|
|
افتتاحية: متى سيفعل المثقفون المغاربة مثل المثقف الجزائري كاتب ياسين؟ بقلم: محمد بودهان ماذا نعرف عن الكاتب الجزائري كاتب ياسن (1929/1989)؟ نعرف أنه كاتب فرانكوفوني (يكتب باللغة الفرنسية) مشهور بروايته "نجمة"، صاحب مجموعة من الكتابات الصحفية والنقدية وعدد من الإبداعات الأخرى الروائية والمسرحية. ونعرف كذلك أنه اشتهر بدافعه المستميت، إلى حد التطرف، عن الأمازيغية.وهنا، أي على مستوى علاقته بالأمازيغية، يبدأ الجهل بمن هو كاتب ياسين: فبما أنه كان مدافعا عن الأمازيغية، فهو إذن من الناطقين بها كلغة أم اكتسبها داخل أسرته، مثل كل الكتاب المدافعين عن الأمازيغية بالمغرب والجزائر وليبيا، مثل المغربي أزايكو والجزائري معمري والليبي سيفاو... ومثل كل النشطاء الأمازيغيين المنتمين للحركة الأمازيغية التي أسسها وينتسب إليها المناضلون الناطقون بالأمازيغية التي اكتسبوها كلغة أم، والذين يحملون همها كجزء من لاشعورهم اللغوي والهوياتي. وهذا ما لا نعرفه بالضبط عن كاتب ياسين. لا نعرف أنه لم يكن ناطقا بالأمازيغية كلغة أم، بل كان عربوفونيا، أي ناطقا بالعامية العربية الجزائرية (الدارجة) التي اكتسبها من أسرته العربفونية كلغة أم. فهو إذن لم يكن "أمازيغيا"، بل "عربيا" حسب المعيار اللغوي (الخاطئ طبعا) المتداول بشمال إفريقيا للتمييز بين العربي والأمازيغي. لم يعرف كاتب ياسين إذن الأمازيغية طوال مرحلة طفولته لأن أسرته لم تكن تتحدث إلا العربية العامية. فهو يتذكر ويقول في أحد حواراته الأخيرة مع تسعديت ياسن: »في منطقة "سدراتا" (Sedrata) حيث قضيت طفولتي الأولى لم أكن أسمع التحدث بالأمازيغية«. وعندما انتقلت الأسرة، لأسباب مهنية تتعلق بعمل الأب الذي كان محاميا، إلى منطقة قريبة من القبايل استقدم هذا الأخير خادمة أمازيغية تساعد أم كاتب. فقالت الخادمة ذات يوم لأم كاتب بالأمازيغية: « Ad awigh aman smmat » (آتيك بالماء البارد)، ففهمت أم كاتب (لجهلها اللغة الأمازيغية) أن الخادمة قصدت Saumâtre التي تعني بالفرنسية الماء المالح الأجاج. ولما رجع الأب من العمل سارعت الأم إلى توبيخه قائلة له: »جئت بي إلى هذا المنفى لتقترح علي هذه البنت ماء مالحا!«.. فصحح لها الأب الذي كان يفهم اللغة الأمازيغية. بل أكثر من ذلك أن المحيط الذي عاش فيه كاتب غرس فيه نظرة احتقارية وقدحية عن القبايليين (الأمازيغيين): »ما كنت أعرفه عن القبايليين عندما كنت صغيرا كان كله قدحيا. فالقبايلي هو مثل اليهودي، إنسان غريب لا يشبهنا. كانت هناك عبارات متداولة تحدد شخصيته: Leqbayel, leqbayel/Tous, tous/Lgemla ged Ifellus ! « (القبايليون جميعهم ذو قمل بحجم صغار الدجاج).كان من المنتظر إذن، اعتبارا للبيئة العروبية الأمازيغوفوبية التي عاش فيها كاتب ياسين، أن يكون إنسانا "عربيا" ينظر إلى الأمازيغية باستعلاء عرقي عروبي ويحتقرها كلهجة متخلفة خاصة بالبربر المتخلفين الذين لا ينتمي إليهم لأنه من أصل "عربي". والدليل "العلمي" على أنه "عربي" هو أنه لا يتكلم الأمازيغية بل العربية. لكن على العكس من ذلك سيصبح واحدا من أشد المدافعين عن الأمازيغية وأشد المعادين للنزعة