|
|
ضرورة اندماج الجاليات العربية والفرنسية واليهودية في الهوية الأمازيغية بالمرّوك بقلم: مبارك بلقاسم
من الحقائق المؤكدة أن بلاد الأمازيغ قديما وبلدان تامازغا الحديثة (المرّوك، الدزاير، تونس، ليبيا...) استقبلت أعدادا كبيرة ومتنوعة من المهاجرين الأجانب الباحثين عن العيش أو الأمان أو الثروة أو حتى النهب والسلب والحكم. فاليهود أتوا طلبا للأمان. والفينيقيون جاؤوا إلى بلادنا الأمازيغية طلبا للثروة. والرومان الغزاة اقتحموا أرضنا طلبا للثروة والحكم والمجد قبل أن يُطردوا بحد السيف من طرف الأمازيغ. والعرب الأمويون جاؤوا بحد السيف طلبا للثروة والحكم تحت غطاء نشر الإسلام، قبل أن يُطردوا بحد السيف أيضا من طرف الأمازيغ. أما القبائل العربية التي هاجرت إلى بلاد الأمازيغ فيما بعد فقد أتت في أغلبها طلبا للعيش والأمان هربا من القحط والجفاف في شبه الجزيرة العربية. وجاء الغزاة الفرنسيون والإسبان والإيطاليون طلبا للثروات والحكم والمجد فلم يلبثوا أن طردهم الأمازيغ مثلما طردوا أسلافهم الرومان. على مدى التاريخ، نلاحظ أن مصير الغزاة والمحتلين الذين اقتحموا بلاد الأمازيغ كان دائما الاندحار أمام المقاومة الأمازيغية العسكرية الشديدة التي كسرت شوكة الاحتلال مرارا وطردته تكرارا، سواء بحد السيف والرمح قديما أو بالبندقية والبارود حديثا. أما المهاجرون الأجانب الذين دخلوا بلاد الأمازيغ مسالمين فقد تمتعوا بالاستقرار والأمان إلى يومنا هذا. جرد الجاليات المهاجرة الأجنبية بالمروك: توجد بالمملكة المروكية حاليا أعداد كبيرة من الجاليات المهاجرة الأجنبية بعضها متمايز ثقافيا. الجزء الأكبر منها هاجر إلى تامازغا منذ قرون والجزء الآخر هاجر إليها منذ عقود فقط. 1)الجالية اليهودية: هي ربما أقدم جالية أجنبية متمايزة ثقافيا هاجرت إلى بلاد شمال أفريقيا الأمازيغية. هاجر اليهود إلى بلاد الأمازيغ بعد سقوط مملكة إسرائيل تحت الاحتلال الروماني عام 70 ميلادي. اندمج اليهود الوافدون بشكل عميق في الهوية الأمازيغية عبر تبنيهم اللغة الأمازيغية والتقاليد الأمازيغية الأصيلة. أما الكهنة الدينيون اليهود فقد احتفظوا بالتراث الديني العبراني اليهودي عبر قرون. تبنى اليهود اللغة الأمازيغية بشكل أتوماتيكي لأن السلطة كانت أمازيغية آنذاك بيد قبائل أمازيغية أو ملوك أمازيغ ولأن المحيط المجتمعي كان أمازيغيا صرفا في شمال أفريقيا. كانت بلاد الأمازيغ في بعض الفترات التاريخية تضم واحدا من أهم التجمعات اليهودية في العالم. حاليا توجد أعداد قليلة جدا من اليهود بالمروك بعد أن هاجرت (أو هربت من الاضطهاد العروبي) الأغلبية العظمى إلى أوروبا وأميركا وإسرائيل. خلال الاحتلال الفرنسي للمروك ظهرت نخبة صغيرة من اليهود الأمازيغ المعربين اختارت أن تتبنى الفرنكوفونية والعربية والتنكر للهوية الأمازيغية. وهكذا تم تأسيس بعض المدارس اليهودية الفرنكوفونية فتشكلت بعض النخب الفرنكويهودية لا يربطها شيء مع الهوية الأمازيغية. ورغم العدد الضئيل جدا من اليهود ببلادنا اليوم، ما زالت هناك بضعة مدارس يهودية في الدار البيضاء تدرس الفرنسية والعبرية والعربية متجاهلة اللغة الأمازيغية تجاهلا كاملا. 