|
|
الأمازيغية ومفهوم التعدد والاختلاف بقلم: محمد أيت بود
إن ما يعوز العرب والمسلمين ليست الدراسات والمناظرات والموائد المستديرة والمنتديات الفكرية، بل الدراسات الجادة والموضوعية والمجردة، ذلك أنه في كل حركاتهم وسكناتهم كثيرا ما يتم تغليب الجانب العاطفي المرافق لشعور الانفعال وردود الأفعال، ما يجعل من كل ما ننتجه، خاصة إذا كان فكرا، مجرد فكر انفعالي ظرفي، لا يرقى إلى مستوى التطرق إلى الإشكالات الكبرى العويصة التي يتم التخبط فيها. لماذا معالجة هذا الموضوع بالذات؟ ذلك لأنه يتطرق لأحد الطابوهات التي تكرست في مجتمعاتنا، ولم يعد بمقدور أحد التطرق إليها دون أن يوصم بالانحياز لهذه الطائفة أو تلك، أو بكونه ينشد تمزيق الأمة وتفريقها و... الخ في أحسن الأحوال، إشكالية الطائفية هذه تنسحب على كل البلدان العربية والإسلامية، وأود هنا أن اسميها: "إشكالية التعدد والاختلاف"، بيد أن مصطلح الطائفية، مع ما يختزنه من حمولات بلاغية تتوغل في عمق إشكالية تدبير التعدد والاختلاف في مجتمعاتنا، إلا أنه يتضمن إلى جانب ذلك حمولات سياسية تحيل على إمكانية التطاحن وعدم الانسجام، أي الاختلاف الذي يؤدي إلى تنشئة كل فئة لتماثيلها الثقافية واللغوية والسياسية العاقائدية، في جزيرة معزولة داخل البلد الواحد، مما يجعل من عملية التواصل بين هذه الجزر الثقافية والسياسية والدينية والطائفية، عملية محفوفة بالعديد من المخاطر، في حين يختزن مصطلح:"التعدد والاختلاف" حمولات بلاغية، تحيل على إمكانية التعايش بين مختلف الطوائف السياسية واللغوية والسياسية داخل البلد الواحد في إطار الانسجام التام مع المبادئ الأساسية والعليا التي تأسس عليها هذا البلد أو ذاك، وفي إطار سلمي يتيح للجميع الاستفادة من الإمكانات المتوفرة سواء لدى الطرف الآخر، آو المتاحة ضمن مسافة معقولة تحافظ للجميع على نفس الحقوق ونفس الواجبات، لكن لا بد من تحقيق بعض الشروط، حتى يتحقق التعايش المنشود، فما هي هذه الشروط؟ في المجتمع الديمقراطي تنمحي بشكل نهائي كل الوسائط العاقائدية والإيديولوجية بين الفرقاء، ويصبح الوطن الواحد جنة الجميع، هنا يصبح الشرط الديمقراطي ضروريا لإعادة إنتاج العلائق بين الطوائف المشكلة للمجتمع أو للشعب الواحد، بحيث يصبح هذا الشرط ، بمثابة الأسمنت الذي يقوي الأواصر بشكل خلاق يساهم في تدبير التعدد والاختلاف، في إطار منظومة متكاملة من القيم لعل أبرزها بالنسبة للشرط الأول، هي قيمة المواطنة. ففي ظل مجتمع يؤمن بالتعددية ويسعى إلى تجسيدها على أرض الواقع لا بد من توفر شرط المواطنة، لن يبقى ثمة لعنصر القبيلة والعشيرة وأواصر الدم والقرابة السياسية واللغوية والعقائدية والطائفية أي دور يذكر في مجتمع المواطنة، لأن قيم الديمقراطية والمواطنة هي التي تجسد كل الأواصر، بل تختزلها وتختزنها بشكل خلاق، يجعل من المجتمع يقدس قيمة التعدد والاختلاف ويجعل منها الركيزة الأساسية للمجتمع