|
|
الأمازيغية الآن. بقلم: محمد مغوتي
تعرف المسألة الأمازيغية اليوم منعطفا خطيرا يتهدد مستقبل العمل النضالي المتراكم منذ عدة سنوات. والواقع أن مكمن الخطورة في هذا التهديد لا يتعلق فقط بمشروع اللوبي الاستئصالي، الذي يمضي قدما في تفعيل برنامج تعريب الشخصية المغربية وضرب الهوية الأمازيغية في جذورها، وإنما يتم ـ عن غفلة أو تواطؤ ـ من الفاعلين الأمازيغيين أنفسهم. ولعل المتتبع لواقع حال الحركة الأمازيغية يصاب بالدهشة والحيرة من الانقسام الحاد في المواقف المعلنة، ومن غياب أية رؤية إستراتيجية للخطوات النضالية التي ينبغي خوضها. وما يزيد في تضخم هذه الحيرة أن تلك المواقف تستند كلها إلى الحركة الأمازيغية كمرجعية مشتركة.. إن السؤال الذي أصبح ملحا في هذه المرحلة هو: ماذا نريد؟. ومن المؤسف حقا أن يطرح السؤال بهذا الشكل. لكن الوقائع تفرض هذه الصياغة. نعم. ماذا نريد بالتحديد؟ يعيد هذا السؤال نفسه بعدما قطعت الحركة الأمازيغية أشواطا كبيرة من الفعل النضالي من أجل التصالح مع هويتنا. واليوم نعيش تخبطا واضحا في تحديد المطالب والاتفاق حولها. ولا يمكن أن ننكر في هذا المقام أن المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية شكل نقطة التحول الأساسية في مسار الحركة الأمازيغية، وساهم الانقسام في الآراء، التي صاحبت تأسيسه وتفعيل عمله، بشكل كبير في تشتت المواقف الأمازيغية بشأن القضايا التي تستوجب الالتفاف حولها. ويكتسي السؤال المذكور مشروعيته بالنظر إلى أن المطالب التقليدية للحركة الأمازيغية تبدو اليوم في حاجة إلى إعادة نظر، إذ أصبحت هذه المطالب تقدم الأمازيغية في المغرب كأنها هوية أقلية تناضل من أجل منحها بعض الحقوق والامتيازات. وهذا يروق كثيرا لأولئك الذين لا يألون جهدا في التأكيد على عروبة المغرب في كل مناسبة. وبذلك نكون، بتأكيدنا على المطالبة بدسترة وترسيم اللغة الأمازيغية كأعلى سقف نضالي في هذه المرحلة، قد ساهمنا في الابتعاد أكثر عن جوهر المشكل الذي ينبغي أن يطرح.. لقد بينت تجربة (إدماج) الأمازيغية في المنظومة التربوية – لمن يحتاج إلى توضيح – أن طريق النضال الأمازيغي ما زال طويلا وليس مفروشا بالورود. فها هي الدولة قد سمحت لبعض أطفالنا أن يرسموا تيفناغ على السبورات وفي الدفاتر المدرسية، بعدما كانت كتابة حرف الزاي بتيفناغ جريمة تؤدي إلى السجون. ولكن الجميع بات يدرك أن تدريس الأمازيغية مجرد مسرحية، المثير فيها أنها دخلت سنتها السادسة لكن عقدة القصة فيها ما زالت مستعصية على الفهم. والواقع أن هذا الفشل الذريع الذي رافق تدريس الأمازيغية يرتبط بشكل رئيسي بالتوجه العام الذي يحكم إستراتيجية التربية والتكوين. فقد سبق لواضعي الميثاق أن بشروا بهذا الفشل، حتى قبل تفعيل العملية ميدانيا، وبالتحديد عندما برمجوا الأمازيغية كمادة للاستئناس. وكلمة الاستئناس ليست بريئة في هذا المقام. فاللغة العربية في حاجة لمن يؤنس وحدتها ظرفيا على الأقل. والقصد هنا أن الفشل كان منتظرا منذ البداية، مادام فعل التدريس يفتقر إلى إطار قانوني ومنظم يتم بموجبه التعامل مع الأمازيغية في بعدها الهوياتي، وليس بوصفها مجرد مكون من مكونات الشخصية المغربية بالمعنى الفلكلوري الذي يؤثث المشاهد الاحتفالية. إن الأفق الحقيقي الذي يتوجب استشرافه، هو إعادة الاعتبار لهوية المغرب الأمازيغية بالشكل الذي يمكننا من المصالحة الفعلية مع إرثنا الحضاري المتجذر. وهذا يعني أننا مطالبون في هذه المرحلة بالتفكير في إنجاز حركة تصحيحية من داخل الحركة الأمازيغية. وفعل التصحيح هذا من شأنه أن يعيد اللحمة إلى الخطاب الأمازيغي، ويتجاوز كثيرا من مقولات مرحلة ما قبل تأسيس المعهد. إذ يلزم أولا فتح نفاش صريح وحقيقي مع كل الفاعلين والمثقفين من مختلف الأطياف الفكرية، وذلك من أجل إعادة