2)الجالية العربية: بعد أن تم طرد الأمويين من بلاد الأمازيغ، تأسست ممالك أمازيغية قوية وغنية ومستقرة هاجر إليها العرب في شكل هجرات جماعية لقبائل بأكملها هربا من القحط والجفاف في صحارى غرب آسيا وأيضا هربا من الاضطهاد السياسي من طرف القبائل والعشائر المنافسة لها في بلاد العرب آنذاك. وبسبب مكانة العربية في الإسلام والقيمة المضافة لها كلغة القرآن الكريم تعامل الأمازيغ مع اللغة العربية والمهاجرين العرب بنوع من التبجيل والتقديس، فلم ينصهر معظم المهاجرين العرب في الهوية الأمازيغية رغم أن السلطة آنذاك كانت في يد ملوك أمازيغ وقبائل أمازيغية. وما حدث هو أن الأمازيغ آنذاك تنازلوا عن جزء من سيادتهم اللغوية والثقافية لصالح لغة القرآن. وهذا ما أفسح المجال لتطور لغة هجينة عربية أمازيغية هي العربية المغاربية بلهجاتها المختلفة وأصبحت تستخدم على المستوى الشعبي وتنافس اللغة الأمازيغية في عدد من المناطق. ومن الحقائق التاريخية أن هذه الهجرة العربية لم تؤثر على سيطرة اللغة الأمازيغية على معظم مناطق شمال أفريقيا. والتعريب الذي نراه الآن لم يبدأ إلا في وقت جد متأخر وبفضل الاستعمار الفرنسي ودولة ما بعد 1956 في معظم الحالات. وهذه الحقائق تناقض بشكل قاطع ما يدعيه بعض المثقفين والمؤرخين المروكيين من أن اللغة العربية انتشرت في بلادنا منذ دخول الإسلام. ويمكنني أن أقول بثقة بأنه لولا الاستعمار الفرنسي لما استعربت بلادنا بهذه الدرجة ولكانت نسبة الناطقين بالأمازيغية لا تقل عن 90% من السكان.ولا يمكن أن نصنف قرار الملوك الأمازيغيين الموحديين المسلمين بجعل أذان الصلاة بالأمازيغية إلا كتصرف سياسي منطقي يناسب الحقيقة على الأرض ألا وهي وجود اللغة والهوية الأمازيغيتين. والنداء للصلاة بالأمازيغية كان طريقة مناسبة لتمزيغ الإسلام وتقريبه إلى البسطاء والعامة وربطه بالأرض الأمازيغية وفصله عن العروبة. وعلى سبيل المثال كان الملك الأمازيغي عبد المومن بن علي الكومي يلقي خطبة الجمعة باللغة الأمازيغية. وكانت الأمازيغية هي لغة السياسة في عهد المرابطين والموحدين. كما أنه من المعروف أنه كانت هناك محاولات جادة لإنجاز ترجمات (جزئية أو ربما كاملة) للقرآن الكريم والعبادات إلى اللغة الأمازيغية منذ فجر الإسلام في تامازغا الغربية (مملكة بورغواطة، وقبائل غومارة). إلا أن هذه الترجمات تم إحراقها وطمسها. وتبقى مملكة بورغواطة وقبائل غومارة أقوى مثالين عن الرغبة في صياغة “إسلام أمازيغي” يبتدئ بترجمة القرآن وتمزيغ العبادات الإسلامية وينتهي بالحفاظ على الهوية الأمازيغية وحمايتها من عبث الأجنبي. ورغم أن أغلبية سكان المروك، اليوم، أمازيغ سواء على مستوى اللغة أو على مستوى العرق والبيولوجيا (حمض الـ DNA)، إلا أنه من المعقول الحديث عن وجود “مواطنين عرب” في المرّوك مثلما أن هناك أيضا “مواطنين يهودا” و”مواطنين فرنسيين” مقيمين بشكل دائم بالمروك (مع الانتباه إلى أن الأرض تبقى دائما أمازيغية وينتمي لها الجميع). فمعظم القبائل العربية التي هاجرت إلى المروك لم تغادر البلاد منذ ذلك التاريخ وأيضا اللغة العربية الدارجة بتنوعاتها مستخدمة على نطاق واسع في العديد من مناطق المروك. أيضا