| |
نهاية التكافؤ الاجتماعي
بقلم: عناني إبراهيم
(أسيف ن دادس,ورزازات)
لقد عملت
نظرية التربية "المسيدية" على ترسيخ مبدأ اللامساواة أو اللاتكافؤ اللسني
Linguistic Inequality والتي لها علاقة مباشرة بمشروعية اللاتكافؤ الاجتماعي، والتي
هي نتيجة لها.وبما أن أهداف هذه النظرية ليست تنظيمية ولا تثقيفية, فقد قامت ومنذ
البداية بتهميش الموروث الثقافي اللسني الأمازيغي لتدعيم مبدأ "النسب الشريف"
ومشروعيته اللاتكافؤ الاجتماعي.واشتد الصراع الطبقي بين جنس عربي وافد يفتخر
وباستمرار بعقدة لغوية ونظرية مقدسة، وبين إنسان أمازيغي يتكلم لغته بطريقة جيدة,عادية
وطبيعية تحتاج فقط إلى نظرية وصفية Descriptive تقوم على تفكيك –وليس اختزال كفايات
الكائن الأمازيغي اللسنية أو غير اللسنية.حيث يتخذ انعدام التكافؤ اللسني عدة أشكال
نميز من بينها ما سمي باللاتكافؤ الذاتي Sujective Inequality وله علاقة مباشرة
بمبدأ «النسب الشريف»، والذي ينبني على الفكرة التي تكونها الثقافة الوافدة عن لغة
الآخر ومعرفته الثقافية, فاللغة الوافدة تتكلم عن قيم وفضائل تظن أن السكان
الأصليين لا يملكونها، وبالتالي فالقيم الأمازيغية رديئة وليست إنسانية.فكلما تعددت
الأهداف المادية لحاملي هذه القيم "المقدسة" كلما ازداد تعقيد المواد اللغوية نفسها
ونظريتها القاعدية، وبالتالي يشتد اتساع الهوة أو الفوارق الطبقية، فأصبح الطفل
الأمازيغي لا يفهم منطق «الأدوات اللغوية»Linguistic Items التي تخول لفقيه المسجد
أن ينفرد بلقب بقرة «الباروك» في كل المناسبات, فيبدو أن عدد المواد اللسنية التي
يعرفها إمام المسجد تعكس عدد الامتيازات المادية في شتى الميادين وفي كل المناسبات
كالولادة والأعراس أو حتى الأحزان.ولهذا فإن اللغة في تنوع وظائفها تساهم في
اللمساواة الاجتماعية وتستعمل كأداة لتقويم الناس، وهذا ما يؤدي بالتالي إلى نوع
أخر من اللامساواة التواصليةCommunicative Inequality.
فلتقديم صورة جميلة داخل المجتمع يقوم الفقيه بتجويد الكلام العادي وبنبرة روحانية
قدسية يتم إسقاط الجودة والفصاحة على التعبير اللفظي العادي والمتداول يوميا وكلها
أساليب تقوم على احتكار مثالية الكلام أو النطق أو تأصيل الكلام الموزون في النسب
الشريف وليس بواسطة اكتساب كفاية التواصل.إن تجويد (من الجودة) النطق لم يكن في يوم
من الأيام يهدف إلى بناء التواصل والتحاور، بل يزكي اللامساواة التواصلية ويرسخ
لمبدأ «النسب الشريف»-أو الارتقاء العرقي كبديل للمثقف أو المتكلم المثالي.وكم من
قبائل أمازيغية بيولوجيا تعتبر وتسلم أن أصلها من "الشرفاء" أو"اكرامن" لأنها تفتقر
إلى تدوين خط عائلاتها الجينيالوجيي,ولملء هذا الفراغ التاريخي,أصبحنا نسمع عن
قبائل أو عائلات أمازيغية يعتبرون أن أصلهم من "الشرفاء" على الرغم من أنهم لم يسبق
لهم أن تكلموا اللغة العربية.وقد تصادف شيخا أمازيغيا في قبيلتك يتحدث عن تاريخ أو
أحوال "آيت حمو" مثلا قبل أن يصبحوا بين عشية وضحاها "شرفاء", فقط لأنهم سمعوا ذلك
من فقيه كان يلقن هذا النوع من المعارف عن قبيلتهم.وكم من طفل أمازيغي نال العقاب
الشديد وذهب ضحية هذه اللامساواة التواصلية فقط لأنه لا يستطيع نطق بعض المقاطع
اللسنية في اللغة العربية, أو يعقد نفسانيا لأنه يرغم على إعادة نطق بعض الكلمات
تعتبر محرمة في لغة الأم الأمازيغية ومن أمثلة هاته «الطابوهات»lefcuc -lexwnat.
