|
وزيادة على هذا، مارست الدولة الأليكارشية الحزبية بعد سنة 1956 في زمن التعصب الحزبي الأعمى جبروتها على الشعب الأمازيغي على كل الذين يعارضون سياسة الحزب الوحيد الحاكم كما يدل على ذلك نشيدها العنصري المشهور»المغرب لنا لا لغيرنا«. وتفعيلا لهذا الشعار العنصري » وقف رجلا خطيبا، وعلى الأسئلة رادا ومجيبا، فقال لو كانت الشمس لنا، لمنعناها أن تضيء الا جمعنا وحزبنا، ولو كانت الأمطار في قبضتنا لأمرناها أن تلزم عرصتنا، سدوا الطرق على المخالفين حتى يأتوا الينا خائفين، لا إكرام ولا تشريف ولا عمل ولا وظيف، ولا خبز ولا رغيف إلا من أتى بورقة التعريف، وعليها الخاتم الظريف، هكذا علمنا ميكيافيل، وهكذا أمرنا كوبلز وعبرائيل فأقسموا الأيمان الغلاظ، أنكم ستكونون الأشداء الأفظاظ، وليتجرد كل واحد منكم من قلبه، وروحه ولبه، إياكم أن ترحموا من المخالفين دامعا، أو تطعموا لهم جائعا، ولو كان معتزا وقانعا، أطردوا العامل من ورشه وأخرجوا الفقير من فرشه، ولا توظفوا المخالف المعاند، واطردوا كل حر ومحايد، وقربوا الأصدقاء الرائح والوارد ووظفوا الولد والوالد. هذه وصيتي اليكم، وتوجيهاتي المجانية لكم، قوموا وغلطوا الأوباش، وسوقوهم كالأكباش« (نص منشور في جريدة الرأي العام، عدد 21 مارس 1957). بهذا الشكل كان تعامل الاستقلاليين وأصبحت الدولة الأليكارشية حيث كانت تكثف من عملياتها ضد المعارضين الأمازيغ الذين قالوا لا لحزب الاستقلال ولا للحزب الوحيد. وكانت الاعتداءات يقودها على وجه الخصوص الاستقلالي محمد الغزاوي الذي هو من عائلة فاسية برجوازية ثرية ومن بين أحد مؤسسي حزب الاستقلال، الذي عينه سلطان المخزن محمد الخامس في ماي 1956 بظهير شريف كأول مدير عام للأمن اللاوطني حتى غاية 1960. وكان أيضا محمد الغزاوي رئيسا لميليشات حزب الاستقلال الخارجة عن القانون، وأول رئيس للأجهزة السرية في المغرب، وقد اشتهر محمد لغزاوي بتنفيذ عمليات واسعة في المناطق الأمازيغوفونية، والمعروف بقسوته وحقده الشديد على الأمازيغ. وعن ورقة تعريف لغزاوي ، يقول الجاسوس والعميل المغربي أحمد البخاري في مذكراته: »يعتبر محمد لغزاوي الذي كان مديرا لديوان إدريس حصار، المسؤول الأول عن هاته الجرائم، لأنه كان الرئيس الوحيد للشرطة السياسية الخارجة عن القانون ولميليشيات حزب الاستقلال الخارجة أيضا عن القانون. وبالنسبة للفترة ما بين 1956 و 1960، قدرت الاختطافات ب 2000 حالة، والاختفاءات القسرية بحوالي 1000 حالة، وذلك حسب أرشيف مصلحة التوثيق الخارجية ومكافحة التجسس – الفرنسية بالمغرب في تلك المرحلة. وكان مدير الأمن الوطني هذا، والشرطة السياسة أيضا، جلادا حقيقا، لأنه كان من عادته أن يعذب العباد، وإذا كان يستعمل السياط للتعذيب داخل ضيعاته الفلاحية وداخل قصره بالرباط – السويسي وفاس« (129). طبعا هذا دون أن ننسى المهدي بن بركة الذي تحدث عنه المختطف السابق المهدي المومني التجكاني في كتابه »دار بريشة أو قصة