العروبية التي ظل يعتبرها دائما، في كل كتاباته وخطبه ومواقفه، غزوا واستعمارا واستلابا من النوع الأسوأ والأردأ. لقد وصف العروبييين، في المقدمة التي وضعها لكتاب تسعديت ياسين "آيت منكلت يغني"، الذين يرفضون الأمازيغية بدعوى تهديد الوحدة الوطنية، وصفهم بمدمري الوحدة: »مدمرو الوحدة Les fossoyeurs de l'unité يحذروننا من مخاطر تهديد الوحدة الوطنية. إنها خدعة السارق الذي يدعي أنه سرق للتستر على جرمه«. ويقول في موضع آخر، في الحوار المشار إليه سابقا: »على أي أساس يريدون أن نتحد ونبني هذه الوحدة، على أساس الكذب وتزوير التاريخ؟«. لقد كتب مسرحيته الشهيرة، "حرب الألفي عام"، التي تتحدث في الجزء الأكبر والأهم منها عن البطلة الأمازيغية "ديهيا" التي قاومت الغزاة العرب الذين سموها "الكاهنة". ويشرح كاتب ياسين سبب إطلاق العرب لهذا اللقب عليها كما يلي: إن العرب كانوا يحتقرون المرأة ويدفنونها حية. فإذا بهم يجدون بشمال إفريقيا امرأة تحكم شعبا وتقود جيشا لمواجهتهم. بالنسبة لهم، فهذه لا يمكن أن تكون امرأة عادية، إنها الشيطان بنفسه، إنها ساحرة لها قدرات شيطانية خارقة، إنها كاهنة... وتخاطب "ديهيا" (الكاهنة)، في المسرحية، شعبها قائلة لهم: »كل هذه الديانات تخدم مصالح ملوك أجانب يريدون الاستيلاء على أراضينا. لكن لم يكتفوا بذلك ولهذا فهم يريدون الاستيلاء أيضا على أرواحنا وعقولنا وإحكام السيطرة علينا واستعبادنا. يتحدثون عن إله واحد، لكن كل واحد منهم يدعيه لنفسه ولأهله. هذا الإله الذي يفرضونه بقوة السلاح ليس إلا قناعا للغزو والعدوان. الإله الذي نعرفه هو الأرض الحية، الأرض التي نعيش بها وعليها، الأرض الحرة للأمازيغ«. وتقول في مكان آخر: »يسميني العرب الكاهنة، أي الساحرة. لقد بهتوا لما رأوا امرأة تحكمكم. إنهم مجرد نخاسة يتاجرون في العبيد. إنهم يغطون نساءهم بحجاب لتسهيل بيعهن. إن البنت الأجمل بالنسبة لهم ليست إلا بضاعة، لكن لا ينبغي مشاهدتها عن قرب. لهذا فهم يغطونها ويضعون لها حجابا يسترونها ككنز مسروق... بالنسبة لهم أنا شيطان. إنهم غير قادرين على فهم كيف أن امرأة أصبحت ندا لهم تحاربهم وتقاومهم«.فكيف لشخص "عربي"، وفي وقت لم تكن فيه القضية الأمازيغية معروفة ولا مطروحة، أن يحمل مشعل الدفاع عن الأمازيغية، وبشكل جذري ومتطرف؟ يحكي كاتب ياسين عن استيقاظ هذا الوعي الأمازيغي لديه كما يلي: »نعتقد اليوم، في الجزائر وفي العالم، أن لغة الجزائريين هي العربية. أنا أيضا كنت اعتقد ذلك إلى اليوم الذي تهت فيه بمنطقة القبايل. وللاهتداء إلى الطريق طلبت من فلاح أن يرشدني. خاطبته بالعربية فرد بالأمازيغية. كان التفاهم مستحيلا بيننا. حوار الصم هذا جعلني أفكر وأتساءل: هل كان يجب على الفلاح القبايلي أن يتعلم العربية ليتكلمها أم على العكس كان يجب علي أنا أن أتعلم وأتكلم الأمازيغية، لغة البلد منذ ما قبل التاريخ؟