لو كان هدف الفقيه في تدريس اللغة العربية هو التواصل أو الزيادة في المعرفة, فإنه
سيعلم الطفل الأمازيغي على الأقل، وباستعمال اللغة العربية، كيف يطلب من أمه
الأمازيغية تقديم أربع بيضات للفقيه كل يوم الجمعة.هنا سيتعلم الطفل أو يكتسب النطق
وقواعد النطق في اللغة العربية, سيتعلم أسلوب أو وظيفة الطالب. وبالاضافة إلى تنمية
مهاراته أو كفاياته في الحساب أو الرياضيات فإنه قد يستفيد من كفاية الفقيه التقنية
في وضع البيض داخل كيس عوض قب جلبابه, وقد تنمي اللغة العربية إدراكه المعرفي حيث
إن البيض لا يتحمل الحرارة وتجنب استهلاكه في حدود فترة معينة.يتضح إذن أن ثقافة
المسجد ساعدت وبشكل وافر على تجميد هذا النوع من الكفايات أو القدرات عند الطفل
الأمازيغي حيث عمل الفقيه على تغيير وتوجيه سلوك الطفل بالابتعاد عن الكفايات
الإدراكية المعرفية, فيحقق الفقيه الجودة في الحصول على جودة البيض ويرغم الطفل
الأمازيغي على التخلي وبطريقة اختزالية على كل معارف التعليم الوظيفية ليقفز مباشرة
إلى نهاية الثقافة الوافدة وإلى نهاية كل ما هو سوسيولسني.
نهاية التفاعل اللسني
يتزامن ولوج الطفل الأمازيغي لعالم المسجد بتلك المرحلة الحساسة التي يبدأ فيها
الأطفال تطبيق تلك الكفايات الموروثة جينيا وتلك الملكات اللغوية التي ولدوا بها
قبل اصطدامهم برموز لغوية أخرى تهدف إلى تغيير سلوكهم.وإذا اعتبرنا الكفاية اللسنية
بمفهومها التشومسكي كاستعداد نوعي كامن و"قدرة على الإنتاج غير المحدود",فان الطفل
الأمازيغي، وبمساعدة تلك القدرات اللسنية التي ولد بها، يعمل على إنتاج عدد لا
نهائي من الكلمات أو الأصوات انطلاقا من الحروف الأبجدية العربية.فعادة داخل فضاء
المسجد نسمع الأطفال يرددون مقاطع صوتية مثل:أبث Abattin , تجح tajahin خدد
Khadaddin رزط razatin منل Manalin .. عدد لا نهائي من أمثال هذه الكلمات بدون معنى.وهذا
يمثل قدرة الطفل على خلق لغة افتراضية وعلى الارتجال والابتكار المستمر.فتمزيغ
المقاطع فونولوجيا يثبت أيضا ذلك الكبت اللغوي واشتياقه إلى لغة وجودية تواصلية
يفتقد إليها داخل هذه المؤسسة.وبما أن الطفل مستعد بيولوجيا لبناء الكفايات, فإنه
يظهر إنجاز ذلك النحو الكوني Universial grammar الموجود على المستوى الجيني أو
النسق العصبي ويسقط هذه القواعد الماقبلية على اللغة الجديدة فيتحدث عن قواعد ممزعة
وهذه أمثلة على ذلك:
Ba : yat ddaw-as الباء نقطة من تحته
Qa : snat nnig-as القاف نقطتان فوقها
Ha : ur imhi : s الحاء بدون نقطة
ماذا يستفيد الطفل من هذه العمليات الكيميائية؟ ماذا سنطلق على هذه الظاهرة اللسنية
المعقدة؟ أين هي الكفايات التواصلية وأين هي المناهج الشفوية والمتكلم المثالي الذي
تدعو إليه الثقافة الوافدة لمدة 15 قرنا من التدريس؟ لو كانت الثقافة الوافدة تهدف
إلى توظيف الموارد المعرفية وبناء كفاية التواصل والحوار لما تم استغلال القدرات
اللسنية التي ولد بها الطفل الأمازيغي وتم استبدال الحروف الأبجدية العربية بحروف
أبجدية تنبثق من نظرية وصفية للهجات الأمازيغية (وليس بالضرورة أن تكون حروف
تيفيناغ التي قامت حولها القيامة).