مختطف« وهو واحد من أولئك الذين نجوا وعادوا من جحيم معتقل دار بريشة. وللعلم فقد اختطف التجكاني في يوم 28 يونيو 1956 من مقر عمله بالمدرسة ثم وضع في سيارة سوداء كان يقودها حسب التجكاني »الخطاف المهدي« بسرعة جنونية إلى مدينة تطوان ثم إلى دار بريشة، كما كان من عادة المهدي بن بركة أن يعطي الأوامر بالهاتف إلى عصابته لقتل الناس الأبرياء المعارضين لحزب الاستقلال الديكتاتوري، وخاصة إلى الأمازيغوفوبي الفقيه البصري رئيس الجهاز العسكري لحزب الاستقلال في تلك الفترة. وهذه المعلومات ليست من مخيلتنا وإنما هي من شهادات وروايات لأناس عاشوا الحدث المأسوي الأسود وعاصروا فترة التعصب الحزبي الأعمى الدموي، ففي تلك الفترة كثر المعتقلون والمختطفون السياسيون الذين كانوا يملأون السجون والمعتقلات الرهيبة لحزب الاستقلال وحزب الإصلاح الوطني علاوة على كهوف ومعتقلات المخزن، كما كان من عادة ميلشيات حزب الاستقلال أيضا أن تكثف من حملاتها وتقوم بتصفية كل الرموز والشخصيات ذات الصلة والعلاقة بزعيم حرب الريف مولاي محند، حيث كانت تقوم بمطاردة واختطاف واغتيال كل من تشم فيه رائحة العلاقة بمولاي محند أو يحمل أفكاره ومشروعه السياسي، كما حصل مع المختطف حدوأقشيش الذي كان على صلة بمولاي محند أيام كان يتابع دراسته في الكلية العسكرية بالمشرق، لكن بمجرد أن اتضحت علاقته بمولاي محند اختطفه حزب الاستقلال مباشرة بعد عودته إلى الريف في سنة 1956 ولازال حتى يومنا هذا مجهول الدفن. وبطبيعة الحال لم يستثن حزب الاستقلال أيضا توأمه في الولادة حزب الشورى والاستقلال المورسكي الأمازيغوفوبي، وكذلك العناصر الهلالية، وقد أورد في هذا الصدد الشوري المهدي المومني التجكاني أنه حينما كان في »المعتقل الحزبي الرهيب« كما سماه ـ طبعا معتقل دار بريشة ـ دخل عليه أحد جلاديه وفتح أزرار سرواله وتقدم أمام عينيه قائلا »هاهي ذي الشورى وهذا ما تساويه« ثم رفع إحدى قدميه موجها ضربته نحو ذقن التجكاني، ليتكفل به بعد ذلك جلادون آخرون. يقول التجكاني في نفس المصدر: »على العموم كنت أحس بنفسي كرة بين قدمي جلادي العباس« (130). وحول بعض الأعمال الإرهابية الأخرى للحزب نعود إلى أعمال محمد لغزاوي الذي يقول عنه أحمد البخاري ضابط المخابرات الأسبق: لقد »عمل على تجريد وتسريح كل قدماء المقاومين، ولم يتردد في تصفية الثائرين منهم الذين رفضوا وضع السلاح وقبول منصب بالأمن ووزارة الداخلية أو بالقوات المسلحة الملكية. وعندما كان رئيسا لميلشيات حزب الاستقلال عمل على وضع حد للعديد من المسؤولين والمناضلين بحزب الشورى والاستقلال ولشغل وتزكية منصبه أنشأ الشرطة السياسية للقيام بكل هذا العمل القذر (...) ارتكبت الشرطة السياسية وميلشيات حزب الاستقلال بشكل جماعي أو على حدة مئات الجرائم السياسية وعشرات الاغتيالات والمئات من عمليات تصفية الحسابات والمئات من الاعتقالات والاحتجازات غير القانونية والمئات من السرقات، والمئات من التعنيفات