|
|
وقفة
تأملية في المسيرة الفنية لمولاي علي شوهاد*
بقلم: الطالب عبد الرحمان بن المختار الوجاني بداية نود أن نعبر عن مشاعر الفرح والابتهاج التي تغمرنا، نحن مريدو وجمهور الفنان علي شوهاد ومجموعته أرشا ش، بمناسة تكريمه بمسقط رأسه "أغيل أبركاك". إنها مبادرة من أجل الذات الأمازيغية المتصفة بالإبداع والعطاء في مختلف الميادين الفنية، الاقتصادية والعلمية من أجل بناء مجتمع متحضر ومتخلق. هذه الذات التي يتجسد أحد نماذجها في شخص المحتفى به. ورغم أن هده المبادرة غير كافية، إلا أن أهميتها تكمن في كونها منطلقا لتكريم وطني ورسمي نتطلع إليه يوميا بشوق عظيم، كما أنها نظمت في مسقط رأس الفنان، في موطن الكلمة الشعرية، وفي هذا دلالات رمزية عميقة، وحمولة طاقية معنوية للفنان ولجمهوره. علي شوهاد هو مما لا شك فيه من القادة التربويين للمجتمع المغربي ومن بين الشخصيات الأكثر تأثيرا فيه، أعطى الشيء الكثير لوطنه، فهو مبدع في أكثر من ميدان، شاعر، ملحن، مطرب، سينمائي. وأنا أتصور لو أن أمة من الأمم التي تقدر الإبداع تتوفر على مثل هدا المبدع كيف ستحتفي به؟ وهنا أود أن أشير إلى إحدى هذه الأمم، وهم الفرس (الأيرانيون) الذين عرفوا بتقدير ثقافتهم إلى درجة التقديس، فقد جعلوا للشعر الفارسي أنبياء ثلاثة، وهم فردوسي وأنوري وسعدي، ورفعوا عمر الخيام إلى درجة الحكماء والفلاسفة، لمادا؟ لأنهم بكل بساطة حراس ثقافتهم وضامنو وجودهم واستمرارهم. فلماذا نحن الأمازيغ لا نقدر شعراءنا وأعلامنا، ولا نهتم بتاريخنا وتراثنا، فنحن فعلا لا نحترم أنفسنا، ولهدا فالمسؤولية تقع على عاتقنا فيما وصلنا إليه من تهميش واستلاب، وهنا أتذكر قولة لعلي شوهاد سمعها عن أحد اليهود بالدار البيضاء مفادها "بنو إسرائيل يقتلون الأنبياء والعرب يقتلون الصحابة الأئمة والأمازيغ يقتلون الفنانين". وإذا رجعنا إلى علي شوهاد فإنه يستحق أكثر من تكريم واحد، في الشعر، في التلحين، في الغناء وغيرها من صنوف الإبداع التي تضلع فيها الرجل وبرزت من خلالها عبقريته. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو ما سر هذه العبقرية وهدا النجاح في مسيرة الرجل؟ مما لاشك فيه أن الرجل من سليل عائلة معروفة بالزعامة الدينية والأدبية بمنطقة أبركاك، فكانت هذه العائلة منبعا للكلمة المسموعة والحكمة الساطعة، فقيل عنهم "إن غلان أيت عثمان لا بد أن كيس تانيت توفاوت، اغ أورتكا تاشمعت تك تكات اسرغان ألون"؛ وقيل عنهم أيضا "أيت عثمان يا ت تالونت راتنيد كولو تسمون يا ت غوييت راتن كولو تبضو" وإلى جانب الظروف العائلية هناك كذلك تأثير عامل البيئة المحلية بأبركاك، هذه البيئة المشهورة بليالي أحواش وتستقطب كبار شعراء أسا يس ويضرب بها المثل في قرض الشعر في كل مناطق سوس. ثم تأتي التجربة الحياتية لعلي شوهاد وما شهدته من أفراح وأتراح، ومعاناة وغربة مند صغر سنه، وانفتاح على أجواء وشخصيات جديدة خاصة بالدار البيضاء، فقد قال في حوار مع إذاعة "فرنسا-المغرب"سنة 1992 بأن مدرسته الكبرى في الحياة كانت الدار البيضاء، وأنه كان محظوظا لأنه التقى بشخصيات جديدة ومختلفة. وهذه عوامل من بين عوامل أخرى ساهمت في تشكيل الشخصية الشوهادية المتسمة بمجموعة من المبادئ والصفات جعلتها تحقق هدا النجاح، فما هي بعض هذه المبادئ والصفات؟ أول شيء ستكتشفه في شخصية شوهاد هو الصراحة والصرامة، فهو يقول كل ما يقتنع به من أفكار وسلوكات دون نفاق ولا تملق، ويرفض كثرة المجاملات، واثق من نفسه ثقة ثابتة وراسخة، وهذه الصفة ملازمة له مند صغره، فمما أخبرني به أنه كان يقول أشعارا في أسايس في سن الطفولة تثير استغراب كبار الشعراء. ومما قاله: "أداك أورتنت مزيخ أورنسين ايا ت، هان ايسان أد مزينين حرا صمرن ويسا ايكنوان أغاد سنفالن تيقار،يان أوتن أور سولاد اتكمال أح أييم"؛ وقوله: "غلي دودرار نا دارك أورلكمن وامان تبنوت فلاس أغوليد أور ايميل أياتوي أدك منيد نتيدينو أسرك نساوال اما غيل واحق ربي ان أراون سلاخ". من هذه الأمثلة يتبين لنا مدى جرأة الفنان وتقديره للذات مند صغره. ولمبدأ الحرية حضور مركزي في فكر الفنان وسلوكه، فهو متحرر من القيود ويسعى دائما إلى تحرر أكثر في قوله وإبداعه، يرفض الطقوس والبروتوكولات ولا يرتاح إليها، بل نجده يرفض حياة النظام والتنظيم باعتباره شكلا من أشكال ضبط الحرية وتقييدها، ويفضل حياة الفوضى والارتجال، ويعتقد بأن تحرره هو من كان وراء عبقريته، معروف بقولته "تحرر تبدع". وهناك تجليات كثيرة للحرية في شعره، كقوله"بسم الله أنارم ادوكان لجديد اصلحن، أرنتاكل افركان أرداك زريخ لحدود نسيح،نسور في اوتا داس تنام أوريكا شرع احرم،نكيس اسكراف ايمنو نيخ لمفيد نساول"، وتعد قصيدة "تيموزغا"من أبرز تجليات الحرية في شعره. أما صفة التواضع فهي أجلى هذه الصفات، رغم أن البعض يرى أنه متكبر، إلا أننا نقول لهم "ادل ييغد أسافو دلن وامان اسلمان،ادل ييلس لمحبا أولا كيي ألمان"، إنهم لم يتعرفوا عليه عن قرب ولم يفهموا شخصيته المعقدة، فهو كما قلنا لا يكثر من المجاملات وصارم في خطابه. ويتجلى تواضعه في حبه مجالسة البسطاء من الناس ومداعبتهم، ومساعدتهم ماديا ومعنويا، ويجعلك تشعر بالحرية وسعة الصدر حين تجالسه دون الشعور بهاجس "النجومية" ودون الإحساس بالدونية أمامه كما يحصل عند مجالسة نجوم من عياره، كما أنه إنسان زاهد في الدنيا لم يركب على ظهر الفن ليلج إلى عالم التجارة والأعمال، بل كرس حياته لخدمة الكلمة والموسيقى الأمازيغية دون أن ينتظر وراء ذلك منصبا ولا ثروة، وهذه في نظري من بين العوامل التي جعلته يحظى بالاحترام والتقدير سواء من قبل أصحاب الدنيا أو من قبل جمهوره العريض، وصدق النبي(ص) "ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس". ثم إنه لا يحب كثرة الظهور في وسائل الأعلام، ولا يسعى إلى التقرب إلى أصحاب السلطة واستجدائهم، لهذا نلاحظ أن المسيرة الفنية لمجموعة أرشاش لم تصاحبها ضجة إعلامية أو نوع من الالتفات