«. هكذا سيستيقظ الوعي الأمازيغي السليم مبكرا لدى ياسين ويكتشف الأمازيغية كحقيقة أصلية سابقة عن الزيف وقلب الحقائق اللذين رسختهما وفرضتهما عملية الاستعراب والتعريب. هنا سيتساءل كاتب ياسين عن مدلول عبارة "المغرب العربي"، ليجيب بأن هذه العبارة لا تختلف عن مثيلتها "الجزائر الفرنسية" التي كانت تستعملها السلطات الفرنسية للإشارة إلى أن الجزائر أصبحت جزءا من فرنسا وتابعة لها. يقول بصدد هذا الموضوع:» لقد تمكنا اليوم أن نقضي بالسلاح على الأسطورة المدمرة، أسطورة "الجزائر الفرنسية"، لكن لنسقط تحت سلطة أسطورة أكثر تدميرا، وهي أسطورة "الجزائر العربية الإسلامية" التي يرعاها حكام جهلة. لقد دامت "الجزائر الفرنسية" مائة وثلاثين سنة، أما الإيديولوجية العربية الإسلامية فمستمرة منذ ثلاثة عشر قرنا. الاستلاب الأكبر ليس أن تعتقد أنك فرنسي، ولكن أن تعتقد أنك عربي. والحقيقة أنه لا يوجد عرق عربي ولا أمة عربية، بل فقط لغة مقدسة، لغة القرآن التي يستعملها الحكام ليخفوا على الشعب هويته«. ويلجأ الحكام، حسب كاتب ياسين، إلى هذه اللغة النخبوية التقليدية التي لا يفهمها الشعب لإبعاد الجماهير عن النقاش السياسي. أما عن اللغة الفرنسية فكاتب ياسين يعتبرها "غنيمة حرب" ويرى أن »الفرنكوفونية آلة سياسية للاستعمار الجديد، التي تديم استلابنا. ولكن استعمال اللغة الفرنسية لا يعني أننا عملاء لقوة أجنبية. فأنا أكتب بالفرنسية لأقول للفرنسيين بأنني لست فرنسيا«.اللافت في حالة كاتب ياسين ليس فقط استيقاظ الوعي الأمازيغي لديه رغم كونه "عربيا" وعربوفونيا، بل اللافت أن هذا الوعي الأمازيغي ظهر عنده منذ خمسينيات القرن الماضي، أي في وقت لم يكن مثل هذا الوعي قد ظهر حتى عند من يعتبرون أصلا "أمازيغيين" وأمازيغوفونيين ناطقين باللغة الأمازيغية، وفي وقت لم تكن توجد فيه حركة أمازيغية ولا قضية أمازيغية ولا مطالب أمازيغية ولا دفاع عن الثقافة والهوية الأمازيغية. فقد كتب مسرحيته التي يمجد فيها البطلة "ديهيا" المقاومة للمحتلين العرب في 1974، أي في وقت لم يكن فيه هذا الاسم معروفا ولا تاريخ هذه المقاومة معلوما. كما سمى ابنه "أمازيغ" في 1972، أي في وقت لم تكن الأسماء الأمازيغية متداولة ولا مستعملة ولا حتى محظورة من طرف السلطات لأن لا أحد كان يستعملها. كان كاتب ياسين إذن متقدما عن عصره وسابقا لزمانه في ما يتعلق بالوعي بالهوية الأمازيغية في مرحلة تميزت بهيمنة الفكر العروبي القومي بشكل جنوني وهوسي. توجد اليوم في المغرب هيئة تسمى "اتحاد كتاب المغرب"، الذي هو في الحقيقة "اتحاد للكتاب العرب، فرع المغرب"، يتكون من مثقفين يتعاملون مع الأمازيغية إما بعداء مكشوف أو تجاهل بيّن في أحسن الحالات. وأصحاب موقف التجاهل ينظرون إليها كقضية أجنبية عنهم ولا تعنيهم في شيء، بل تعني فقط فئة من "الأمازيغيين". أما هم فـ"عرب" يتحدثون بالعربية ويكتبون بها أو بالفرنسية. وإذا سألتهم: بماذا هو عرب؟ يجيبونك بأنهم ينتمون إلى أسر عربية لغتها هي العربية وليست الأمازيغية. لكن هذا ما كان عليه كذلك كاتب ياسين الذي كان هو أيضا "عربيا" لأنه ينحدر من عائلة "عربية" تتحدث العربية وتجهل الأمازيغية. فلماذا لا يفعل مثقفونا وكتابنا "العرب" بالمغرب مثل كاتب ياسين "العربي" فيكتشفون حقيقة هويتهم الأمازيغية ويعون أنهم أمازيغيون حقا وأصلا وأن انتماءهم "العربي" المزعوم ليس إلا نتيجة لعملية استعراب وتعريب إجراميين