الجماعية، والمئات من الاعتداءات والآلاف من الاختطافات والحجز والتعذيب والإخفاء القسري والمئات من التجاوزات السلطوية المختلفة في سنوات 1956 – 1960« (131) . أما فيما يتعلق بوسائل وأشكال التعذيب الذي اعتمدته أجهزة حزب الاستقلال للتنكيل بالمعارضين، فحسب شهادات الذين كانوا في كهوف المعتقلات الجهنمية للحزب، والتي سنركز هنا على »شهادات البكاء« في جلسات ما سمي بهيئة الانصاف والمصالحة (الإنصاف والمصالحة مع الجلادين)، فمن بين وسائل التعذيب الذي اعتمدته أجهزة حزب الاستقلال ما بين الساعة التاسعة ليلا والسادسة صباحا: صب وعاء من الماء المغلي على رؤوس المعتقلين والإرغام على شرب مواد ملوثة والبول والإجلاس على القنينة والتحرش الجنسي واقتلاع الأظافر والكي بالسجائر والتعلاق (رفع الضحية إلى أعلى وتكون أطرافه الأربعة مكبلة في وضعية تحدث آلاما مبرحة) المصحوب بالضرب على جميع أعضاء الجسم بدون استثناء المناطق الحساسة، ووضع الأصفاد على اليدين والرجلين والعصابة على العين طيلة فترة الاحتجاز والاعتقال التعسفي إلى جانب الحرمان من النوم، كما لجأ الجلادون المجرمون إلى أسلوب اغتصاب وتعذيب أحد أفراد العائلة او أقارب المعتقل على مرأى ومسمع منه وذلك لإلحاق الأذى النفسي والاعتراف بما نسب إليه، وغير ذلك من أشكال التعذيب المشينة والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. هكذا كان تعامل الاستقلاليين مع المعارضين للحزب الحاكم الواحد في بداية الاحتقلال، غير أن ذلك كانت له انعكاسات كبيرة على الساحة. فأمام تزايد إرهاب حزب الاستقلال وطغيانه الشديد نحو السيطرة المطلقة على السلطة على طريقة الحزب الوحيد سرعان ما انقلبت ضده، حيث أعلن المعارضون وخاصة المعارضون الأمازيغ من المغرب غير النافع الثورة على حزب الاستقلال وشريكه المخزن. ففي يوم 18 يناير 1957 بعد مرور أشهر قليلة على حكومة البكاي لهبيل الثانية أعلن عدي أوبيهي عامل تافيلالت الثورة المسلحة على دولة »المغرب لنا لا لغيرنا« بدعوى رفض الديكتاتورية العروبية والإرهاب الحزبي. ونفس الشيء بالنسبة لانتفاضة الجنوب التي قادها لحسن اليوسي وزير الداخلية آنذاك، والذي كان قد بدأ في تنظيم حركة ثورية منذ غشت 1956 في الأطلس المتوسط بصفرو وأيضا في الريف. أما ثورته المسلحة فقد بدأت مع محاكمة عدي أوبيهي في شهر دجنبر 1958 كما تفيد جريدة المانشتر كارديان Manchester Guardian (عدد 7 يناير 1959) تقول: »إن التمرد الحالي بدأ في شهر دجنبر مع محاكمة عدي أوبيهي، وهو زعيم بربري كلف بتنظيم مواجهة ضد الحكومة. لقد التحق البربر بالجبال في الشهر الماضي حينما وجه الملك تحذيرا لوزير الداخلية السابق، لحسن اليوسي واتهمه بالخيانة. يقال الآن إن اليوسي يقود مجموعة مسلحة كبيرة من رجال القبائل. يؤكد المراقبون أن التوتر هو نتيجة تنامي تأثير حزب الاستقلال العربي«. والجدير بالذكر هنا أن ثورة لحسن اليوسي حظيت بدعم وتأييد مطلق من طرف مولاي