|
|
افتتاحية: الاحتفال بذكرى تأسيس فاس لا يختلف في دلالته الرمزية عن الاحتفال بذكرى فرض الحماية الفرنسية على المغرب! بقلم: محمد بودهان انطلقت الاحتفالات الرسمية بالذكرى 1200 لتأسيس مدينة فاس، التي رصد لها 350 مليونا من الدراهم، حتى تكون هذه الاحتفالات في مستوى المكانة الخاصة التي تحتلها هذه المدينة العريقة في تاريخ المغرب، هذه المكانة التي صنعها الأسطوري والخيالي والرمزي وتداخل الديني والسياسي، أكثر مما صنعتها الوقائع والأحداث والحقائق التاريخية. هذه المدينة لم تعد مدينة أمازيغية بناها أمازيغيون وتحمل اسما أمازيغيا (أفاس: اليمين، جهة اليمين)، وكانت عاصمة لممالك أمازيغية ومسرحا لتاريخ أمازيغي وأحداث صنعها أمازيغيون. فلو كانت هذه الاحتفالات استحضارا لهذه المضامين الأمازيغية والتاريخ الأمازيغي للمدينة، لكان الاحتفال احتفاء مشروعا بإرث أمازيغي عريق، وتذكيرا بمجد أمازيغي تليد، وربطا للحاضر بماضٍ أمازيغي قديم ومتجدد. لقد أصبحت فاس، في التاريخ المدرسي الرسمي المقرر والمفروض على عقول التلاميذ والمغاربة، ذي المضمون العروبي، وفي ما أفرزه من إعلام وثقافة وفكر، أصبحت مدينة عربية تمثل عاصمة العروبة بغرب شمال إفريقيا. وبالتالي فهي تعني، في المخيال الاجتماعي والسياسي والتاريخي، أول مدينة تأسست بالمغرب، وهي مدينة عربية، أسسها إدريس العربي ذو النسب العربي "الشريف" الذي جاء من "الربع الخالي" من أية مدن بشبه الجزيرة العربية، وتحمل اسما عربيا هو "فأس" التي عثر عليها أثناء حفر أسس المدينة! ومع تأسيسها تأسست لأول مرة الدولة المغربية التي هي دولة عربية لأن مؤسسها عربي، مع ما نتج عن ذلك من نشأة للأمة المغربية كجزء من الأمة العربية، مثل دولتها العربية وعاصمتها العربية الفاسية. وليس المهم، خصوصا على المستوى الرمزي والمخيالي، في هذه البدايات التأسيسية الأولى (تأسيس أول مدينة، أول دولة، أول أمة...)، ما تدعي أنها بنته وأسسته، وهو موضوع الاحتفال، بل ما يعنيه ذلك التأسيس من هدم وإلغاء وإعدام لما سبق تأسيس فاس، ويخص كل ما يتعلق بما هو أمازيغي، مدنا ودولا وأمة وشعبا ولغة وهوية، والذي أصبح، بعد وصول إدريس الأول إلى المغرب، كأن شيئا منه لم يكن موجودا، كأنه كان عدما محضا: أي لم تكن هناك مدن أمازيغية، ولا دول أمازيغية، ولا شعب أمازيغي، ولا أمة أمازيغية، ولا لغة أمازيغية، ولا ثقافة أمازيغية، ولا هوية أمازيغية. فإذا كان هناك شيء، ذو مضمون أمازيغي، موجودا قبل تأسيس فاس، فإن هذا التأسيس قد جبّه وأعدمه للانطلاق من الصفر، كما في كل الأساطير التي تتأسس على قتل وإلغاء ما سبق حتى تكون بالفعل أساطير "حقيقية"، كأسطورة تأسيس فاس التي معها سيتأسس كل شيء ذي علاقة بما هو عربي، ويقصى كل شيء ذي علاقة بما هو أمازيغي. ولهذا فإن أسطورة تأسيس فاس لا تختلف، على مستوى ما ترمز إليه من إقصاء للأمازيغية وتأسيس للعروبة، كثيرا عن أسطورة "الظهير البربري" التي أسست بدورها لقتل الأمازيغية وإقصائها وشيطنتها. وهنا يجدر التذكير أن فاس هي المدينة التي انطلق منها "اللطيف" المؤسس لأسطورة "الظهير البربري". قبل فاس"العربية" لم تكن بالمغرب إذن مدنية ولا حضارة ولا ثقافة ولا