كتابة التاريخ المغربي بالشكل الذي يليق به، وليس بالمعنى الذي جعل من تأسيس مدينة فاس بداية للتأريخ الرسمي، واختزل بذلك حضارة تقترب من دفن ألفيتها الثالثة في اثني عشر قرنا فقط. والحال أن الاحتفال بالتاريخ المغربي، كما سوقته قافلة(اثنا عشر قرنا)، لم يلق العناية المناسبة في أوساط الحركة الأمازيغية. وهكذا مرت الاحتفالات دون تسجيل ردود فعل أمازيغية مسؤولة ووازنة إلا في حالات محصورة وضيقة. وواضح أن مطلب التجسيد الفعلي للهوية المغربية ميدانيا يمر أولا عبر اقتناع الدولة بالأمازيغية كبعد استراتيجي يتخذ مشروعيته من الارتباط بالموطن. وهذا الاختيار يتأسس على تصحيح الاختلال الحاصل في العلاقة بين أرض أمازيغية ودولة عربية. وتحقيق هذا المطلب من شأنه أن يوحد جميع المغاربة هوياتيا. وهو أفق يتسم بكثير من العقلانية والديموقراطية ولا ينتقص شيئا من قيمة اللغة العربية وتأثيرها في وجدان المغاربة. وبذلك نمنح الهوية معناها الحقيقي والأصيل المؤسس على الانتماء للأرض وليس للسان. عندما نقرأ واقع الخطاب الثقافي الأمازيغي، لا بد أن يستوقفنا تعدد المواقف والتوجهات التي تمثله، وإذا كان هذا التعدد مطلبا ضروريا وتجسيدا للحق في الاختلاف، فإن هذا التكثر بات ينفلت من كل عقال، وينحو أحيانا منحى يسيء إلى الرصيد النضالي الأمازيغي. وكأني به يمثل خير تجسيد للمثل القائل: (أسمع جعجعة ولا أرى طحينا). ولعل مهزلة الكونغرس الأمازيغي تشهد بخطورة التشرذم الذي يتهدد هذا النضال. وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أننا ننفي الوعي المتزايد لدى المغاربة بأمازيغيتهم، وهو وعي منظم على المستوى الجمعوي سواء في الجامعات أو الجمعيات الثقافية والتنموية التي تغطي مختلف مناطق المغرب. ولكن غياب رؤية مشتركة راشدة يتم الالتفاف حولها، وتشكل وعاء يضم مختلف الأطياف الأمازيغية، جعل تأثيرها الميداني ضعيفا. ثم إن غياب تلك الرؤية أظهر خطابا حماسيا ومتسرعا بلغ ببعض النشطاء، وباسم الحركة الأمازيغية، إلى المطالبة بمنح الريف استقلالا ذاتيا على غرار التوجه الذي تسير الدولة المغربية في التفاوض بشأنه في الصحراء. وتشير مثل هذه الانفلاتات إلى غياب إستراتيجية براغماتية في العمل الأمازيغي، وذلك لسبب بسيط يتمثل قبل كل شيء في كون هذه المطالبة تساهم في تشتيت الخطاب الأمازيغي وإضعافه. فالحكم الذاتي ملف سياسي ضخم يتطلب الكثير من الجهد والوسائل. وهو مطلب ينبغي أن يتأسس على الجهوية والجغرافيا لا على العرقية. وعندما يصدر مثل هذا المطلب من فاعلين أمازيغيين، فإنه يمثل جلدا للذات، لأن الحديث بهذا الأسلوب يوجه ضربة قاصمة لمبادئ الحركة الأمازيغية التي لا تساوم في أمازيغية المغرب. ولكي أكون واضحا أكثر، أقول: إن الحديث عن حكم ذاتي في الريف يقدم الهوية المغربية في شكل أمازيغيات متعددة وليس أمازيغية واحدة. كما أن بعض الأصوات التي تتحدث عن الهوية بمعناها العرقي، وتدعو العرب إلى العودة من حيث أتوا، تتناقض في موقفها مع روح الحركة الأمازيغية وتسقط في منح مفهوم الهوية دلالة عرقية ولسانية. وهي الدلالة ذاتها التي نناضل من أجل تصحيحها.من الملح والمفيد جدا في هذه المرحلة إذن أن ننخرط في حركة تصحيحية للعمل الأمازيغي، وذلك عبر الالتفات أولا حول مفهوم الهوية بمعناه العلمي الدقيق. وقد سبق لي في أكثر من مناسبة أن نوهت من خلال هذا المنبر بالمبادرة التي قام بها عدد من النشطاء الأمازيغيين منذ يناير 2957 أ. (2007م)، عندما تمت صياغة أرضية الاختيار الأمازيغي. وهي مبادرة عقلانية وهادئة، لكنها تقتضي تظافر جميع جهود الفاعلين الأمازيغيين من مختلف مواقعهم. فهل آن الأوان لتحقيق هذه الرؤية، أم أن قدرنا سيظل مراوحا للازمة: كل يغني على ليلاه؟. (محمد مغوتي، أكنول في 07/02/2009 ـ medـmaghouti@hotmail.fr )
|
|