محند الذي كان قد »بعث ببرقية إلى القائد اليوسي يعرب له فيها عن دعمه المطلق لتحركاته وتجمعاته التي ينظمها في المناطق الأمازيغية لمواجهة تطلعات هذا الحزب« (132). أما بخصوص الأسباب التي جعلت مولاي محند يدعم ثورة لحسن اليوسي والثورات الأمازيغية الأخرى فقد أوردها في حوار أجرته معه جريدة »الصحافة« المصرية (عدد 3 دجنبر 1958) وبعضها كما يلي: ـ سياسة الظلم والاستبداد ضد الشعب، ـالمحسوبية والرشوة واستغلال الحكم للمصالح الشخصية، ـ الحالة الاقتصادية المرتبكة، ـ التعصب الحزبي الأعمى الذي يسيطر على بعض المسؤولين في حزب الاستقلال وهو الحزب الحاكم، ـ المعتقلون الذين يملأون معتقلات مراكش (المغرب) بدون سبب إلا معارضتهم للحكم القائم. ـ سيطرة الشركات ورؤوس الأموال الأجنبية على اقتصاد البلاد وعلى سياستها. وأمام تزايد إرهاب حزب الاستقلال في كل المناطق الأمازيغوفونية بدأت الثورة الأمازيغية تنتشر هي أيضا في كل هذه المناطق الأمازيغية في المغرب غير النافع الأمازيغي مثل حركة العقيد (الكولنيل) محمد بن الميلودي أحد أعضاء وقادة جيش التحرير الأمازيغي، الذي كان قد بدأ حركته في إخروبان (خروبة) قرب ولماس، وحركة مسعود أقجوج والحاج أبقري والزكريتي وحسن بن أستيتو وآخرون في منطقة إكزناين وانتفاضة لحسن أوحدو في إتهالن (تهالة) وانتفاضة موحا أوحدو في آيت وارين بوسط إقليم تازة، ثم أخذت الانتفاضة والثورة تمتد حتى شملت قبائل تونان وقبائل بولمان القريبة من نهر ملوية بقيادة محند أوبنحدو أبرشان ومعتصمي جبال جرادة ووجدة وإبركانن وإزناسن بأكملها، إلى أن وصلت إلى أقصى مداه في المناطق الممتدة بين الناظور والحسيمة وخاصة في منطقة آيت ورياغل التي كانت أكثرها تنظيما وقوة ومواجهة التسلط العروبي المتمثل في الحكومة الاستقلالية والنظام المخزني. وعن هذه الانتفاضات الأمازيغية التي كانت في مجملها ضد الأقلية العروبية الحاكمة، يقول عنها الحسن الثاني أحد الذين أخمدوها بالنار والحديد: »عرفت بعض الجهات تمردا فكريا إضافة إلى قلاقل سياسية. فمثلا في الريف، الذي كان خاضعا للحماية الإسبانية كان لدى السكان شعور بأنهم يعاملون كفئة مهمشة في المملكة ولم يقبلوا بهيمنة حزب الاستقلال الذي لم يتصرف كما يجب من الحنكة« (133). ب-انتفاضة أمازيغ الريف: في بادئ ذي بدء، وقبل الحديث عن موضوع انتفاضة أمازيغ الريف، لا بأس أن نذكر هنا في البداية أن الريف تاريخيا كان مستقلا عن بلاد المخزن وأن ما كان بينه وبين بلاد المخزن هو سوى الحروب المتبادلة بين الطرفين، الأكثر دموية من حروب المخزن نفسه مع المناطق الأمازيغوفونية الأخرى، التي كانت هي أيضا تشكو تاريخيا من تسلط المخزن، وبالتالي وجود سوابق تاريخية لا زالت أعراضها بادية حتى يومنا هذا، تصعب التقارب بين المركز ذو التوجه العروبي والمحيط ذو التوجه الأمازيغي، كما وجب الذكر أيضا في البداية ولو في عجالة الظروف والأسباب التي جعلت سكان الريف ينتفضون في وجه