لغة ولا شعب. فكل شيء بدأ من هنا، من تأسيس فاس. ولهذا فقد أراد منظمو الاحتفال بتأسيس مدينة فاس أن يكون احتفالا بميلاد الدولة المغربية ونشأة الأمة المغربية. ويذكّر الاحتفال بأن الفضل في هذا الميلاد وهذه النشأة يرجع إلى الأيادي البيضاء لإدريس الثاني وأبيه إدريس الأول صاحب النسب العربي "الشريف". فالمغرب لم يدخل التاريخ إلا بوصول إدريس الأول إلى بلاد المغرب التي أخرجها من الهمجية إلى المدنية والحضارة، ومن ظلمات الوثنية إلى نور الإيمان والتقوى. ومنذ هذا التاريخ، تاريخ تأسيس فاس، أصبح الأمازيغيون تحت الحماية العربية الشريفة. ولهذا كان من المدعويين إلى حضور افتتاح الاحتفال رئيس الجامعة العربية السيد عمرو موسى ليرى بنفسه نتائج الحماية العربية للمغرب منذ تأسيس الدولة العربية بالمغرب. وتظهر هذه الحماية على عدة مستويات:ـ سياسيا: احتلال الأرض الأمازيغية والاستيلاء على السلطة السياسية من طرف العرب كمكافأة لهم على ما قدموه من "خير" للأمازيغ بإدخالهم إلى التاريخ العربي. ـ لغويا: أصبحت العربية هي لغة السلطة والحكم لأن الحكام عرب، وذلك على حساب اللغة الأمازيغية طبعا. ـ على مستوى الهوية: يرمز الاحتفال بذكرى تأسيس فاس والدولة المغربية إلى تحول المغرب من بلد أمازيغي إلى بلد عربي، بهوية عربية وحكم عربي، لتبرير الوضع "العربي" الحالي للمغرب. فالاحتفال هو إذن احتفال بدخول الأمازيغية تحت الحماية العربية، التي كان لها الفضل في قيام الدولة المغربية. ولنلاحظ التماثل البنيوي بين هذه الحماية العربية القديمة المتجددة، وبين الحماية الفرنسية الجديدة المنتهية: فالحماية العربية، يقول التاريخ الرسمي، كانت بداية لقيام الدولة المغربية الأصلية التقليدية، والحماية الفرنسية كانت بداية لقيام الدولة المغربية الحديثة. بل هناك من يشبه ليوطي، الذي أرسى نظام الحماية الفرنسية بالمغرب، بمولاي إدريس الثالث حيث خاطبه كما يلي:» لقد أثرت على حياة أجدادنا عظمة مولاي إدريس، وستبقى لنا يا ليوطي أنت حماية لمدينتنا ورمز صفاوتنا الدينية، لكن أبناءنا سيؤرخون تاريخهم ابتداء من ليوطي، باني المغرب الجديد…«. ولما مرض ليوطي قرأ الفاسيون اللطيف، الذي لا يلجأ إليه في الملمات الكبرى، طالبين من الله أن يشفيه، كما دعوه إلى زيارة قبر مولاهم إدريس، فرفض واكتفى بوضع أحد رجليه داخل الضريح والأخرى خارجه. (انظر: الماريشال ليوطي أو مولاي إدريس الثالث، http://tawiza.ifrance.com/Tawiza88/Lyautey.htm). ثم إن الضحية الأولى لكلتا الحمايتين، العربية والفرنسية، هم الأمازيغ والأمازيغية. كما لا ننسى أن بمدينة فاس، التي انطلقت منها الحماية العربية، وقّعت معاهدة الحماية الفرنسية كذلك. كل هذا يجعل الاحتفال بتأسيس فاس، وما يعنيه ذلك من تأسيس للدولة المغربية وإدخال الأمازيغيين تحت الحكم العربي، لا يختلف عن الاحتفال بذكرى فرض الحماية الفرنسية على المغرب في 1912 من القرن الماضي، والتي أدخلت المغرب تحت الحكم الفرنسي. هذا الاحتفال إذن هو تمجيد للاستعمار العربي للمغرب، مثلما سيكون الاحتفال بذكرى توقيع معاهدة الحماية احتفاء بالاستعمار الفرنسي للمغرب. وهكذا، ففي الوقت الذي يعترف فيه الوزير الأول