لأصحابها، لأنهم أولا مجموعة أمازيغية، والإعلام أقصى الأمازيغية، وثانيا لأنهم كما قال شوهاد في حوار صحفي-1-،لم تكن لهم علاقات زبونية مع المسؤولين. إذن يمكن أن نقول بأن الفنان ليس من الذين يتقنون فن العلاقات العامة وفن الاستجداء إلى المسؤولين، كما هو الشأن لبعض أنصاف الفنانين الذين يسكنون الإذاعات والندوات والمهرجانات، ولهدا فهو لم يرشح لجائزة ثقافية ولم يكرم إلى حد الآن هو ومجموعته تكريما يليق بمستواهم، مع أنه بمنطق العقل وبمبدأ السبق الفني يستحقون أعلى جائزة في الوطن، لقدرتهم على العطاء في الميدان ما يناهز ثلاثة عقود من الزمن، وبإبداعات أصيلة، في حين تعثرت مسيرة عدد من المجموعات المشهورة والمحترمة، وبقيت أرشاش تتحف جمهورها بشريط على الأقل كل سنة وبمعدل أربع أو خمس قصائد لكل شريط و15 بيتا شعريا أو أكثر لكل قصيدة وبألحان وإيقاعات جديدة، ولم تتأثر بغياب بعض أعضائها بالموت أو بغيره، هذا إلى جانب الإبداعات الخاصة بعلي شوهاد أو المرحوم عبد الكبير شوهاد أو مولاي براهيم اسكران. والأمر نفسه فيما يتعلق بالحياة الثقافية، فلم يتناوله أحد من الكتاب ولم يطرح موضوعا لرسالة جامعية، بينما نجد من هو أقل منه يحظى با لتفاتة المسؤولين والباحثين، ويصاحبهم ضجيج إعلامي أكبر منهم، وصدق علي شوهاد حين قال: زايد أودي زايد أوكان ماد أزرك اطافن توشاف لاحاس مايزاض زايد أودي زايد أوكان ماد أزرك أور أطافن توشاف سول أركا ازاض وتبقى شخصية شوهاد شخصية مركبة تجمع المفارقات والمتناقضات، وتختلف تماما عن الشخصية العادية، فأحيانا يبدو هادئا وحكيما وأحيانا يبدو مضطربا ومجنونا، إنها مفارقات تذكرنا بتلك الموجودة عند الفلاسفة والحكماء والمتصوفة (أبو العلاء المعري، نيتشه، ابن عربي...) وهذا مظهر من مظاهر العبقرية والفن الحقيقي. ولهدا نجد في إبداعات شوهاد إلماما وإحاطة بمختلف المشاعر الإنسانية، ويتميز بقدرات هائلة في التعبير عنها وكأنه طبيب نفساني، وهي بالمناسبة مشاعر معقدة يصعب التعبير عنها بسهولة ودقة، بل لا بد لها من كلمات بليغة وصور شعرية فائقة، وألحان نافدة إلى الأعماق ثم أداء موسيقي وصوتي متناغم، وبدون إتقان هذه العناصر الفنية لا يمكن النفاذ إلى أعماق الذات وملامسة روحها الخفية، لأن هناك مشاعر لن تعبر عنها الكلمة لوحدها، بل لا بد لها من لحن ليقوم بذلك، وهناك أخرى لا يمكن التعبير عنها إلا بالنبرة الصوتية ومخارج الأصوات، وهناك مشاعر أخرى لا تستوعبها إلا الموسيقى من عزف وإيقاع. وهذا ما نجحت فيه مجموعة علي شوهاد نجاحا باهرا لأنها تولي عناية خاصة للقالب الفني والإخراج الموسيقي للقصيدة في شكل أغنية مميزة وهو ما يعطي للفنان فرصة التحكم في مشاعر المتلقي والتعبير عنها أحسن تعبير، لدرجة قد يصبح فيها الشاعر/المغني هو الذي يجسد المشاعر الملتهبة في داخل المتلقي، فيحصل التماهي بين الشاعر والمشاعر، وهو ما يؤدي إلى استيعاب أقواله وحكمه. وكنتيجة طبيعية لهدا الإتقان الفني، نجد لدى علي