الدولة المخزنية المغربية. ولنبدأ من سنة 1956 (عام ن لستقلال) بعد اتفاقية مدريد المشؤومة التي وقعت بين المخزن وإسبانيا، والتي بموجبها سيطر المخزن كليا على بلاد الريف، فمباشرة بعد هذه الاتفاقية المشؤومة والملعونة انتهج النظام العروبي المخزني سياسة الإدماج القسري والتعسفي إزاء منطقة الريف الأمازيغية. وعوض أن يراعي ويأخذ بعين الاعتبار خصوصية وتاريخ منطقة الريف الأمازيغية راح يفرض عليها وعلى شعب الريف الأمازيغي سياسة الدولة المخزنية القائمة على التمييز العرقي العربي إلى جانب الثقافة العربية والفرنسية وهمش الخصوصية الأمازيغية للمنطقة. أضف إلى ذلك التهميش السياسي والثقافي والاقتصادي... وعلاوة على هذا انتهج النظام المخزني بمعية حزب الاستقلال سياسة تعريب المنطقة والسكان من خلال تهجير أبناء الريف وتشجيع هجرة أهالي محور فاس والرباط والنواحي إلى بلاد الريف مقابل مصالح مغرية لهم هناك، بهدف إحداث اختلالات عميقة في البنية الديموغرافية لأمازيغ الريف بالمنطقة، مثلما فعل أخوهم صدام الإرهابي عندما قام هو ايضا بتهجير الأكراد من بلادهم واستطان في مكانهم المستعمرين العرب. إذن على إثر هذا الاستعمار العروبي تم إقصاء اللغة الريفية الأمازيغية كليا من مؤسسات الريف منذ أن استولى عليها المخزن وحزب الاستقلال في البدايات الأولى من «الاحتقلال»، وأصبحت اللهجة العربية الوافدة والمستعمرة إلى جانب الفرنسية لغة التخاطب والكتابة في كل مؤسسات وإدارات الريف والمغرب بشكل عام. وبهذا تم إقصاء أمازيغ المسمى المغرب (مع التحفظ دائما على التسمية العربية) من الاستفادة من قطاعات ومؤسسات الدولة التي يسيطر عليها بشكل خاص الأخطبوط الاستقلالي والمخزني. وأكثر من هذا، الريفيون لم يستفيدوا حتى من خيراتهم وثرواتهم بالمنطقة التي سرقها المحتل المغربي الداخلي، وهو الأمر الذي زاد من صعوبة إندماج الريفيين مع المستوطنين الجدد ومع الداخليين بشكل عام، وأصبح سكان الريف يعانون الفقر والتهميش ومشاكل اقتصادية خطيرة وأزمة خانقة في كل الميادين والقطاعات الأساسية لاقتصاد الريف، وبالتالي أصبحت موارده شبه منعدمة، اللهم إذا استثنينا هنا بعضا من عائدات المهاجرين الريفيين في المواسم الفلاحية إلى الجزائر. تقول صحيفة فرانس أوبسيرفاتور ( France Observateur, 3 janvier 1959): »إننا أمام أزمة خطيرة. الوضعية الاقتصادية للريفيين جد سيئة والمنطقة الإسبانية سابقا تعاني من صعوبات اندماج لم تكن مهيأة له«. أما جريدة «لوموند» الفرنسية المدافعة عن النظام المخزني فقد كتبت في تقريرها في شهر نوفمبر 1958 ما يلي: » كانت الصعوبات الاقتصادية للريفيين من الهموم القارة للحكومة العلوية. ثمة مجاعة تخيم هناك. غير أن مجهودات الحكومة منذ الاستقلال لم تعط إلا نتائج سلبية ولم تستجب لإعادة البناء التي قررتها الرباط للحاجيات الفعلية لسكان الجبال الذين خاب ظنهم. محاولات إدماج القبائل اصطدمت دائما بالخصوصيات