كان من المفروض طبيعيا، ومن منطق التفاعل اللسني، أن تخلق لغة من نوع جديد مأخودة
من الأمازيغية والعربية كأداة للتواصل فيما بين الفاتحين والأصليين.ما يثير
الانتباه أن خليطا من اللغتين تم خلقه داخل مؤسسة المسجد لكن مجالها مقتصر على
التواصل بين الطفل وبين النصوص –الألواح –كلغة سطحية متعالية وليس مع حاملي هذه
الثقافة الوافدة.فقاموس هذه اللغة المختلطة لا يتعدى المجال الذي خلقت من أجله.فقد
نسمع مثلا:qraw-at اقرؤوا zzal صلي uzum الصوم mseh-at tilwah امسحوا الألواح.هل
يمكن أن نطلق على هذه اللغة المختلطة اسم «البدجين»Pidgin؟ وهل يمكن اعتبار العامية
المغربية أو الدارجة المغربية وضعية لسنية تطورت من «البدجين» لتصبح لغة «الكريول»
Creole وكلغة الأم لأطفال الجنسين؟ لماذا لم تهتم اللسانيات في شمال أفريقيا بدراسة
هذه العامية Creole مادامت هي اللغة الأم التي يجب أن يتعلمها الأطفال داخل المساجد
وداخل المدارس؟
لقد عرفت السوسيولسانيات «البدجين» على أنها عملية اندماج نوعين مختلفين من اللغات
لتخلق بذلك نوعا أخر من اللغة السطحية وغالبا ما تخلق لأغراض آنية ومادية محضة
لتسهيل التواصل بين أجناس ليست لديهم لغة مشتركة. ولهذا فإن قاموسها اللغوي لا
يتعدى المجال الذي خلقت من أجله.انطلاقا من هذا التعريف نلاحظ أن «البدجين» التي
خلقت كنتيجة للغزو العربي قد تختلف عن عملية البدجين Pidginisation في باقي بقاع
العالم للاعتبارات التالية: إن انعدام التواصل والتحاور بين الجنسين يفرض على هذه
اللغة في بدايتها أن تقتصر على المجال اللاهوتي –الديني.فعادة، تتأسس «البدجين» على
قاموس المجموعة المهيمنة أو الثقافية المهيمنة.لكننا نلاحظ أن العامية المغربية –كلغة
creole تأسست بشكل عام على القاموس اللاهوتي العربي من جهة، ولم تشمل الجانب المادي
أو الاحتكاك الاقتصادي، وفي نفس الوقت فإن تراكيبها وبنياتها الصوتية مؤسسة على
تراكيب اللغة الأمازيغية خاصة ما يتعلق بالحشو المورفولوجي Inflectional Morphology
ومن أمثلة التفاعل اللسني نجد Tanejjart-tabennayt -illa usemmit =kayn lberd.