في حق الشعب الأمازيغي بشمال إفريقيا. الفرق بين كاتب ياسين والمثقفين المغاربة أن الأول استطاع التحرر من الاستلاب العروبي والتخلص من الوعي الزائف الناتج عن التعريب وتزوير التاريخ، ونجح في اعتناق الوعي السليم الصافي، الوعي الأمازيغي المصحح للتاريخ والمستعيد لحقيقة الهوية الأمازيغية. أما مثقفونا المغاربة فلا زالوا متمادين في وعيهم الزائف والشقي الذي يدفعهم إلى معاداة الأمازيغية، وإلى أن يكونوا عربا أكثر من العرب، مما يزيد من شقاوة وعيهم الزائف. رب قائل يقول بأن ما ساعد كاتب ياسين على التخلص من الوعي العروبي الزائف واستعادة الوعي الأمازيغي السليم هو أنه ذو تكوين فرنسي يكتب ويبدع باللغة الفرنسية. لكننا نجد في المغرب أمثلة تؤكد أن العداء للأمازيغية مستحكم لدى بعض المثقفين الفرنكوفونيين أكثر من المثقفين الذين يكتبون بالعربية. ويكفي أن تذكر كنموذج الكاتب فؤاد العروي الذي جعل من السخرية العنصرية من الأمازيغيين والتهجم العرقي على الريفيين موضوعَه المفضل لعموده بمجلة "جون أفريك" وفي برنامجه على أمواج إذاعة البحر الأبيض المتوسط (انظر العددين 134 و136 من "تاويزا"). ولا ننسى كذلك أن أصحاب "اللطيف" كانوا ذوي تكوين فرنسي ومن خريجي المعاهد الفرنسية، وأن الماريشال "ليوطي"، العدو الأول للأمازيغية والأمازيغيين، كان فرنسيا ولم يكن عربيا. كل هذا يبين أن الوعي الزائف المعادي للأمازيغية أقوى لدى بعض أصحاب الثقافية الفرنسية منه لدى أصحاب الثقافة العربية وحدها. إن حالة كاتب ياسين جديرة بالتأمل والاعتبار لأنه: ـ أولا مثال متقدم جدا، كما قلت، في ما يخص الوعي بالهوية الأمازيغية لشمال إفريقيا. ـ وثانيا كان "عربيا" ولم تكن الأمازيغية بالنسبة له لغة الأم التي كان سيكتسبها داخل الأسرة بل كانت العربية العامية. ـ وثالثا لا يمكن اتهامه بأنه "عميل" لفرنسا أو ينتمي إلى "حزب فرنسا" لأنه قاوم فرنسا وسجن بسبب ذلك حتى أن أمه أصيبت بالجنون عقب اعتقاله. ـ ورابعا لأنه لا يمكن أن يتهم كذلك بأنه "عميل" للصهيونية ولهذا كان يعادي العروبة ويدافع عن الأمازيغية بتحريض وتعليمات من الصهاينة. لا يمكن اتهامه بذلك لأنه بقدر ما دافع عن الأمازيغية دافع كذلك عن فلسطين ضد الاحتلال الإسرائيلي وألف عن ذلك كتابه "فلسطين المخدوعة" (Palestine trahie) في 1977. لكن كاتب ياسين لم يكن يدافع عن فلسطين من منظور قومي عروبي أو إسلاموي كـ"قضية وطنية" كما يفعل المثقفون المغاربة، بل كقضية إنسانية وعادلة مثلها مثل قضية "الفتنام" التي دافع عنها هي كذلك.فأمازيغية كاتب ياسين إذن ليست نتيجة تحريض أو تعليمات أو حسابات سياسوية ظرفية، بل هي نتيجة وعي سليم متقدم رفض الاستلاب والزيف والكذب. لقد طرح كاتب ياسين القضية الأمازيغية وفي وقت مبكر، كما كتبت، ولكن ـ وهذا هو الأهم ـ بشكل جذري وشامل ينصب على جوهر وعمق المشكلة لا على أعراضها وجزئياتها. فهو الأول الذي طرح القضية الأمازيغية ليس كمطالب لغوية وثقافية لجزء من السكان، بل كقضية هوية كل بلدان شمال إفريقيا، قضية هوية بعمق سياسي مرتبط بأنظمة الحكم التي تحافظ على عروشها بفضل استدامتها للاستلاب العروبي الذي