|
|
الشجرة التي حاولتم اغتيالها لم تمت، فلا تفرحوا بقلم: مصطفى ملّو جلست الشجرة، عفوا فالأشجار لا تعرف الجلوس، بل وقفت تتأمل وتفكر سارحة بخيالها عما حولها، ثم خاطبت نفسها قائلة: «أنا بنت هذه الأرض لم آتها لا من الشرق ولا من الغرب، الذين غرسوني، فعلوا منذ قرون خلت، غرسوني وسقوني بدمائهم، فإذا بي أشق تربة هذه الأرض، أبي لم يغتصب أما لتلدني، أنا لست بنت زنا، أنا بنت الأصل والفصل، ولن أسمح لأحد بأن يفتض بكارتي، أو يمزق أحشائي أو يجهض ما أنا به حالمة وما به حاملة من أزهار وثمار حان قطافها». ذات يوم قررت مجموعة من المتوحشين، بتواطؤ ومساعدة من حارس الغابة الخائن، العديم الضمير والاعتبار الذاتي، الهجوم على الشجرة لافتضاض بكارتها واقتلاعها من الجذور ومحو أثرها من الوجود. أقبلوا على جريمتهم تلك بذريعة أن»السيدة الشجرة»، التي أرادوا منها أن تتحول إلى دمية بأيديهم يلعبون ويتلاعبون بها كما شاؤوا، مجرد عاهرة، فاسقة، عميلة، خائنة، مهددة لرونق الغابة وتناغم ألوانها، والسبب حسب زعمهم أنها تختلف عن شجرتهم التي يحاولون غرسها وسقيها بماء حرام يمنعونه على أمنا الشجرة، ليطعموه سما قاتلا لشجرتهم، التي يعتقدون أنها أفضل الأشجار، ووحدها من تستحق الحياة، أما غيرها فلا يستحق إلا أن يصير حطبا.إنهم أعداء الحياة، أعداء الطبيعة، الذين كلما سقوا شجرتهم بالماء الحرام كلما زادت ذبولا واضمحلالا، وفي المقابل كلما أزهرت وأينعت شجرتنا. الحسد أعمى قلوبهم والغيرة غشيت عقولهم وأبصارهم ودمرت الطبيعة عقيدتهم، فلم يتبق لهم سوى حمل الفؤوس، حتى من طرف الذين لم يسبق لهم أن حملوا فأسا، أو جربوا مواجهة، لاستئصال هذه الجرثومة الخبيثة في رأيهم وإراحة شجرتهم وفصيلتها منها، كل ذلك وحارس الغابة جالس لا يحرك ساكنا، ويا ليته يفعل، بل إنه لا يتواني في تقديم كل المساعدة والدعم لهم حتى وإن لم يطلبوا منه ذلك، فكيف إذا طلبوا؟ وهم على ذلك النحو، وفي اللحظة التي شرعوا في توجيه ضربات فؤوسهم إلى جذع الشجرة الصلد، الذي لم تكن ضرباتهم تنال منه قيد بعوضة أو أقل، هب أبناء الشجرة التي كانوا يعتقدون أنها وحيدة غريبة لا عائلة ولا أقارب لها في هذه الغابة التي تحولوا فيها إلى وحوش مفترسة، الغابة لهم لا لغيرهم. هب أعمامها وأخوالها إخوتها وأخواتها، كل عائلتها من أشجار أركان والأرز وكل أشجار الأطلس وسوس والريف، حتى أشجار الطلح ونباتات الحلفاء القادمة من الجنوب الشرقي والصحراء، لم يمنعها العطش من الزحف على المفترسين، لنجدة الشجرة ورد ضربات المفترسين، الغاصبين. حمي الوطيس وتعالى الصراخ، فجأة انسحب المهاجمون مهرولين، فابتلعتهم الغابة وغاب أثرهم بين أدغالها وغياهبها. شاخت أمنا الشجرة، حيث السنون لعبت فيها ألاعيبها، فطفقت أوراقها تتساقط الواحدة تلو الأخرى، وبدأت أغصانها تذبل، إنه حكم الحياة في الخلق جار، إذ لا محالة أنها شرعت في توديع الحياة صوب مثواها الأخير، ولكن ليس قبل أن تفرخ الملايين من أبنائها وبناتها، ستخلفهم ليس ليترحموا عليها أو أن يبكوها، ولكن ليأخذوا الدروس من صمودها ومقاومتها، وليغرسوا المئات والآلاف والملايين منها. كانت المرحومة تؤمن قيد حياتها أن وفاتها لن يؤثر بشيء في الغابة إذا توحدت واتحدت أشجارها وتشابكت أغصانها وجمع أبناؤها وحفدتها لكمتهم وشمروا على سواعدهم لصد ضربات الأعداء، الذين لا شك سيعاودون الهجوم مرات ومرات. ماتت الشجرة أو هكذا اعتقدوا، ماتت شامخة واقفة، فكذلك تموت الأشجار، ماتت موتة العز والكرامة، ماتت موتا عضويا بيولوجيا، أو هكذا خيل لهم، لكنها ما زالت حية في القلوب والعقول، أو الأصح أنها لم تمت، إنما انتقلت فقط من عالم إلى عالم آخر، لأخذ قسط من الراحة، بعد أن اطمأنت على أن أبناءها قادرون على حمل المشعل، وزرع شتائل من فصيلتها في كل ربوع هذه الأرض، وبذلك يضمنون لها الاستمرارية والخلود، فهل ماتت الشجرة؟ بينما شرع المفترسون مبتهجين مغتبطين في إعداد الكفن لدفنها، وفي ذهول منهم، خاطبتهم: «عذرا أيها المفترسون، كنت أمزح وحسب، فلا تفرحوا، الشجرة لم تمت ولن تموت، كنت أمزح وأجس نبضكم لعل أنفسكم تسول لكم الهجوم مرة أخرى، فأريكم ربيعا في عز الصيف، أنا هاهنا باقية، ها هنا باقية». أعداؤها منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، في حين أن الشجرة هاهنا باقية هاهنا باقية، فلا تفرحوا، هكذا قالت ثم أضافت مخاطبة أبناءها: «تحية لأبنائي الأحرار ممن لم يخونوا الحليب الذي رضعوه من ثديي، تحية لكم ألف تحية، أنا بدوري أعيدكم بأني هاهنا باقية، صامدة، مقاومة، أصلي ثابت وفروعي في كل شمال إفريقيا، كلما قلموا غصنا من أغصاني، نمت وترعرعت أغضان أخرى، أكثر نضارة وأكثر تشبثا وأملا في المستقبل، وكلما رموني بروثهم كلما منحوني المواد العضوية الضرورية للاخضرار والازدهار، وإن قرروا إحراقي ببترولهم، فسأقاوم بأظافري وسيحترقون بنار حطبي، المهم أني لن أستسلم، هاهنا باقية، هاهنا باقية، رغم الأعداء الداء الذي أصيبت بهذه الأرض، وكلما فرحوا معتقدين أني على سكرة الموت، كلما استعددت أكثر فأكثر لربيع صيفي، سيحرقهم وينعشكم، فدمتم أوفياء».
|
|