وعلى العموم فإن مالم يمزغ على المستوى الفونولوجي –الصوتي فإنه يتم تمزيغه على
مستوى التراكيب Syntax.ونستنتج من كل هذا أن عدم بناء تراكيب اللغة العامية على
اللغة العربية (خاصة إذا اعتبرنا العربية كلغة مهيمنة) يرجع بالأساس إلى كون نظرية
تدريس اللغة العربية لم تؤسس في يوم من الأيام على مقاربة تواصلية ولا على منهاج
شفوي. والأهم أنها لم ولن تكون اللغة الأم لأي أحد.عندما تكتسب لغة البدجين Pidgin
ناطقين رسميين أو تصبح اللغة الأم للأطفال فإنها تصبح وبشكل رسمي لغة سماها
اللسنيون creole الكر يول. أيمكن اعتبار اللهجات الأمازيغية في شمال أفريقيا بمثابة
لغات من صنف creole الكر يول؟ كيف يمكن تحليل اختلافهما أو عدم وجود التفاهم
المتبادل بين الريفيين والسوسيين أو بين القبائل والطوارق؟ هل اختلفت اللغات –أو
اللهجات العربية ـ التي أسست عليها هذه اللهجات؟ أم أن هناك لهجات مختلفة أمازيغية
Creoles في تمازغا قبل دخول اللغات أو اللهجات العربية إليها؟
للإجابة عن هذه الأسئلة المعقدة يجب الإيمان بأن اللهجات واللغات الأمازيغية تطورت
في مرحلة معينة لتصبح Creoles أي كلغات الأم لأطفال تمزغا.وإذا آمن الباحثون
اللسنيون الأمازيغيون بفكرة تشو مسكي القائلة بأن "الأطفال مستعدون ومبرمجون فقط
لتعليم اللغات العادية الطبيعية" وليس اللغات المتعالية المقدسة, فإن كل الاحتمالات
واردة وتحتاج إلى أبحاث ودراسات ميدانية لسنية يتجاوز فيها الباحث الأمازيغي
اللهجات السياسية العربية التي تنادي بوحدة اللغة وتفتح الحدود الوهمية بين اللهجات
الأمازيغية من أجل تأسيس مجموعات فدرالية لسنية ينظمها قانون واحد وليست لغة واحدة.
عادة ما يطرح السؤال أو التعجب حول استمرار وبقاء اللهجات الأمازيغية (كلغات الأم)
رغم هيمنة الثقافة العربية مند قرون. فهذا التعجب يفرض علينا عدة فرضيات: فالأرجح
أن الاحتكاك بين الأمازيغ والعرب الفاتحين،كما أشرنا سابقا، لم يشمل كل المجالات
الوجودية,حيث إن المثاقفة نزلت إلى حد أدنى لها فلم تشمل إلا الجانب الميثافزيقي
الديني,كما أن اللغة المهيمنة التي كان من المفروض أن تقضي على اللغة الأمازيغية لم
تكن كما هو بديهي لغة الأم لأي أحد ولم ترق إلى مرتبة لغة وظيفية لتشمل التداول
والتواصل اليومي.أما الافتراض الثاني فيتعلق بالجانب التاريخي, يعيدنا إلى بداية
الاحتكاك أو التفاعل اللسني بين العرب والأمازيغ.فعلى العموم، وانطلاقا من النظرة
الاتنوغرافية للحالة اللسنية لشمال أفريقيا، يمكن التمييز بين ما سمي انتروبولوجيا
بالتزاوج اللسني الابسي Patriligual.فالتمازج الأول يعني أن أحدا أو مجموعة من
العرب الفاتحين تزوجوا بنساء أمازيغيات-وسمي أيضا Matrilocal أي المكان الذي ترعرعت
فيه الزوجة.هنا تنصهر الثقافة العربية وتذوب داخل الثقافة الأمازيغية، فلا وجود لأي
تأثير يذكر على مستوى اللغة لأن الأطفال يكتسبون لغة أمهم بشكل طبيعي.أما النوع
الثاني فيدخل في التصنيف الانتروبولوجي لما سمي بالزواج Exogamous حيث تنتقل الزوجة
الأمازيغية لتعيش في مجتمع رجلها العربي Patriligual .هنا يفرض على الزوجة أن تتكلم
لغة جديدة: لغة الرجل التي تتكلم بها مع أولادها. وكنتيجة لهذه الظاهرة اللسنية