شوهاد ومجموعته جمهورا عريضا بين فئات اجتماعية متنوعة، المثقفين، العوام، رجال الدين، الشباب، الشيوخ، الرجال، النساء، بل نجد أناسا لا يفهمون ما يقوله أو لا يعرفون الأمازيغية يتأثرون بأغانيه لدرجة الخشوع. وهذه العلاقة الموجودة بين علي شوهاد وجمهوره هو الشكل الصحيح الذي ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الفنان وجمهوره، لأنها تخول للفنان القيام بتهذيب ذوق الجمهور والسمو به نحو الجمال الحقيقي، دون أن يتأثر هو بآراء الجمهور، لأن أحكام الجمهور ليست دائما صائبة، ففي الواقع حيث انعدام التربية الموسيقية واكتساح الفن الساقط مضمونا وشكلا، وهذه الرؤية يؤمن بها شوهاد إيمانا قويا، حيث قال في تقييمه للجمهور: "تاوميزط نتزوا توف شواري ييزان"، وعندما سئل لماذا لا يفهم كثير من الناس ما يغنيه، أجاب بطريقة الشاعر العربي أبي تمام، عندما سئل لماذا لا تقول ما نفهم، فقال لهم ولمادا لارتفهمون ما أقول، كما نجد نقدا حادا للفن الرديء وجمهوره في أغلب أغانيه خاصة في قصيدة "20أوسكاس"، قصيدة "انفلاس نومارك" وقصيدة "لعين ايواليون". إذن فمجموعة أرشاش هي مدرسة للتهذيب والتربية الفنية للجمهور يدرس بها عمالقة كبار في الفن، من طراز الحسين وخاش، إبراهيم اسكران، المرحومين الهراس وعبد الكبير، أكرام وعلي شوهاد، هذا الأخير الذي له الدور الحاسم في المسار الذي اتخذته، فهو إلى جانب وعيه وتربيته الفنية، يلمع بمجموعة من المواهب، كسرعة الحفظ والذاكرة، وتميزه بالصوت الشجي والسليم من الشوائب، وتوفره على شخصية عصامية، ويكفي مجالسة الرجل مرة واحدة لاكتشاف هذه العصامية، ففي مجلسه يمكن تناول أي موضوع وبنقاش ممتع، في الدين، في الفلسفة، في السياسة، في الأدب، في السينما... إذن فهو صورة الفنان الأمازيغي النموذجي، الذي استوعب تراثه المحلي وفي نفس الوقت منفتح على التخصصات الفكرية الأخرى، إذن نحن أمام ثنائية البادية/المدينة، الأصالة/الحداثة، وهذه الثنائية يؤمن بها شوهاد بشدة، ففي لقائه مع راديو (فرنسا-المغرب)سنة 1992، قال بأن الشاعر في الثقافة الأمازيغية هو المثقف والمفكر والصحافي، وأشار بأن الذي يأتي دون أن يعي ذاته وواقعه ليمارس الفن، لا يمكن له أن يكون فنانا ناجحا، وشبه حال بعض أنصاف الشعراء بالبناء الذي يعرف تقنية البناء لكنه لا يملك تصميما هندسيا، ولا يتوفر على لبنات قوية، حيث يفتقد إلى الرصيد اللغوي والمعرفي اللازم لذلك، وهذا يذكرني بفكرة مهمة لأبن خلدون أشار إليها في "المقدمة" في معرض حديثه عن الشعر، حيث قال "وليجتنب الشاعر أيضا الحوشي من الألفاظ والمقعر، وكذلك السوقي المبتذل بالتداول وبالاستعمال فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة، فيصير مبتذلا ويقرب من عدم الإفادة...". وفي تميز التجربة الشعرية والفنية لعلي شوهاد، يقول الأستاذ براهيم أوبلا في إحدى مداخلاته الصحفية-2-"أن عبقرية علي شوهاد تتجلى في طريقة معالجته للقضية بالكلمة، وفي أصواته