|
افتتاحية: متى سيحاكم وزراؤنا السابقون في التعليم؟ بقلم: محمد بودهان تروج هذه الأيام بفرنسا أمام محكمة العدل للجمهورية La Cours de Justice de la République، وهي المحكمة المختصة بمتابعة ومحاكمة الوزراء، قضية تتعلق بالمسؤولية الجنائية عن وفاة مواطنين فرنسيين نتيجة تناولهم للحم بقر "مجنون" منذ أزيد من خمس سنوات. والقضية ليست عادية لأن المتابعين فيها هم أربعة وزراء سابقون كانوا يسيّرون قطاع الفلاحة ما بين 1988 ـ 1997. وقد وجِّهت لهم تهمة "القتل الغير العمد وتعريض حياة الآخرين للخطر" Homicide involontaire et mise en danger de la vie d'autrui. لماذا مساءلة هؤلاء الوزراء السابقين عن ضحايا "جنون" البقر، الذي ظهر في تاريخ لاحق ـ 1999 ـ 2000 ـ لم يكونوا فيه يتحملون أية مسؤولية حكومية؟ لأن المحكمة، بعد البحث والتقصي، ارتأت واقتنعت أن سبب ظهور "جنون" البقر يرجع إلى نوع الأعلاف التي كانت تقدَّم للعجول الصغيرة قبل أن تصبح بقرا "مجنونا" ـ بسبب تلك الأعلاف ـ بعد 3 ـ 4 سنوات. وبالتالي فإن المسؤولية تقع عل عاتق الوزراء الذين كانوا على رأس وزارة الفلاحة ـ الوزارة المختصة بمراقبة أعلاف الحيوانات ـ ليس عندما ظهر "جنون" البقر، بل في الفترة التي كانت لا تزال فيها هذه الأبقار عجولا صغيرة تتغذى من أعلاف غير سليمة هي التي ستجعل منها بقرا "مجنونا" عند بلوغها، أي بعد ثلاث أو أربع سنوات. في المغرب وقع حدث يُشبه، من حيث تكييفه القانوني وعلاقته بمسؤولية وزراء القطاع الذي ينتمي إليه ذلك الحدث، قضيةَ "جنون" البقر المعروضة على القضاء الفرنسي، والتي يحاكم فيها وزراء سابقون باعتبارهم مسؤولين جنائيا عن الوفيات التي تسبب فيها "جنون" البقر. الفرق بين هذا الحدث المغربي وقضية "جنون" البقر الفرنسية هو: أ ـ أن الأول لم يعرض بعد على القضاء، ب ـ أنه أكبر حجما وأشد خطورة من قضية "جنون" البقر، ج ـ أن هذا الحدث الذي وقع بالمغرب لا يتعلق بـ"جنون" البقر، بل بجنون الإنسان الذي تسببت فيه، مثل جنون البقر، "أعلاف" مسمومة تناولها هذا الإنسان عندما كان صغيرا. د ـ هذه "الأعلاف البشرية"، التي ستعطي جنون الإنسان بالمغرب، تتطلب مدة أطول لإنتاج مغعولها ـ الذي هو جنون الإنسان ـ من المدة التي تتطلبها "الأعلاف الحيوانية" ليظهر جنون البقر. يتعلق الأمر، بالنسبة للمغرب، بالتفجيرات الإرهابية لـ16 ماي 2003 بالدار البيضاء. فأولئك الشبان الذين فجروا أنفسهم ليقتلوا بذلك أكبر عدد من مواطنيهم، لا يمكن إلا أن يكونوا مجانين، ليس بالمعنى الإيديولوجي فحسب، بل بالمعنى الإكلينيكي كذلك. فمن المسؤول جنائيا عن الضحايا والوفيات التي تسبب فيها انفجار هؤلاء المجانين؟ البحث عن الجواب يؤدي بنا إلى طرح سؤال آخر: من المسؤول جنائيا عن "جنون" هؤلاء الشبان، هذا "الجنون" الذي نتجت عنه إصابات وضحايا؟ فكما أن سبب "جنون" البقر، في القضية المعروضة على محاكم فرنسا، يكمن في نوع الأعلاف الفاسدة التي غذِّيت بها تلك الأبقار عندما كانت عجولا صغيرة، فكذلك سبب "جنون" انتحاريي 16 ماي يرجع إلى نوع "الأعلاف" المسمومة التي تناولوها منذ صغرهم. والفرق بين النوعين من الأعلاف هو أن الأولى تتكون من مواد كيميائية وبيولوجية، أما الثانية فتتكون من مواد ثقافية، معرفية، فكرية، إيديولوجية، دينية ووهّابية... كما أن الأولى كانت تقدم في المذاود Mangeoires المعروفة، المصنوعة من الخشب أو الإسمنت، أما مذاود النوع الثاني من الأعلاف فتتشكل من المدارس والمساجد، أي المؤسسات التعليمية والدينية. فإذا كان وزراء الفلاحة