تنعدم ما يمكن أن نسميه »اللغة الأم».فالأم لا تعلم الأطفال لسانها بل تعلمهم لسان
أبيهم.لنتصور أن مجموعة من عدد كبير من نساء أمازيغيات تزوجن برجال وافدين من
المشرق العربي (وهذا نوع من الأشرطة التي يجب أن تنتجها سينما الخيال اللسني العربي
في تمازغا), وإذا آمنا بأن «الكلام» «اوال» Awal ككفاية لسنية هي بمثابة لحظة من
لغة البدجين Pidgin بين أكثر من شخصين مختلفين لسنيا,فإننا سنلاحظ بكل سهولة تلك
الأخطاء التي وقعت فيها نظريات التعليم في شمال أفريقيا.فلقد فشلت الثقافة الوافدة
في التمييز بين ما هو ناطق أصلي وبين ما هو غير ناطق أصلي Non native speaker, ولقد
بلغت بهم البلادة حدها عندما طور..ليست له أية صلة باللغة التي يتكلمها أطفالهم
وبالخطاب اليومي أو التواصل الاجتماعي على تخوم أو حدود هذه المجموعات اللسنية.فهل
يجب على الطفل الأمازيغي الآن أن يتواصل مع زوار خياليين قادمين من الشرق العربي أم
أنه مرغم على تطوير خطاب بلغة أمه في جماعته اللسنية.
أما الحالة الافتراضية الأكثر شيوعا للتفاعل اللسني بين العربي والأمازيغي, فيمكن
إدخالها في ثقافة المساجد, الأضرحة أو الزوايا وما يدخل في مجال المدارس.هنا يتم
التمييز بين المعارف المستوردة وبين الكفايات المحلية في الأماكن التي نشطت فيها
هذه المؤسسات، ومع مرور القرون ابتعدت هذه المؤسسات العشوائية عن اهدافها التثقيفية
ونشر اللغة العربية ونشطت لغات البدجين Pidginisation.وبما أن أهداف هؤلاء
«الشرفاء» و»اكرامن» كانت مادية محضة, فإنهم أصبحوا يتكلمون تلك اللهجات الأمازيغية
للسيطرة على الموارد الاقتصادية لتلك القبائل.ويمكن الإشارة هنا إلى نوع التزاوج
بين الشرفاء أو »اكرامن» وبين العنصر الأمازيغي-كأناس من الدرجة الثانية أو
«كاعامين»-أي أناس عاديين.فالأسباب مادية محضة لا يحق لرجل أمازيغي –»اعامي» أن
يتزوج بامرأة لها نسب شريف أو من أصل «اكرامن» في حين يكون العكس مقبولا.فلو كانت
الأهداف تثقيفية أو لنشر اللغة العربية لما تم السماح بالتزاوج بين الشرفاء
الوافدين وبين السكان الأصليين ولما كنا نسمع الآن عن لغات «الكر يول» Creoles التي
تأسست على حساب اللغة العربية وعن لغات اكتسبت ناطقين رسميين لتصبح هذه اللغات
العربية لغات الأم لأطفال في شمال أفريقيا. وقد تكون المهمة سهلة بالنسبة للسياسين
العرب الآن وهم يبالغون في الحديث عن التدريس بالكفايات دون وجود المعارف الضرورية
لبناء هذه الكفايات: إن بناء الكفايات اللسنية في شمال أفريقيا لن تتم أبدا إلا
بواسطة ممارسة لغة طبيعية وجودية, وليس عن طريق استعمال لغة سطحية متعالية كما هو
الشأن في مدارس المغرب «العربي»الآن.ولحسن حظ المغرب الكبير فإن بناء الكفايات ستتم
وبكل سهولة بواسطة ممارسة اللهجات الأمازيغية أو على الأقل لغات «الكر يولCreoles»
التي تطورت من هذه اللهجات. وتماديا في الخطأ الذي وقعت فيه نظرية اللسان الموحد في
شمال إفريقيا, فإن الدعوة إلى خلق لغة أمازيغية موحدة سيبعد عن ذلك الانخراط اليومي
في التبادل والتواصل السني، وكلها شروط أساسية لبناء الكفايات التي طالما تتحدث
عنها جميع كتب التربية الوطنية في الآونة الأخيرة.