المتناغمة وتحكمه العجيب في النبرة، حتى أن هذا الجنون الفني يسيطر عليه في طريقة إبدائه للرأي أو اتخاذه لمواقف بعيدة عن الفن". وبالمناسبة يمكن أن نقول بأن القدرات الصوتية للرجل لا يضاهيها أحد في الساحة الفنية إلى حد الآن، فعلاوة على حسن الصوت، هناك طول النفس، وتميزه بمساحة صوتية واسعة تخول له الانتقال بين الطبقات الصوتية (الحادة-المتوسطة-الغليظة) وتغيير مخارج الأصوات بسهولة وبدون جهد كبير، وكذلك قدرته الهائلة على الارتجال الصوتي والتعبير عن مختلف الآهات المتوقعة لدى الذات، وخلق أصوات إضافية خارج سياق النطق والكلمة، استمع مثلا لأغنية "أدرار نتيزي"،أغنية "ليلى"، "لبهايم"، "أسافو" وغيرها كثير. وكل هذا يتم في إطار ألحان أخاذة، منسجمة مع طبيعة الموضوع وما يثيره من أحاسيس ومتناسقة مع الأداء الموسيقي، سواء كانت هده الألحان مأخوذة من التراث أو كانت جديدة ومبدعة، والتي تظل دائما تحمل الهوية والروح الأمازيغية ويجد فيها المتلقي راحة قلبه، ومن خلالها يكتشف ذاته الأمازيغية، وهكذا يكون شوهاد مجددا وفي نفس الوقت مبدعا في ميدان التلحين، مجددا لأنه قام بتوظيف العديد من الألحان الخالدة لفنانين كبار، كبوبكر أنشاد، بودراع، أزعري، البصير وكذلك الألحان المقتبسة من أسايس، وكل هذا بتقنيات جديدة وأصوات رائعة، فزادها بهاء وجمالا، وهنا نذكر مثلا لحن أغنية "رب أياصياد أوشور أوكان" ولحن أغنية "ليلى" المشهورة. وقد سئل عن سبب توظيفه لهذه الألحان فرد ذلك إلى إعجابه بها والرغبة في التعريف بأصحابها أكثر، وهو ما يقوم به فعلا،حيث يذكر اسم الملحن على الشريط إذا اقتضى الحال ذلك. أما على مستوى الإبداع في الألحان، فهو الفارس الأول، بحيث استطاع صياغتها في قوالب متعددة تخاطب مختلف مكونات الذات، فنجد الألحان التي تخاطب العقل وتثيره وتدفعه نحو التأمل تتسم بالهدوء والتأني وغالبا ما يكون موضوعها مجموعة من الحكم والنصائح والمعاني السامية، وتكون مقرونة بأداء صوتي وموسيقي هادئ، كما هو الشأن بالنسبة للألحان الموظفة في غناء حكم سيدي حمو، وحكم الرايس ساسبو، وفي غناء قصيدة "أورا تقلاي غ تيزي". كما نجد الألحان التي تخاطب العاطفة وتتسم بالاندفاع والتوتر، وتتناسب مع قصص العشق والغرام وكل ما يرتبط بالأحزان والأفراح، وتكون مقرونة بأداء صوتي يتراوح بين الهبوط والصعود، وإيقاعات متنوعة أحيانا، استمع مثلا لأغنية "يات فروخت" و"اجلا لعاقل انو" و"أفوس أوصياد"... . إلا أن اللحن وحده لا يكفي لتقويم تجربة غنائية معينة، بل لا بد لها من كلمات تترجم الحياة بما تحمله من أفراح وأتراح، ونابعة من تجربة شعرية صادقة، والتجربة الشعرية الشوهادية تتسم بهذه الخاصية، خاصية الصدق إلى جانب خاصيات التنوع في الموضوعات والإبداع في البناء الفني واللغوي. وتتجلى خاصية الصدق في الحضور القوي للذات ومعاناتها وآمالها، وما يرافق ذلك من تصوير دقيق ومركز، مما يؤكد حصول هذه التجربة الشعورية في الذات قبل حصولها في