الديمقراطي، عوض السعي إلى إضفاء التناغم والانسجام بين مختلف الطوائف بشكل قسري قد يؤدي في النهاية إلى التطاحن عوض التعايش والتضامن، هذا الشرط الذي أريد له أن يجسد قمة التدبير الديمقراطي في المجتمعات الراقية، لا بد له بدوره من مبدأ أساسي يسنده ويعضده ويقويه، إنه مبدأ التسامح، فبدون هذه الفضيلة لن يبقى لمفهوم المواطنة أي فاعلية، لأنه سيكون مجرد مفهوم تقني، يتم إقحامه في ثقافة المجتمع وأنسيته بشكل قسري قد يفرغه من محتواه الديمقراطي. لنتأمل كل الشعوب العربية والإسلامية، على الأقل المنضوية ضمن ما يطلق عليه مصصلح "العالم العربي"سوف نلاحظ أن الاختلاف هي السمة الغالبة في هذه الشعوب، ففي الوقت الذي يرى البعض أن هذه الإشكالية يجب أن تحل في إطار احترام حقوق الأقليات في العالم العربي، وهذا الرأي اختلف معه، اعتقد أن هنالك من يدعو إلى ضرورة حل هذه الإشكالية في إطار فلسفة التعدد والاختلاف، ذلك أن معيار الأقلية والأكثرية معيار دوغمائي وغير ديمقراطي، ويمكن أن يساهم في تكريس واقع النخبوية، أو واقع الصفوة داخل المجتمع الواحد، مما يتعين معه حل الإشكال كما اعتقد في إطار مفهوم نسبي هو مفهوم التعدد والاختلاف، الذي يفيد المساواة في الحقوق والواجبات، كما أن هذا المفهوم مشبع بشكل واضح بمبدأي الديمقراطية والمواطنة، الركيزتين الأساسيتين للمجتمات الحديثة. لكن هل نضجت الشروط السياسية والثقافية في مجتمعاتنا بشكل يجعل من مفهوم التعدد والاختلاف مفهوما سلسا سهل التبني والتطبيق؟ دون السقوط في المطبات السياسية والألغام العقائدية والإيديولوجية التي تقف حجر عثرة أمام تحقيق هذا المفهوم؟ أعتقد أن الجواب سوف يكون بالنفي، ذلك أن أي مجتمع من مجتمعاتنا يحمل في طياته بذور الفتنة الطائفية التي قد تأتي على الأخضر واليابس، هنا وجب التنبيه إلى كوني لست متشائما، بل لكوني أدعو إلى الاستفادة من دروس التاريخ جيدا، هذه الحقيقة التاريخية لا تتعالى على الواقع، كما أن الواقع لا يرتفع عن هذه الحقيقة التاريخية، والتي تفيد أن المجتمعات العربية، لا تزال بعيدة جدا وكليا عن استيعاب دروس الديمقراطية والمواطنة بالشكل الذي قد يساهم في تفكيك منظومة الفكر الطائفي، وتكريس مفهوم العدد والاختلاف. وبالنظر إلى الطرح الذي طرحت به الأمازيغية في المغرب على سبيل المثال لا الحصر، فإن ثمة طرحين، طرحا في إطار السجال الثقافي والسياسي مع خصوم الأمازيغية بعيدا عن كونهما طرحا في إطار مقاربات علمية موضوعية ومجردة، ذلك لأن الخصوم الألداء للأمازيغية لم يتركوا لها فرصة لالتقاط أنفاسها وبعد ذلك معالجة الموضوع معالجة علمية ونقدية، وإبراز مكامن الخلل التي قد تصاحب هذا الطرح أو ذاك، فما هما هذان الطرحان؟ الطرح الأول، يمكن التطرق إليه على أنه طرح في إطار مجموعة "الاختيار الأمازيغي"، هذا الطرح ينطلق من فرضية الهوية المتجانسة للمغرب، والتي يفترض بإجراء استقراء للتاريخ أنها أمازيغية وبالتالي يطالب هذا الطرح بإعادة الاعتبار للهوية الأمازيغية من منطلق أنها الهوية الحقيقة للمغرب والمغاربة. ومع ذلك فإن هذا الطرح لا يستبعد أن تكون الأبعاد الأخرى المشكلة للهوية المغربية (البعد الإسلامي، البعد الأندلسي، البعد الإفريقي) روافد لهذه الهوية الحقيقية، أي جعل الصورة معكوسة لما هو كائن الآن بحيث، جعل أقطاب الحركة الوطنية وحزب الاستقلال من العروبة والإسلام الهوية الأساسية للمغرب وتهميش المكونات الأخرى، خاصة الأمازيغية، وفي إطار التكتيك السياسي، في السنوات الأخيرة، وأمام المطالب الملحة للحركة الأمازيغية، المستندة للنضالات ذات الخلفية الاحتجاجية، بدأ الحديث عن روافد الهوية العربية الإسلامية وهي(البعد الأمازيغي-البعد الأندلسي- البعد الإفريقي)، وهي محاولة لامتصاص فاعلية الخطاب وحركة الاحتجاج الأمازيغية، وإبطال مفعولهما في الشارع، والوجدان الأمازيغي، خاصة عند النخب المتعلمة والمثقفة. أما الطرح الثاني فهو الطرح الذي ينشد التعدد والاختلاف (النخب العاملة داخل الايركام). هذا الطرح يؤمن بدينامية مفهوم الهوية وتجدده وتطوره، وبالتالي المطالبة برد الاعتبار للبعد أو المكون الأمازيغي في إطار مجتمع يؤمن بالتعدد والاختلاف ويجيد تدبيرهما، فهذا الطرح لا يؤمن بالهوية الخالصة سواء الأمازيغية أو العربية- الإسلامية أو الإفريقية والأندلسية، إنه طرح توفيقي ديمقراطي، يجعل من قيمة المواطنة الركيزة الأساسية للمجتمع المغربي الحديث الذي يتعايش فيه الأمازيغي إلى جانب العروبي والصحراوي والأندلسي، في أطار الاحترام المتبادل للخصوصيات اللغوية والثقافية لكل طرف على حدة، وهذا الطرح مع ما يطرحه من تحدّ ليس فقط للعنصر الأمازيغي الذي يطالب برد الاعتبار إلى كينونته، بل وكذلك للطرف الآخر الذي يحاول الالتفاف على هذه المطالب، وبالتالي جعلها مجرد مطالب ثانوية وعبثية لا ترقى إلى مستوى المطالب الملحة للمجتمع في التنمية والخبز والمأوى، فإن هذه المعالجة من المنظور التنموي لا تعدو أن تكون سلاحا إيديولوجيا، يقوم وبعناية فائقة باستبعاد الإشكالية اللغوية والثقافية من صلب اهتمامه، استعدادا للانقلاب عليها والالتفاف عليها فيما بعد ، وكأن الإشكالية الثقافية واللغوية في مجتمع متعدد كالمغرب لا تندرج ضمن الرهانات التنموية الكبرى للمجتمع، بيد أنه لو كان بالمقدور فصل الإنسان عن قيمه الرمزية (اللغة-الثقافة-الفنون) لأمكن الحديث عن فصل هذا الإنسان عن محيطه السوسيوـاقتصادي، وبالتالي إمكانية فصل الأنشطة المدرة للدخل عن محيط هذا الإنسان، وذلك غير ممكن على الإطلاق، لأن الأنشطة المدرة للدخل يمارسها هذا الإنسان الأمازيغي في قلب ممتلكاته الرمزية وبواسطة لغته وثقافته، ما يجعل من العملية التنموية كلا لا يتجزأ، يجب أن تتطافر فيها كل الإمكانيات المادية والرمزية والبشرية، آنذاك فقط يمكن أن نتحدث عن مجتمع يجيد تدبير مفهوم التعدد والاختلاف.
|
|