|
|
معتوب لوناس: المتمرد الطريف بقلم: مبارك أباعزي (طانطان)
بصوته الرقيق كصوت النساء في مقام، والغليظ كصوت يتجاوز صوت الرجال في مقام آخر، كانت قشعريرة العشق تتذبذب فينا، فتتلون بين المقام والمقام، متحولة إلى نار تلهب فينا النار والتمرد. أحببناه حيا، وعشقناه ميتا وشهيدا. لقد كانت ألحانه مجمر الكلمة المشتعلة. عرفنا به أنفسنا، ولم يبق لنا إلا هذا الحنين المتواصل إلى لقياه، ولما لم نجد من سبيل إليه، وصلناه بقراءة كتابه العظيم، والتشفي بكلماته وألحانه. هذا فرش عن معتوب لوناس الطريف، يستلهم بعضا من المضحكات من سيرته الذاتية " المتمرد" التي ترجمها إلى العربية الأستاذ محمد زارو. لقد تحدث فيها عن معاناته وتجربته مع النضال والسجن والمرض، تجربة لم يعرف فيها معتوب لحظة هدوء. ومن الأكيد أن هذه التجارب كانت قد كشفت عن شخصية حزينة ينخر فيها الإحساس بالغبن والذل والإهانة والاضطهاد... لكن، وعلى النقيض من ذلك تماما، يفصح المتمرد عن شخصية طريفة في أفعالها، في تصرفاتها، في عنفها، في استنفارها. وهذه المعطيات جميعا، لن نستطيع الكشف عنها إلا بعد التحليل الدلالي الدقيق للسخرية التي يوظفها معتوب في ما يكتبه، في المزالق اللغوية التي تسبر عمق الطرافة في النص. * ذهب مع أقرانه للتسكع كعادتهم، وحدث أن صادفوا في الطريق كوخين مبنيين بأغصان الشجر وأكوام القش، وكانوا يترددون عليهما لتدخين أعقاب السجائر. وفي إحدى المرات، وفيما كان أحدهم يشرع في إشعال عود ثقاب، اشتعلت النار في الكوخين، وهو ما هدد القرية كلها بالاحتراق. وبعد أن فطن لهم أهل القرية، دخل رجال المقاومة على أمه، وطلبوا منها إحضار الجاني، فحملت لهم معتوب على ظهرها، وسألوها غاضبين: أين هو الجاني؟ أشارت بيدها إليه؛ فضحكوا. * يروي معتوب كذلك قصة جاره الذي حصلت بينهما مشادة، بعد إصراره على بناء منزله بطريقة غير مشروعة أمام منزله. فبعد اختلاف حاد لجأ الجار إلى الشتم والضرب مع أبيه، مما أدى إلى طعن معتوب بطعنة خنجر طويلة. ورغم أن الجار وأباه لم يسجنا المدة التي يستحقانها، ورغم أن القضاء حكم عليه هو، بسنة سجنا بعد أن احتج على الإفراج عن جاره، وإن تمكنا كذلك من بناء المنزل، إلا أنه سمح له باستغلال البئر والصهريج اللذين شيدهما بعد أن أتمم الجار بناء المنزل الذي طالما انزعج منه لوناس وهو يبنى في ساعات الليل الساكنة. * يذكر كذلك وهو في الجندية أنه كتب رسالة ادعى أن أمه أرسلتها إليه، تخبره فيها أن أباه جاء من فرنسا رفقة امرأة فرنسية ينوي الزواج منها، وهو ما يستدعي حضوره الفوري. قدمها إلى قائد الفرقة بغية الحصول على إجازة. وإن استطاع أن يقنعه بذلك، وحصل على ثلاثة أيام، فقد عمد إلى تمديدها إلى عشرة، وكانت عقوبة ذلك تنتظره؛ لقد وضع في الحفرة لمدة خمسة عشر يوما. * أما كرة القدم فقد كانت بدورها سببا في طرده من الثانوية، يذكر معتوب أن مباراة مهمة كانت ستجمع الفريق الجزائري بالفريق البرازيلي. خرج من داخلية الثانوية ليلا، وشاهد المباراة ولم يعد