النص الشعري. ثم إن مذهب الرجل في تناول مختلف الموضوعات في شعره يؤكد هذه الصدقية، فالخوض في موضوع معين بأفكار سامية وصور شعرية بليغة وفائقة، يتطلب تجربة عميقة معه، واحتكاكا حقيقيا بخباياه وأسراره، ولأن ما طاب من الشعر يتأتى من إحساس صادق، وهذا الإحساس الصادق ينبع من تجربة حياتية فريدة مع المحسوس به، لتأتي القريحة الشعرية لتترجم هدا الإحساس المكبوت في أعماق الذات إلى كلمات جميلة وموزونة. إذن يمكن أن نقول بأن الشعور الحقيقي والصادق لازم لنجاح أية تجربة شعرية، وجعلها شعرا حقيقيا، وإلا كان مجرد ضرب من ضروب الصيانة اللغوية، وهذا في أحسن الأحوال، إذ نجد عند البعض سيطرة هاجس كثرة الإنتاج (الكمية) على نفوسهم والرغبة في تحويل كل الكلام إلى شعر، واعتماد صور شعرية مستهلكة مما يؤدي إلى تدني اللغة الشعرية وبالتالي فشل تجربته الشعرية. إيمان علي شوهاد بمبدأ الصدق لم يمنعه من اقتحام مواضيع متعددة، وبأفكار سامية تناولت قضايا الإنسان وهمومه، وعالج ظواهر اجتماعية وثقافية وبيئية، كما تطرق لإشكاليات كونية تتعلق بالوجود، من قبيل الحياة والموت، الخير والشر، العدل، الحرية... وبرؤية فلسفية معمقة، يؤطرها الاستحضار الكبير للرموز المبطنة في الذاكرة الجماعية والبيئة المحلية، وتوسيع آفاق التفكير والتأمل، فيتشكل بذلك عالم رمزي فسيح يحمل الرؤى الفكرية للشاعر، والقيم الإنسانية التي يرغب فيها، مما يدل مرة أخرى على أن الشاعر لديه تجربة عميقة في الحياة، ويتميز بعبقرية فريدة في تصوير وتحليل أسرارها وأحداثها، مما جعل شعره ينفرد بروحانيته وسحر بيانه. هذا الشعر المبني على معايير الشعر الأمازيغي الأصيل المتمثلة في الوزن والإيقاع والكلمة الأصيلة، فكانت النتيجة قصائد غزيرة منظومة على أوزان متعددة وصلت إلى أكثر من 40 وزن. وعلي شوهاد من أشد المدافعين عن النظم الشعري التقليدي، ويرفض ما يسمى بالشعر الحر أو الشعر المقفى في الأمازيغية. أما على مستوى "الكلمة الشعرية" فإنه يبذل مجهودا لغويا في اختيار الكلمة المناسبة، كما يبحث في التراث عن الكلمات الجميلة والمهجورة لأحيائها من جديد، ويحرص على تنقيح قصائده من الألفاظ الأجنبية، وهذا كله عمل أدبي وثقافي عظيم، يؤسس للغة أمازيغية أصيلة وسليمة. وهكذا يكون الشعراء الحقيقيون، حماة للغة وثقافة شعوبهم من الضياع والاستلاب. ثم إن علي شوهاد يجتهد من أجل صياغة لغوية موحدة ومتخلصة من الجانب اللهجي والشفوي المرتبط بلغة التخاطب اليومي، لكي يفهمه أكبر عدد من المتلقين، في مناطق أمازيغية مختلفة، فعندما نقرأ مثلا هذه الأبيات نجد هذه الخاصية، “ تنيد أوشكيخ لواعين كلو سوتلناخ“، “دا تند نترارا غ اكي رورنت اس أوكان“، “دا تايلال تفلد افراون غ أفوس نك“، “كيغ ابريد تغيزيفت رميخ أغاراس“ ... وهذه الصياغة اللغوية تميل إلى اعتماد الإيحاء والترميز بدل المباشرة والتقرير، مستعملا في ذلك مجموعة من الصور الشعرية الحاملة لأكثر من دلالة ووجه، وكأننا أمام أبي