تجد فيه سندا للحكم الديكتاتوري والفردي. ولهذا تخاف هذه الأنظمة، أشد الخوف، من اللغة الأمازيغية لأن الاعتراف بها ورد الاعتبار لها وتعليمها لكل المواطنين سيعطي لهؤلاء القدرة والإرادة والوسيلة على مناقشة هذه الأنظمة حول الحكم عندما يصبح للمواطنين "لسان" يسمح لهم بالاحتجاج ورفض الظلم والتسلط والزيف وقلب الحقيقة. ولهذا فإن هذه الأنظمة تعادي الأمازيغية وتقصيها وتعمل على فرض اللغة العربية الفصحى كلغة للسلطة والحكم حتى لا يكون للمواطنين "لسان" يحتجون ويناقشون به هؤلاء الحكامَ ما داموا لا يجيدون ولا يستعملون هذه اللغة. لهذا يمكن القول بأن كاتب ياسين كان بلا سلف كما كان كذلك بلا خلف: لم يسبقه أحد إلى مثل هذا الطرح للقضية الأمازيغية حيث يكون موقف كاتب ياسين امتدادا وتطويرا لها الطرح، كما لم يكن لأفكاره حول الأمازيغية امتداد وتطوير لدى من جاء بعده من مناضلي الحركة الأمازيغية. بل بقيت أفكاره يتيمة وغير معروفة في الغالب، إذ سرعان ما اختفى فكره الأمازيغي بعد موته وأصبح الاهتمام ينصب فقط على إنتاجه المسرحي والأدبي ككاتب مغاربي فرنكوفوني. نعم اختفى فكره الأمازيغي الذي كان متقدما عن عصره ولا زال، لأن كل ما جاء بعده من أفكار للحركة الأمازيغية بقيت (باستثناء ما كتبه علي صدقي أزايكو) تدور حول مسألة اللغة والثقافة الأمازيغيتين وما يطالهما من تهميش وإقصاء دون ربط ذلك بالإقصاء السياسي للهوية الأمازيغية الذي ليس إقصاء اللغة والثقافة إلا نتيجة ومظهرا له. وبالتالي فإن شرط رد الاعتبار للغة والثقافة الأمازيغيتين هو الاعتراف بالهوية السياسية الأمازيغية للمغرب، كما كان يطرح ذلك كاتب ياسين بالنسبة للجزائر. غياب امتداد للفكر الأمازيغي لكاتب ياسين لدى الحركة الأمازيغية يتجلى في غياب تنظيم هذه الأخيرة لأية ندوات حول هذا الفكر، ولا تخليد أية ذكرى لوفاته تكون مناسبة للتذكير بهذا الفكر واستلهامه. وهذا عكس ما يجري بالنسبة للمغنين والفنانين والشعراء الأمازيغيين الذين تنظم لهم ندوات ولقاءات، مما يؤكد هيمنة التوجه الثقافوي اللسني لدى الحركة الأمازيغية التي لا زالت بعيدة عن تناول القضية الأمازيغية في إطارها الهوياتي السياسي كما فعل كاتب ياسين ومعاصره علي صدقي أزايكو. فكاتب ياسين، بفكره الأمازيغي الجديد والمتقدم، كان ينبغي أن يكون قدوة ومرجعا للحركة الأمازيغية تستلهمه في مواقفها وتوجهاتها وتستحضره في نضالها ومطالبها. ويبدو أن القضية الأمازيغية لن تتقدم بشكل جدي وحقيقي، أي بشكل سياسي، إلا إذا انتشر مثل هذا الوعي الأمازيغي، ليس لدى "الأمازيغيين" فحسب، بل لدى المثقفين "العرب" كما رأينا عند كاتب ياسين الذي كان "عربيا" لكن وعيه الأمازيغي جعل منه مناضلا أمازيغيا فذا وفريدا. فوجود مفكرين مغاربة يعتبرون أنفسهم غير معنيين بالأمازيغية لأنهم "عرب"، يقف عائقا كبيرا أمام المصالحة السياسية والهوياتية مع الأمازيغية. ومن المؤسف أن نلاحظ أن كل مواقف وبيانات الحركة الأمازيغية توجه دائما نقدها ولومها إلى السلطة المخزنية الحاكمة باعتبارها المسؤولة المباشرة عن إقصاء الأمازيغية لأنها هي التي تملك سلطة قرار الاعتراف بالأمازيغية