدثينا.. لا تخجلي... وبلا عقد تكلمي... الحقيقة.. يصعب علي الكلام... فمنذ زمن هجرتْ فمي الكلماتُ... لم أعد أنطق ألأحرف بنفس الإتقان فقد غيروا أسناني.. زرعوا لي أسنانا بعناية وبعناية دفنوا أسناني... أحرفي ليس لها مذاق ولا لون ولا رائحة... فلماذا الكلام؟ ومع ذلك سأتكلم.. سأتكلم عن أبنائي كيف نسوا أناتي وأنا ألِدُهم واحدا واحدا.. نسوا أحشائي حيث تكَونوا... وتحول حليب ثدياي فيهم إلى جبن من كثرة النسيان... وبعد أن تمرغوا في ترابي وشد عودهم هجروني نحو الخريطة.. فيها حددوا لي بدل محيطِ محيطين.. صنفوني بعد أن غطوا صنفي وغيروا اسمي كي يُموضعونني في سياق غير سياقي... سموني مغربا كي يكون لي مشرق.. ويكتبوا في الجرائد أن أرض المغرب لا بد لها من مشرق...إذ لا يعقل ألا يكون للمغرب مشرق.. وكي يزيدوا في الفهامة تراهم يأتون بالبراهين.. أليس من الشرق تشرق شمس الحقيقة؟ ومن الشرق تأتي الأديان؟ بل ومن بين أبنائي من يتهمني بالخلاء... فيصيح في وجهي.. ألم تكوني ذات يوم أرضا خلاء، قاحلة، جرداء.. وأتينا إليك من اليمن عن طريق الحبشة ومصر...وعمرناك؟يا أبنائي الأعزاء... بعد الجغرافية والخريطة غيروا تاريخ ميلادي...وتاريخي.. قزموني في بضعة آلاف السنين وسنون السنين لا زالت تتذكركني... ونكاية.. سموكم سكانا للكهوف وأكلة اللحوم.. فمتى سكنتم كهوفي إن أتيتم من ما تقولون..؟ ومع ذلك.. جعلت من ترابي ملتقى للحضارات... إن كنت قد فتحت حضني لزواري وجعلت لهم أمكنة بينكم، أبنائي، فذلك لمكارم أخلاقي... استقبلت الروم وبني فنيق والوندال.. كما استقبلت العرب والأديان.. ليكونوا لكم فيهم، أبنائي، زاد معرفة.. ولتتعرفوا على حضارات وثقافات... لكن أنا... لا زلت نفس الأرض... بنفس التراب.. ونفس السماء.. فمن غيركم أنتم؟ لماذا تسْخرون من أسمائكم... وتغيرون لون لسانكم..؟ أعرف أنكم مرغمون...مسلوبون... ومعربون.. أعرف أن لا حول لكم... ولا قوة... فالآلة طحنت فيكم عروقكم...وبددت ملامحكم... إذ ليس كل زائر من زواري بمقتدر... فلا الروم ولا بنو فنيق ولا وندال نالوا من عذريتي وجذوري... واستمرت حياتي مع أبنائي وبناتي.. يوبا.. ماسنيسا وديهيا... لكن باسم الدين ومكارم الأخلاق استغلوا شهامتي وأمانتي.. وإيماني... ففي عز صلواتي كانوا يغيرون أسماء أطرافي... أسجد أنا، وهم ورائي يمحون قسمات وجهي.. ومع كل ركوع في المسجد يُرَكِعونكم، أبنائي، في المدرسة... أقرأ الفاتحة والسورة... وهم يفتحون دماغكم ويُصورون فيه وجوههم... وبعد التحية والسلام أمدهم يداي للترحيب... فيدُكون فيَ، باسم التواصل، لقاح التعريب... كشرط من شروط الإيمان...ولكي نبادلهم، مع كل عيد، أسمى عبارات التعريب.. ياه... كم هو جميل أن تتكلم بعد سكوت... أن ترتق بالكلمات ما مزقه البشر... لذلك سأستمر في الكلام بعد الآن... ما دامت كلماتي صامدة.. شامخة... في وجه كل لقاح... أبنائي... آن الوقت لأستخرج من صلبي ما خبأته لهذا الزمن.. ستسيل أنهاري الدفينة... وتتفتق جذوري من تحت رماد.. فتنبت هويتي كي تكسو جسدي... هويتي الواحدة بلون سمائي ورائحة ترابي... وسأخصص مساحات خضراء لتتعانق ثقافات.. وتتجالس لغات... فأنا أرض سمحاء.. بقلب كبير وبلغة وثقافة وهوية واحدة... من أجل أن تتفاعل الحضارات... لي عين واحدة وعلي مختلف الألوان... أنا أرضكم.. لي اسم ورائحة... وعبارات.. وجهي واحد لكل الوجوه.. ولقاء حضارات.. أنا كلمة تتقن الكلمات... وبلا عقد... حدثتكم من أعماقي... ولأنكم أبنائي... لن أرضى لكم حضنا غير أرضي... فدوموا أبنائي... (محمد بوزكَو، thawalin@hotmail.com)
|
|