هناك مسألة الاختيار الشخصي التي تتمثل في أن يختار مواطن مروكي معين أن يكون ذا “هوية عربية” وليس أمازيغية، بصرف النظر عن كون ذلك منطقيا أم لا. في هذه الحالة يمكنه أن يكون ويبقى عربي اللغة والهوية وأن يورث “عروبته” لأبنائه، رمزيا على الأقل. ولكن لن يكون من المنطقي أن يفرض “هويته العربية” على الشعب الأمازيغي وإلا كان هذا استعمارا. والشيء الوحيد الذي يجب على ذلك “المواطن العربي” فعله هو تعلم اللغة الأمازيغية التي هي اللغة الأصلية والشرعية للبلاد والقيام بواجبات المواطنة الأمازيغية التي تمليها الهوية الأمازيغية الأصلية والجامعة، أي أن يندمج في المجتمع الأمازيغي ويصبح جزءا منه. فالهوية الأمازيغية تتحدد بالانتماء للأرض أولا وأخيرا، وبناء على هذا فإن كل المروكيين أمازيغ مهما كان لونهم أو عرقهم أو سلالتهم أو دينهم أو أسماؤهم أو حتى لغتهم. 3)الجالية الفرنسية: جاءت الجالية الفرنسية مع الاحتلال الفرنسي للمرّوك وعمليات الاستعمار والاستيطان التي أعقبته مباشرة. بعد أن استكملت فرنسا عملية الإخضاع العسكري للمروك، وهي عملية استغرقت 27 سنة من المعارك المتواصلة ضد القبائل الأمازيغية من 1907 إلى 1934، قامت فرنسا بتفكيك البنية الاقتصادية الأمازيغية التي كانت تغذي المقاومة. وانسجاما مع أهدافها الأساسية المتمثلة في الاستغلال الاقتصادي قامت فرنسا بأكبر عملية نهب للأراضي الزراعية الأمازيغية التي انتزعتها من الأمازيغ ومنحتها للمستوطنين الفرنسيين والشركات الفرنسية. وبعد استقلال المروك عام 1956، بقي عدد من المستوطنين الفرنسيين بالمروك رغم رحيل أغلبيتهم مع السلطات الفرنسية. هؤلاء الفرنسيون المقيمون ببلادنا احتفظوا بهويتهم ولغتهم الفرنسيتين ولم يحاولوا الاندماج في المجتمع الأمازيغي أو تعلم اللغة الأمازيغية. والسبب الرئيس في هذا هو أن الدولة المروكية شجعتهم على بقائهم فرنسيين، حيث إن الجميع يتكلم الفرنسية معهم. واليوم نرى العديد من الفرنسيين يتوافدون على المروك للتدريس في الجامعات والمدارس العليا أو لشغل مناصب في الشركات أو للاستثمار طويل الأمد أو للاستقرار الدائم، فضلا عن السياح الذين يزورون بلادنا بشكل سنوي ومنتظم. هؤلاء الأجانب لا يبذلون أي مجهود للاندماج في الهوية الأمازيغية لأنهم لا يرون ضرورة في ذلك، حيث إن الدولة المروكية تبذل كل ما في وسعها لجعلهم يشعرون أنهم في بلد فرنكوفوني خالص. فلوحات المرور والإشهار في الشوارع، والوثائق الإدارية، والإعلام المروكي المكتوب والمسموع والمرئي، والتعليم العالي والحياة الاقتصادية...إلخ كلها تتكلم الفرنسية. فلم ستسعى الجالية الفرنسية إلى الاندماج في الهوية الأمازيغية وكل شيء حولهم مفرنس؟!الاندماج.. واجب على الأجنبي أم على المواطن؟! نلاحظ اليوم أن كل بلدان العالم المتحضرة تفرض على المهاجرين إليها الاندماج في هويتها وتعلم لغتها من أجل أن يكونوا مواطنين صالحين قادرين على الاندماج في المجتمع، وعلى خدمة مصالح بلدهم الجديد الذي اختاروه بمحض إرادتهم وتخلوا من أجله عن بلدهم القديم الأصلي. أما الدولة المروكية فقد عكست الآية تماما. أي أن الدولة تفرض على سكان البلاد الأمازيغ الاندماج في هويات أجنبية عربية وفرنسية بدل أن يندمج الأجانب العرب والفرنسيون واليهود في الهوية الأمازيغية (!!)