إلا في وقت متأخر، حيث وجد الحارس أمام الباب ورفض أن يدخله، مما اضطره إلى أن يوجه له عدة لكمات، الشيء الذي سبب طرده. * لمعتوب لوناس حساسية مفرطة تجاه اللغة العربية إلى الحد الذي لا يعرف فيه سوى كتابة اسمه، وثمة لقاء مع إحدى القنوات الفرنسية، صرح فيه أنه لا يفهم من الدارجة الجزائرية إلا القليل. * وُجه سؤال إلى صديقه من تيزي وزو بالفرنسية من لدن ملازم أول، ولم يفهم منه شيئا، وبعد أن حاول معتوب مساعدته، أصدر عليه الملازم حكما عقابيا بدعوى أنه تدخل في ما لا يعنيه؛ مشى خمسة أمتار مشية البط، وزحف فوق بقايا الزجاج حافي القدمين واليدين. * أما بعد أن عاد أبوه من فرنسا، فقد أحضر له هدية وهي آلة المندول، وهي الآلة التقليدية لدى الأمازيغ القبايليين، أحب معتوب هذه الآلة كثيرا، لكنها لم تمكث بين يديه إلا سنة واحدة، عندما راهن عليها، واضطر إلى التنازل عنها لابن عمه في لعبة قمار. * وفي تجربة السجن كذلك يحكي معتوب قصته مع ذلك المنتج الذي يدين له بمال كثير، إذ جاءه إلى الفندق ذات يوم وهو يزعق فيه. ولما لاحظ معتوب أنه يحمل بين يديه سكينا، التمس الأعذار لكي يحمل من غرفته سكينا آخر. خرجا من الفندق، وتمكن معتوب من إصابته، فهرب وكانت عودته في الصباح قد مكنت الشرطة من اعتقاله، فقضى شهرا كاملا في السجن مع شباب جزائريين كانوا يعرفونه. قال له مدير السجن بعد أن عرف أن ذلك المنتج نصاب: "آسف، تأكدوا بأننا نقدركم كثيرا، سوف تذكرون الأسابيع التي قضيتموها هنا، إنها تجربة عابرة، رجال عظام مروا من سجن لاسانطي". قال معتوب وهو يرى الشمس من جديد: "داهمني إحساس عميق (رهيب) أنا الذي لم أقض فيه إلا شهرا واحدا، فما بالك بمن قضى بين قضبانه عشر أو اثني عشر سنة.". * يدهشنا معتوب عندما يقول: "معركتنا عادلة ونبيلة، أقسم بذلك.". فنتساءل بغير قليل من المكر، يا ترى، بم يقسم معتوب، بالشمس أم بالكواكب، خصوصا أن موقفه من الدين موقف متطرف جدا، سببه في ذلك الاضطهاد الذي تعرض له من قبل الإسلامويين، يتمثل موقفه ذلك في قوله: "لا إله ولا نبي ولا خلود، كل ما يبقى هو ما نفعله في هذه الحياة ( المتمرد، ص.75). ويتكرر هذا الموقف عندما قال عن أم المريض الذي يرقد بمحاذاته، قال: "تعتقد هذه الأم بأن ابنها سيلتحق مباشرة بعد موته بالرفيق الأعلى". والاعتقاد هنا لا يفيد اليقين، بل يفيد الظن. وفي الباب نفسه يقول معتوب ساخرا: "سأتحدث أيضا عن الكحول، لا أرى لماذا يجب التوقف عن الشرب لأن كمشة من المتطرفين تريد أن تفرض علي شريعتها"؛ من هنا نلمس إشارته الخفيفة إلى تلك الوساطة التي يمثلها الإسلام السياسي في تبليغ الإسلام الحقيقي. * أما بعد أن وقع خلاف بينه وبين فرد من أفراد عصابته، فأصابه واعتقد أنه قتله، فقد كان سببا في وضعه تحت الحراسة النظرية لمدة 48 ساعة، واضطر المدعي العام إلى تسريحه باعتبار أنه قاصر. لكن ماذا فعل لوناس قبل انصرافه؟ لقد طلب من المدعي العام أن يقدم له سيجارة، فتراجع هذا عن قرار تسريحه فسجنه شهرا كاملا.
|
|