المحلية«. هكذا كان الريف وعاش بدايته الأولى من «الاحتقلال» فعوض أن يستفيد من هذا الذي سمي استقلالا والذي ضحى فيه الريفي بالغالي والنفيس وجد نفسه مرة أخرى أمام استعمار جديد في دولة المخزن التي راحت تعمق الأزمة أكثر في المنطقة من خلال قيامها بالإجهاض على المشاريع والمؤسسات الاقتصادية التي خلفها الاستعمار الإسباني والذي كان أرحم وأفضل بكثير من المغرب في الجانب الاقتصادي والتنموي. وعلاوة على هذا قامت السلطات المغربية بعد مدة وجيزة من سنة 1956 بإغلاق الحدود مع الجزائر الذي كان هذا الأخير هو المتنفس الوحيد بالنسبة للعمال الريفيين الذين كانوا يهاجرون إلى الجزائر في المواسم الفلاحية للعمل هناك. والأخطر في كل هذا، هو أنه تزامن مع فترة الجفاف والمجاعة الذي ضرب المنطقة آذاك، والمعروف عند أهالي الريف ب »عام ن جوع« أو »عام ن تفاضيست« نسبة إلى نبتة »تفاضيست« التي كان يأكلوها الريفيون إبان فترة الجفاف والمجاعة التي اجتاحت المنطقة في تلك الفترة، وضمن هذا السياق يقول دافيد سيدون (David Seddon): »كان الاستقلال يعني، من ضمن ما يعنيه، غلق الحدود مع الجزائر وتقنين هجرة العمال. بعد رحيل الإسبان وبعد سنتين من الجفاف، كانت العاصفة في الريف الأوسط والشرقي حيث كان الاقتصاد مرهونا إلى حد بعيد بعائدات الهجرة إلى الجزائر« (135). كان من الطبيعي جدا أن يتحرك الريفيون ويطالبون بحقوقهم الضائعة والمسلوبة من طرف الأقلية الاستقلالية والمخزنية المتسلطة على بلاد الريف، وقد اشتكى الريفيون من ظلم وطغيان هذه الأقلية العروبية الموجودة في الريف إلى سلطان المخزن محمد الخامس. وحول هذا الموضوع كتبت جريدة «لوموند» بتاريخ 13 نوفمبر 1958 ما يلي: »أبلغ الريفيون الملك بالصعوبات الاقتصادية التي يعيشونها، ذكروه أن جرح قراهم الفقيرة هو البطالة كما أنهم اشتكوا من ظلم بعض الموظفين وطالبوا برجال إدارة من أهل المنطقة. بالنسبة لقدماء المحاربين من جيش التحرير فقد احتجوا على تهميشهم بمجرد أن انتهت مهمتهم«. غير أن محمدا الخامس لم يستجب لشكوى ومطالب الريفيين. وأمام هذا الواقع الخطير من التهميش والإقصاء والتسلط وعدم استفادة الريفيين من مكاسب »الاستقلال«، أضف إلى ذلك حل جيش التحرير الريفي واغتيال أعضائه، الذين ينحدر معظمهم من الريف، علاوة على العلاقة المتوترة بين زعيم الريف مولاي محند والمخزن ورجال الحركة اللاوطنية الذين تآمروا عليه وأنزلوه ثم أوقعوه في مصر، والذين كانوا يضعون الدسائس في الريف حتى لا يعود إلى موطن أصله، لما سيكون في ذلك من انعكاسات كبيرة على الساحة وعلى الخريطة السياسية في الريف والمغرب، وهو الشيء الذي جعلهم يعكرون العلاقة معه من خلال أعمالهم التسلطية في الريف وأيضا من خلال التصريحات الصحافية المتبادلة النارية والمتوترة بين الطرفين حتى لا يرجع إلى جمهوريته المسلوبة والمحتلة. هذه العوامل وغيرها جعلت سكان الريف يتحركون شيئا فشيئا في تنظيم المظاهرات والاحتجاجات