هناك فرضية تقول بأن ظاهرة «اكرامن» كانت موجودة قبل دخول العرب إلى شمال
أفريقيا.فبالمقارنة مع كلمة «شريف «التي لها تحليل لسني في اللغة العربية,فإن كلمة
«اكرام» لا يوجد لها أصل في هذه اللغة.وانطلاقا من الدراسة الانتروبولوجية التي قام
بها المرحوم David Heart حول الجنوب الشرقي المغربي, فإن قبائل آيت عطا تقدس وتحرم
«اكرامن» أكثر ممن لهم نسب «شريف», وقد تكون أيضا هي نفس الفكرة التي أشار إليها
محمد شفيق عندما أرجع أصول «اكرام» إلى ما قبل الإسلام. وقد يكون هذا احتمالا واردا
نتيجة للمثاقفة بين الفراعنة والأمازيغ، ليس فقط على مستوى اللغة وإنما حتى في شكل
المباني (أهرام مصغرة) التي تركتها تلك الأقلية المهيمنة والتي تتوسط عادة القبائل
الأمازيغية.
تجدر الإشارة هنا إلى أن مسالة انعدام» التفاهم المتبادل «Mutual Intelligibility
بين بعض اللهجات الأمازيغية في شمال إفريقيا مسألة تحتاج فقط إلى فتح الحدود أمام
دراسات ميدانية لأن مسألة التفاهم الكامل أو التفاهم غير الكامل تتماشى مع البعد
الجغرافي وتبعا لانتشار المجموعات اللسنية في الزمان والمكان.فمثلا إذا كان هناك
تفاهم بين لهجة سوس وبين لهجة الأطلس التي تتفاهم أيضا ولو جزئيا مع لهجة الريف،
فإنه ليس ضروريا أن يكون هناك تفاهم كامل بين لهجة الريف ولهجة سوس.إن التفاهم
المتبادل إذن ليس علاقة بين اللهجات نفسها بل علاقة بين الأفراد أو المجموعات التي
تتواصل.فعكس تشابه اللغات الذي ينبني على مدى تشابه المواد اللسنية, فإن تفاهم
اللهجات ينبني على القيم بين الأفراد أو المجموعات.فمثلا ستمكن كلا من قيمة التحفيز
Motivation وقيمة الممارسة أو التجربة في إيجاد تفاهم كامل بين اللهجات في الجزائر
وبين اللهجات في المغرب أو بين اللهجات كلها في تمازغا.فرغم البعد، ولمدة قرون
عديدة، فإن القيم السالفة الذكر ستسهل تواصلا لسنيا بين أفراد اللهجتين –فلو كانت
المسألة تتعلق فقط بمواد أو أدوات لغوية لكان هناك تفاهم متبادل أو تواصل بين
اللهجات السياسية بين الدول القائمة في شمال أفريقيا, ولما مكنت أدوات اللغة
العربية من تأسيس «المغرب العربي» أو تحقيق ذلك الحلم الذي تنادي به «الوحدة
العربية».
|