الأسترالي بالجرائم التي اقترفها الغزاة الأوروبيون في حق السكان الأصليين لأستراليا، ويقدم اعتذارا رسميا باسم حكومته، تحتفل السلطة العروبية بالمغرب بذكرى الاستعمار العربي للمغرب وبداية مسلسل "الهولوكوست"holocauste في حق التاريخ واللغة والثقافة والهوية الأمازيغية للشعب الأمازيغي، هذا "الهولوكوست" الذي بلغ مستوى جنونيا بعد الاستقلال مع استعمال سلاح التعريب الذي كاد أن يبيد نهائيا الهوية واللغة الأمازيغيتين إلى درجة أن المسؤولين عن هذه الإبادة يفتخرون بها في المؤتمرات العربية عندما يصرحون أمام "أشقائهم" العرب بأنهم حققوا في أقل من ثلث قرن، على مستوى إبادة اللغة الأمازيغية، ما لم تحققه 14 قرنا من تواجد العنصر العربي بالمغرب.وهذا هو المضمون الرمزي الحقيقي لهذا الاحتفال، الاحتفال بإرساء الأسس التاريخية والأسطورية للحكم العروبي بالمغرب، وبالإقصاء السياسي للأمازيغية، وبانطلاق الاستعمار الثقافي واللغوي والهوياتي العروبي للمغرب، والذي لا زال قائما ومستمرا، يتغذى ويتعزز بمثل هذه الاحتفالات التي تنوه وتحتفي به. إنه احتفال بالميلاد الرسمي الأسطوري للسلطة العروبية بالمغرب، احتفال بتأسيس الحماية العربية، الهوياتية والسياسية واللغوية والثقافية، على المغرب الأمازيغي. ولكي تكتمل الفرحة بالاحتفال ويبتهج المحتفل به ـ إدريس مؤسس فاس ـ في قبره، قدّم له ورثته، المنظمون للاحتفال، هدية رمزية كتكريم له وعرفان بجميله، كما يحدث في كل الاحتفالات التي تخلد حدثا بارزا وراءه شخص عظيم وفذ، مثل إدريس الثاني، الذي أسدى عملا جليلا للعروبة وللشعب العربي، وخصوصا لورثته في الحكم والنسب العربي بالمغرب . هذه الهدية هي حلّ الحزب الأمازيغي الذي كان يشوش على نوم إدريس في قبره، لأنه كان يشعر بهذا الحزب كنشاز وإساءة إلى دولته العربية التي أسسها منذ إثنا عشر قرنا. وهو ما كان يحزنه ويقلق راحته بقصره داخل ضريحه بفاس العتيقة. خطورة هذا النوع من الاحتفال أنه يخلق ذاكرة جماعية وتاريخية زائفة وكاذبة، تبعد ـ بسبب هذا الزيف والكذب ـ الإنسان الأمازيغي عن ذاكرته الأمازيغية الحقيقية بعد أن تصبح مملوءة بمخيال تاريخي ورمزي وأسطوري عروبي يمجد الغزو العربي لبلاده وهويته، ويحتفي باغتيال ذاكرته التاريخية ومخياله الرمزي الأمازيغي. إن التاريخ هو الطريق إلى الهوية، والرابط الذي يحيل عليها ويذكّر بها. ولهذا فإن اغتيال هوية ما يمر بالضرورة عبر قطع الطريق الموصل إليها، أي تحريف وتزوير وأسطرة التاريخ الذي يحتضن هذه الهوية، ويستديمها ويشهد عليها. ولهذا فإن رد الاعتبار للأمازيغية يمر بالضرورة كذلك عبر تصحيح التاريخ لاستعادة الذاكرة الأمازيغية الحقيقية بعد تخليصها من الزيف والأساطير العربية التي تمجد احتلال بلدان الشعوب الأخرى. آنذاك فقط يمكن الاحتفال بتأسيس فاس كمدينة أمازيغية عريقة بناها أمازيغيون، وليس كمدينة عربية بناها رجل عربي ذو نسب "شريف" أسس أول دولة عربية بالمغرب، التي أسسها في الحقيقة الفرنسيون ابتداء من الحماية الثانية على المغرب في 1912. فهذا النوع من الاحتفال لا يختلف إذن في دلالته عن الاحتفال بذكرى فرض هذه الحماية الفرنسية على المغرب، كما سبق توضيح ذلك. |
|