السلمية للمطالبة بحقوقهم الضائعة والمسلوبة من طرف »المستعمرين الجدد« كما كانوا يسمون إذاك من طرف الريفيين، وضد كل أشكال الاستغلال والاستعباد والذل والهوان، غير أن الاستقلاليين الاستعماريين ردوا على تلك المظاهرات بمزيد من التسلط والطغيان والاعتقالات والاختطافات والتعذيب والسب بكلمات عروبية نابية تحقيرية، حتى أصبحوا يعذبون الريفيين في منزل بطل حرب الريف، يقول محمد سلام أمزيان: إن » منزل عبد الكريم الخطابي في أجدير تحول إلى مركز للتعذيب « (136). وأمام تزايد إرهاب وحكرة حزب الاستقلال ومعه القصر انفجر الريفيون وقاموا بتشكيل كتلة واحدة ضد الاستعماريين الداخليين تزعمها محمد الحاج سلام أمزيان من آيت بوخلف بآيت بوعياش (إقليم الحسيمة) البالغ من العمر 33 سنة، والمعروف عند سكان الريف ب ميس ن رحاج سلام أوسي محمذ، وذلك مباشرة بعد خروجه من سجون ومعتقلات حزب الاستقلال والمخزن بكل من القنيطرة والرابط في شهر ماي 1958، والذي كان قد اعتقل منذ سنة 1957، وبعد ان ألح عليه الريفيون على قيادة الثورة بعد ان حكوا له ما لقوه من إرهاب وطغيان شديد على يد طغاة حزب الاستقلال والمخزن، يقول ميس ن رحاج سلام: » عدت إلى الريف بعد سنتين (...) كانت الوضعية غير عادية (...) وكنت أنصت للمواطنين الذين كانوا يحكون لي عن عجرفة الاستقلاليين الذين دخلوا الريف« (137). وبالفعل قام «amghar n arif» ميس ن رحاج سلام بتأطير الغضب الشعبي الريفي وأعلن العصيان المدني على دولة »المغرب لنا لا لغيرنا« وضد سياسة الإرهاب والميز العنصري وسياسة إذلال الريفيين من العنصرية والابتزازات والإهانات المتكررة التي انتهجها متسلطو حزب الاستقلال الاستعماريين ضد أهالي الريف، وكان العصيان المدني في بداية الأمر عن طريق النداء « Abarreh » حيث كان يقوم شخص مبعوث من طرف القيادة بالمناداة بأعلى صوته ويشرح سياسة وتعليمات القيادة الريفية المنتفضة بالتنسيق مع مجموعة من أفراد المراسلين« Ireqqasen » المكلفين بمهمة حمل الرسائل والاتصال بالجهات الأخرى من الريف الغاضب بغية توحيد النضال والتحاق الناس بالجبال. ومن ثمة الاعتصام فيه وعدم التعامل مع المخزن والاستقلاليين حتى تحقيق مطالب الريف العادلة والمشروعة وفي مقدمتهم إيقاف الحكرة والتسلط ضد ساكنة الريف. ثم سرعان ما تحول العصيان إلى ثورة عارمة على الحكم المخزني بأكمله، حيث خلعوا طاعة المخزن وبايعوا زعماءهم الريفيين دفاعا عن شرف وكرامة الريف وكيانه المسلوب منذ سقوط دولة الريف الأمازيغية في سنة 1926. وعمليا انطلقت الثورة في يوم 27 أكتوبر 1958 بعد الهجوم الذي قاده بعض أهالي آيت حذيفة وآيت عبد الله على عساكر وقشلات المخزن والاستقلاليين الذين كانوا يحتلون الريف ويرتكبون الأعمال الإجرامية بالمنطقة. وبعد أن سجنوهم في مراكزهم وأخذوا منهم السلاح ثم احتموا بالجبال والذي سيعرف ذلك العام عند الريفيين ب »عام ن جبل« نسبة إلى اعتصام الريفيين بالجبال، الذي تزامن مع