إذا توفرت لديها الإرادة السياسية. إذا كان صحيحا أن السلطة السياسية هي المسؤولة المباشرة عن إقصاء الأمازيغية، فصحيح كذلك أن هذا الإقصاء وجد تأييدا له، بل تواطؤا، لدى الطبقة المثقفة، مثل المنتمين "لاتحاد كتاب المغرب"، الذين يعادون هم أيضا الأمازيغية إما بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر من خلال تبنيهم للقضايا العربية ودفاعهم عنها وتبعيتهم للمشرق العربي لغويا وثقافيا وإيديولوجيا وذهنيا. ولنفترض مثلا أن أعضاء هذا الاتحاد، يعلنون، على غرار ما فعل الكاتب الجزائري كاتب ياسين، أنهم أمازيغيون في هويتهم وانتمائهم ويصرّحون أنهم تخلصوا من استلابهم العروبي ويشرعون في تكريس كتاباتهم وإبداعاتهم للدفاع عن الأمازيغية والمطالبة باسترداد الهوية الأمازيغية للمغرب. سيكون، في هذه الحالة، من الصعب على أصحاب القرار السياسي الاستمرار في سياستهم الأمازيغوفوبية المعادية والمقصية للأمازيغية لأنهم سيصبحون، بهذا الموقف، أقلية أمازيغوفوبية لا مؤيد لها ولا نصير لسياستها الأمازيغوفوبية. وهو ما سيضطر السلطة إلى تغيير موقفها لصالح الأمازيغية. فإذا كانت هذه السلطة قد اضطرت إلى تغيير موقفها من الأمازيغية تحت ضغط الحركة الأمازيغية المتكونة فقط من نشطاء ناطقين بالأمازيغية، فماذا ستفعل هذه السلطة لو أن هذا الضغط سيتوسع ويكبر بعد أن ينضاف إليه المثقفون غير الناطقين بالأمازيغية، خصوصا أنهم كتاب قادرون على التعريف بالقضية الأمازيغية والدفاع عنها بالنشر والخطب والصحافة والشعر...؟ في هذه الحالة، لن تكتفي السلطة بإنشاء معهد خاص بالأمازيغية، بل قد تعلن أن المغرب دولة أمازيغية. فهل سيقطع هؤلاء المثقفون "العرب" مع استلابهم ويتخلصون من وعيهم الزائف ويعلنون عن انتمائهم الأمازيغي ويطالبون باسترجاع الهوية الأمازيغية للمغرب، كما فعل كاتب ياسين؟ وهنا تجدر الإشارة أن الحركة الأمازيغية لا تبذل المجهود المطلوب لاستمالة هؤلاء المستلبين وتوعيتهم بهويتهم الأمازيغية، مع أن عودة واحد من هؤلاء إلى الأمازيغية يخدمها أكثر من الدفاع عنها من طرف عشرة مناضلين أمازيغيين. لأن اعتناق من يعتبرون أنفسهم "عربا" للأمازيغية تأكيد على أن المغرب ذو هوية أمازيغية واحدة تضم تعددا في اللغات والثقافات والأعراق وتقطع الطريق على الذين يتعاملون مع الأمازيغية من منظور عرقي وإثني يربطونه عمدا وقصدا بالعنصرية والانفصال. في الحقيقة، هؤلاء المثقفون "العرب" المغاربة هم أحوج إلى وعي أمازيغي أكثر من حاجة نشطاء الحركة الأمازيغية إليه. لماذا؟ لأن هؤلاء المثقفين "العرب" فقدوا كل شيء يربطهم بأمازيغيتهم حتى أصبحوا مقتنعين بأنهم "عرب" كما كان يعتقد ذلك كاتب ياسين أيضا. أما نشطاء الحركة الأمازيغية فهم على الأقل يملكون اللغة الأمازيغية التي تذكرهم وتربطهم بانتمائهم الأمازيغي رغم كل الإقصاء الذي تعاني منه هذه الأمازيغية. فالمثقفون الأوائل هم الضحية الأولى للاستلاب ولغسل الدماغ أكثر من الذين لا زالوا يتحدثون اللغة الأمازيغية. ولهذا فإن عودة هؤلاء المثقفين "العرب" المغاربة إلى أمازيغيتهم تعني عودتهم إلى الوعي السليم والتخلص من الوعي الزائف.
|
|