، وكأن الدولة المروكية تعتبر الأمازيغيين أجانب مهاجرين إلى بلد “فرنكوعربي”. وهكذا تصبح لغة وهوية الأجنبي هي المرجع والقاعدة ولغة وهوية وثقافة صاحب الأرض استثناء فولكلوريا في أحسن الأحوال، يصلح للتنشيط السياحي.الاندماج وخرافة “التعدد” و”الانفتاح”: يحلو لكثير من المسؤولين الرسميين وأيضا المثقفين والصحفيين العروبيين ترديد عبارات “التعدد” و”تقاليد التسامح والانفتاح العريقة” التي ميزت الشعب المروكي عبر قرون. ولا يخفى على المتأمل لهؤلاء أن غرضهم من ذلك هو توطين وشرعنة الهويات والثقافات الأجنبية الفرنسية والعربية واليهودية على حساب الأمازيغية. وذلك بجانب رغبة النظام المروكي تسويق صورة البلد المنفتح والمزدهر لدى الحكومات الغربية. فرغم أن “التعدد” و”الانفتاح” و”التسامح” قيم إيجابية نبيلة لا جدال حولها، إلا أن الكيفية التي يتم بها تسويق هذه المفاهيم والقيم حول بلادنا تجعل مقولة “حق يراد به باطل” تنطبق بصدق على تلك المفاهيم والقيم. فالتعدد والتسامح والانفتاح حق يراد به باطل ألا وهو محو الأمازيغية وتهميشها أمام ما هو أجنبي وافد. ويراد بها أيضا الكذب على الشعب وعلى العالم، ونسج صورة براقة كاذبة عن البلاد. والدولة المروكية تكذب نفسها بنفسها كل يوم وكل لحظة بسبب عدم “تسامحها” وعدم “انفتاحها” على الهوية الأمازيغية واللغة الأمازيغية وأسماء المواليد الأمازيغية.إن عدم اندماج الجاليات المقيمة ببلاد المروك في الهوية الأمازيغية ليس فقط مظهرا من مظاهر اختلال الوضع السياسي بالمروك، بل إنه مهدد لوجود الأمازيغية نفسها لأن الهويتين واللغتين الأجنبيتين العربية والفرنسية تتمتعان برعاية الدولة وإنفاقها المالي المنتظم والضخم. وهذا يجعل الهويتين الأجنبيتين العربية والفرنكوفونية في موقع قوة هائل يهدد بإزالة الهوية واللغة الأمازيغية من الوجود بالتدريج بواسطة مسلسل التعريب والفرنسة الممأسس. ولا يمكن أن نغير هذا الشذوذ السياسي الموجود في الدولة المروكية إلا بالعمل السياسي الديموقراطي المفضي إلى وصول أصحاب الأرض الأمازيغ إلى السلطة، وذلك لتحويل الدولة الفرنكوعربية الحالية إلى دولة أمازيغية ديموقراطية علمانية، مستقلة عن فرنسا والشرق الأوسط استقلالا كاملا. ولا توجد أية صيغة سحرية للتغيير. فلا البيانات والشعارات الحماسية تؤثر في الدولة، ولا سياسة الارتماء في أحضان المخزن أو التزلف للقصر ستؤدي إلى حصول الأمازيغ على حقوقهم كاملة وبالتالي تمزيغ الدولة ودمقرطتها. ولكن العمل السياسي الديموقراطي (في إطار أحزاب سياسية أمازيغية) هو القادر على إحداث التغيير المنشود على أرض الواقع وإعادة الحقوق المادية والمعنوية المغتصبة إلى الشعب الأمازيغي في بلاد المروك والبلدان الأمازيغية الأخرى. ومما لاشك فيه أنه حينما تقبض الأغلبية الأمازيغية على السلطة (بالوسائل الديموقراطية) وتحول الدولة الحالية إلى دولة أمازيغية ديموقراطية، فإن الجاليات الأجنبية ستسعى من تلقاء نفسها إلى الاندماج في الهوية الأمازيغية وتعلم اللغة الأمازيغية حتى لا تصبح نشازا في المجتمع.
|
|