الأحداث الدموية والمأساوية التي شهدتها منطقة إكزناين الريفية عقب نقل جثمان شهيد جيش التحرير عباس لمساعدي إلى مقبرة أجدير بنفس المنطقة، والذي تزامن أيضا مع التحركات المشبوهة »لأشلحي ن رمخزن« الضابط السابق في الجيش الاستعماري الفرنسي وصديقه الشخصي في جيش التخريب عبد الكريم الخطيب والمعروف ذلك التاريخ عند البعض ب »عام الحركة الشعبية « . وخلال اعتصام الريفيين بجبال الريف شكلوا هناك كتلة واحدة ضد الاستعماريين الداخليين ورفعوا عدة شعارات نعبر عن مطالبهم العادلة والمشروعة التي كانت تنتشر بسرعة البرق في كل جبال الريف الثائرة والتي كانت تكتب على الجدران وفي المقاهي وعلى أعمدة القناطر وأمام الطرقات وغيرها من الأماكن المثيرة للرؤية. وأهم هذه الشعارات التي رددها الريفيون بكثرة في جبال الريف المنتفضة، وخاصة في أعلى قمة جبل حمام (بوصراح) بشقران، والذي يحمل اسم أذرار ن سيذي بوجيبار على علو 1944 متر وعلى مقربة من جماعة بومعدن في قبيلة تيماززغا نجد شعار » يسقط حزب الاستقلال، تسقط الحكومة« ، » يعيش البوبري (الفقير) يسقط الصوبري «،» عاش جيش التحرير، ليسقط حزب الاستقلال« ، »عبد الكريم زعيمنا«،» يا علال الفاسي، زرننا يحيى نذوار نقار يسقط« ويعني هذا الشعارالأخير في جزئه الأخير أي بعد كان الريفيون يرددون ويقولون في السابق يحي الملك في العام الذي أحيوا فيه محمد الخامس وعرف عند أهالي الريف ب »عام ن يحيى « الذي كانوا يرددون من قبيل »عاش الملك« ، » يحيى الملك، تسقط الحكومة«، » بن يوسف ملكنا وعبد الكريم زعيمنا« »لتسقط الحكومة، يحيى الملك« اصبحوا بعدئذ وعادوا يقولون يسقط. وفي إطار المد القومي الريفي المناهض للنظام العروبي في محور فاس – الرباط أسس الثوار حركة التحرير والإصلاح الريفية أو حركة التحرير والتطهير الريفي كما ذكرت في مجلة الإسبريس ( l’express ) في عدد فاتح يناير 1959، وأصدرت في بداية الثورة ميثاقا ثوريا يتضمن 14 مطلبا، وأهم هذه المطالب: عودة مولاي محند والإفراج عن المعتقلين والمختطفين الريفيين وجلاء حزب الاستقلال والقوات الأجنبية عن بلاد الريف وتسيير الريف من طرف الريفيين بإتيان رجال إدارة، قضاة، جنود، معلمين، .. من أبناء المنطقة الذين يفهمون لغة السكان، ثم بعدها شكل زعماء الثورة الذين حرروا ميثاق الجماهير الريفية وفي مقدمتهم ميس ن رحاج سلام ورشيد الخطابي وصديق ن شراط الخطابي من أجدير وغيرهم كثر وفدا يتزعمه عبد الله تهامي من آيت حذيفة للذهاب إلى الرباط من أجل التفاوض مع محمد الخامس حول مطالب الحركة الريفية، وبعد اجتماع الوفد الريفي مع محمد الخامس وحاشيته رفض هذا الأخير الاستجابة للمطالب العادلة والمشروعة التي قدمته حركة التحرير والإصلاح الريفية لتنتهي المفاوضات بالفشل وتندلع المعارك المسلحة بين الحركة الريفية والقوات المخزنية المدعمة بميلشيات حزب الاستقلال، والتي سنتطرق إليها بتفصيل في الأعداد الأخرى. (يتبع في العدد القادم)
|
|