تمام أمازيغي، وغالبا ما يلجأ إلى عالم الطبيعة لاقتباس هذه الرموز والصور الشعرية، إذ تكاد لا تكون قصيدة لا تحتوي على كلمة أو صورة شعرية مقتبسة من الطبيعة، وهذا دليل على أن شخصيته محصنة من الاستلاب، متشبثة بالأصل وعاشقة للجمال والطبيعة. كما نلاحظ لجوءه إلى التراث بمختلف أجناسه ليقوم بوظائف متعددة، منها توفير معلومات تاريخية عن الأجداد، والاستفادة من قيمهم وحكمهم دفاعا عن الهوية الأمازيغية في ظل تحولات العصر. كما أن هذا التراث يؤدي إلى إثراء البعد الفني واللغوي للقصيدة، الذي يتولد من خلال حضوره الذاتي وما يضفيه على هذه القصيدة من جمالية وروحانية وهيبة، وكذلك من خلال تقنيات إقحام هذا التراث في سياق القصيدة وتوجيهه نحو الغرض العام لها. وهكذا نجد مجموعة من الحكم والأمثال ومنسوبة لأصحابها- وهذه تحسب للرجل في زمان ضاعت فيه الأمانة العلمية- ويستعمل في أنسابها تقنيات متنوعة، فإن كان صاحبها معروفا يذكره بالاسم في القصيدة، مثل سيدي حمو والرايس ساسبو، أو يدونه على الشريط كما هو حاصل مع بودراع، أزعري، وإن كان غير معروف فانه يلجأ إلى عبارات إشارية من قبيل “أوفيغن يالحساب اصحا والي يا س انان...“ أو “نان،اورا تاقلاي غ تيزي اغاس احاول يان...“ أو “نرا سرس أوال ادرن والي ياس انان...“، كما يستعمل تقنية المزدوجتين كما هو الحال في ديوانه أغبالو. إضافة إلى الأمثال هناك توظيف لمجموعة من الأعلام المعروفة عند الأمازيغ، وهذا في سياقات متعددة بحيث يمكن أن نجد حضور علم معين في أكثر من سياق ودلالة، سواء من أجل التسلية أو أخذ العبرة أو من أجل إثارة الذاكرة الجماعية الأمازيغية، حفاظا على الحس الهوياتي، فنجد مثلا حمو أونامير وأسطورته سيدي حمو وحكمه، الخطابي وبطولته، مولاي براهيم بوسالم وصلاحه، ايوب وصبره، نوح وعمارته، هابيل وقابيل وصراعهم، أمرؤ القيس وغرامه، ساسبو وأقواله... كما نجد حضور القيم الثقافية والاجتماعية الأمازيغية بشكل لافت للنظر، لنأخذ مثلا قصيدة "وليد افلن" فهي غنية بقيم العمل والتضحية والعدل والتدبير لدى الأمازيغ، نجد نفس الشيء في قصيدة "أركان"، وفي قصيدة "أبوه ألحنا" تتجلى لنا تقاليد العرس وأحواش، ونكتشف قيم الارتباط بالأرض في قصيدتي "أوفيخ ايدانوي " و" تاموكريست"، قيم العفة والزواج في قصيدة "اغولا وودي" وفي"لاسباب نتودرت" وفي قصيدة "تسكر تايري أغاراس ستاسانو" و"أفولكي نكابارن" نتعرف على ثقافة الصقر. وخلاصة القول، إن علي شوهاد ومجموعته أرشاش مدرسة للحياة الإنسانية ،التي جعلت الإنسان ووجوده محور دراستها وتحليلها، وغايتها السمو بهذا الإنسان ليكون شخصية فاعلة ومنتجة لقيم لعدل والخير والجمال. أما علي شوهاد فإنه "اكا أومارك أمازيغ يان واتيك لي يات جو أوريكي مقارد يان’غويلي زرينين أولا ويليد أوشكانين " * مداخلة ألقيت في الندوة العلمية المنظمة بأغيل أبركاك يومي 16 و17 غشت 2008، تكريما للفنان الكبير مولاي علي شوهاد abdoarchach76@hotmail.com
|
|