بفرنسا هو المسؤولون عن النوع الأول من الأعلاف، والذي أدى إلى ظهور "جنون" البقر، فإن وزراء التعليم بالمغرب هم المسؤولون عن النوع الثاني من "الأعلاف" الذي أدى إلى ظهور "جنون" الإنسان بالمغرب، ذلك الجنون الذي رأينا نماذج منه في تفجيرات الدار البيضاء. إذا كانت الأعلاف الغير السليمة التي كانت تقدم غذاء للعجول لم تتطلب، نظرا لطبيعتها المادية والبيولوجية، أكثر من ثلاث سنوات لإنتاج أبقار "مجنونة"، فإن "الأعلاف" الفاسدة، التي كانت تقدم غذاء فكريا لتلاميذ المؤسسات التعليمية والدينية بالمغرب، قد احتاجت إلى مدة أطول، كما سبق أن أشرت، نظرا لطبيعتها الفكرية والروحية، لإنتاج "مجانين" الله، مدة تقدر بجيل أو أكثر. بعد أحداث 16 ماي الإرهابية، توجهت أصابع الاتهام إلى الوزير السابق للشؤون الدينية، السيد عبد الكبير العلوي المدغري، مطالبة بمحاسبته عما جرى لأن ما حدث كانت دوافعه دينية. وبما أنه هو الذي كان على رأس وزارة الشؤون الدينية لما يقرب من عشرين سنة، فهو المسؤول إذن عن هذه الأحداث. هذا استدلال فيه غير قليل من التبسيط لاعتماده على العلاقة المظهرية والسطحية بين أحداث 16 ماي والشأن الديني، دون الغوص إلى العلاقة السببية، العميقة والحقيقية، بين هذه الأحداث الإرهابية وقطاع وزاري آخر، هو وزارة التربية الوطنية. فإذا كان العلوي المدغري قد ساهم، وبشكل كبير جدا لا ينكره أحد، في توهيب (من الوهابية) المغرب وترسيخ ونشر الفكر الظلامي الأصولي المتطرف على نطاق واسع، فذلك لأن وزارة أخرى، وهي وزارة التربية الوطنية، كانت قد غسلت العقول وأعدتها لقبول هذا التوهيب بسهولة، والترحيب بهذا الكفر الظلامي الأصولي المتطرف. فإذا كان الفكر الظلامي المتطرف قد خرج من المسجد إلى الشارع ـ وهنا تظهر جليا مسؤولية وزارة الشؤون الدينية ـ، فما لا ينبغي أن ننساه ولا أن نتجاهله هو أن هذا الفكر الظلامي المتطرف دخل إلى المسجد قادما إليه من المدرسة حيث نشأ وتكوّن، أي أن الفكر الظلامي المتطرف لم يولد في المساجد، بل داخل حجرات الدارسة بالمؤسسات التعليمية، ثم انتقل بعد ذلك إلى "بيوت الله" التي ستنقله بدورها إلى الشارع. فالتسلسل السببي لظاهرة التطرف الديني يتكوّن من ثلاث حلقات (المدرسة، المسجد، الشارع) تشكل المدرسة سببها الأصلي والأول: من المدرسة إلى المسجد، ومن المسجد إلى الشارع، مثل جنون البقر تماما: فإذا كان هذا الأخير قد انتقل من الضيعات إلى المستهلك، فإنه قد دخل إلى الضيعات قادما إليها من الأعلاف. فالفاعل الرئيسي في هذه الحالة، ليس هو وزير الشؤون الدينية، بل وزراء التعليم، دون أن ينفي ذلك دور الأول كمشارك Complice. وتتجلى مسؤولية وزارة التعليم في نوع "الأعلاف" الفاسدة التي بدأت في تقديمها غذاء ثقافيا وفكريا وإيديولوجيا لتلاميذ وطلبة المؤسسات التعليمية، بكل المستويات والشعب، مع أواخر السبعينيات. وتتمثل هذه الأعلاف" الفاسدة، المسمومة والمغشوشة، في مادة التربية الإسلامية، وشعبة الدراسات الإسلامية، وتعريب المواد العلمية، وإلغاء مادة الفلسفة بالجامعات الجديدة واستبدالها في الثانوي بالفكر الإسلامي. هذه هي العناصر التي ستغسل أدمغة تلامذتنا وتهيئ عقول ناشئتنا طيلة عشرين سنة (1978 ـ 1998) لتلقي الفكر الظلامي الوهابي، وتبني التطرف الأصولي، ومعاداة المرأة والحداثة والعقلانية. وبعد هذه المدة، لا يهم أن تمر أو لا من المدرسة لتكون متشبعا بالفكر الظلامي الوهابي والتطرف الأصولي، لأن هذا الفكر وهذا التطرف يكونان قد فعلا فعلهما وأصبحا ظاهرة اجتماعية منتشرة، تعيد إنتاج نفسها بنفسها، حاضرة عند الأميين والمتعلمين على السواء. ولم ننتبه إلى نتائج هذه "الأعلاف" التعليمية الفاسدة والمسمومة إلا عندما انفجرت أشلاءً آدمية ليلة 16 ماي 2003. فمن هو وزير التعليم الذي قام بأكبر "إصلاح" للنظام التعليمي المغربي وبرامجه التربوية بشحنها بـ"أعلاف" فاسدة ومغشوشة، والتي أنتجت انتحاريي 16 ماي 2003؟ إنه السيد عز الدين العراقي، الذي يعتبر بحق "وزير التعريب" في تاريخ المغرب. وهو ما يبدو أمرا طبيعيا ومنطقيا إذا عرفنا انتماءه السياسي لحزب الاستقلال، أي لأكبر "حزب للتعريب" في تاريخ المغرب كذلك. فمتى ستُقدم إذن دعوى ضد السيد عز الدين العراقي بتهمة "القتل الغير العمد وتعريض حياة الآخرين للخطر"؟ أجزم أن السيد عز الدين العراقي، لو كان وزيرا في فرنسا أو غيرها من الدول الديموقراطية الحقيقية، وقام بنفس ما قام به في المغرب من إفساد للمنظومة التربوية مع نفس نتائج هذا الإفساد ليوم 16 ماي 2003، لما أفلت من الإدانة والعقاب، بصفته مسؤولا جنائيا عما حدث. وارتباطا بانتشار الفكر الظلامي المتطرف الذي كانت وراءه "إصلاحات" الوزير عز الدين العراقي، هناك كذلك التدني المريع لمستوى تعليمنا، الذي هو ـ التدني ـ نتيجة كذلك لتلك "الإصلاحات". ونستغرب كيف أن نوابـ(نا) البرلمانيين لم يسبق لهم أن ساءلوا وزراء التربية الوطنية عن هذا المستوى المتدني جدا لتعليمنا، ابتداء من تولي عز الدين العراقي على رأس وزارة التعليم. مع أن مثل هذا التدني لمستوى التعليم، لو حصل في دولة أوروبية، لتشكلت لجان خاصة للتحقيق والتقصي وتحديد المسؤوليات، ولترتبت عن ذلك متابعات ومحاكمات. قلت بأن "الإصلاح" الذي أدخله الوزير عز الدين العراقي على منظومتنا التربوية في عهد وزارته كان أكبر "إصلاح" عرفه هذا القطاع. أما ثاني أهم "إصلاح" من نوعه عرفه تعليمنا فهو الذي يتضمنه "الميثاق الوطني للتربية والتكوين". وإذا كانت مساوئ ـ بل ومخاطر ـ "الإصلاح" الذي أنجزه الوزير عز الدين العراقي لم تظهر للعيان إلا بعد أزيد من عشرين سنة من بدء تطبيقها، فإن "الميثاق الوطني لتربية والتعليم" قد كشف عن مساوئه ومخاطره منذ سنتين فقط مرتا على تطبيقه والعمل به. فقد رأينا نتائج امتحان الباكالوريا للسنة الدراسية الماضية كيف كانت كارثية. وإذا كان تطبيق "الميثاق" قد أعطى مثل هذه النتيجة بعد سنتين فقط من تطبيقه، فماذا سيعطي بعد عشرين سنة من العمل به؟ لا شك أنه سيعطي أضعاف مساوئ إصلاح عز الدين العراقي بعشرات المرات. فمتى سيفكر المسؤولون بجدية في إصلاح حقيقي للتعليم ببلادنا؟ كل هذا يبين أن المغرب ليس له إلا مشكل واحد، هو مشكل التربية والتلعيم، لأن كل المشاكل الأخرى ـ البطالة، الأمية، انتشار الجريمة، التطرف، الهجرة السرية، الانحراف، التخلف... ـ ما كانت لتوجد لو كان تعليمنا منتجا ومفيدا وسليما. بل لما وجدت مشكلة الصحراء أصلا: فلو أن تعليمنا ركّز منذ البداية على الهوية الأمازيغية المستقلة عن العروبة والمشرق، لما فكّر أي مغامر في إقامة جمهورية عربية على أرض أمازيغية. إن ما تنادي به الجمعيات الحقوقية من ضرورة فتح ملفات الماضي ومعاقبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب، ينبغي أن يشمل كذلك ملف وزارة التربية الوطنية، وبالتحديد في عهد عز الدين العراقي، لأن ما قام به هذا الأخير، ليس فقط انتهاكا جسيما لحق من حقوق الإنسان، بل هو انتهاك لعقله من خلال ملئه بمواد فاسدة ومسمومة وخطيرة. وبالتالي فإن الجرم، في هذه الحالة، هو أكبر وأخطر لأنه اعتداء على حرمة العقل قبل الجسم. |
|