|
ملحمة آيت عطا في بوغافر بقلم: حسن الكاغ تحل في مثل الفترة من كل سنة ذكرى ملحمة تاريخية مجيدة. صنعها سكان الجنوب الشرقي المغربي ضد الاستعمار الفرنسي. هذا الحدث الهام في تاريخ المغرب لم يكن وليد الصدفة ولا ظروف طارئة وعفوية، وإنما حلقة هامة من سلسلة حلقات مماثلة زعزعت المخططات الإمبريالية الفرنسية. تلكم كانت انتفاضة آيت عطا ضد الجيوش الفرنسية في بوغافر بجبال صاغرو. يبدأ هذا الحدث الكبير عندما توصل الضابط الفرنسي هنري دو بورنازيل في منطقة أرفود بتافيلالت ببرقية مقتضبة تضمنت قرار نقله إلى صاغرو لتهدئة الوضع هناك أمام غليان السكان الأشاوس(1). تعتبر جبال صاغرو المعقل الروحي لكونفدرالية آيت عطا حيث مكنتهم الطبيعة الجيولوجية الوعرة من دحر كل الأطماع القبلية الأخرى، وحتى العيش في أمان من كل الأعباء المخزنية المختلفة. و ذلك ما أكسبهم نزعة الحرية والتحرر من كل سلطة مهما كان مصدرها وهدفها. إن جبل بوغافر يمثل حصنا طبيعيا هائلا بتضاريس شاهقة تصل أحيانا إلى أكثر من 2712م بنجود عليا تتخللها عدة منخفضات أهمها وأكبرها منخفض أمسعد باتجاه شرق-غرب وبأبعاد 3 كلم طولا وعدة مئات من الأمتار عرضا. ويشقه واد ضيق يسمى أقانو ليلي (واد الدفلى). وفي الشمال يهيمن جبل أول نوسير على المنطقة. و بإيجاز كبير يقول الجنرال الفرنسي عن طبوغرافية صاغرو: "هي أكثر المناطق التي شهدها الفرنسيون تعقيدا."(2). هناك إذن ستندلع ثورة عارمة ضد الاستعمار الفرنسي، قادها آيت عطا الأشاوس. إنها معركة بوغافر في فبراير-مارس 1933م. هذه المعركة الحاسمة والفاصلة في تاريخ المغرب عموما وآيت عطا خصوصا. تبين فيها بوضوح أن الآليات الفتاكة والمعدات المتطورة ليست هي التي تصنع الانتصارات، وإنما العزائم القوية وعدالة القضايا المدافع عنها هي السلاح الفعال. لقد تبين للمقاومين منذ البداية مدى خوف وارتباك الفرنسيين، وإن حاولوا الظهور بمظهر عدم الاهتمام والحسم المسبق للوضع لصالحهم، بحيث أن بورنازيل مثلا أبرق إلى زوجته في فرنسا: "لقد كلفوني بمهمة في منطقة جبلية. لا بأس سأمارس رياضة تسلق الجبال."(3). وهكذا زجوا بكل قواتهم الرسمية والاحتياطية والمتطوعة والمرتزقة، مؤطرة من طرف جنرالات محترفين ومحنكين بسجل استعماري حافل أمثال جيرو وكاترو وهوري وغيرهم. وقد صنفوا جيوشهم بطريقة الزحف والانتشار أو ما سمي عندهم بالانتشار كبقع الزيت. فهناك جيش يقوده بورنازيل من كومين رسميين وآخر احتياطي ومئتي مرتزق، وجيش فوري من كومين ومئتي مرتزق. هذا بالإضافة إلى قوة كبيرة من الفرنسيين وستة أسراب من الطائرات ( 44 طائرة ). ويعتبر يوم 28 فبراير يوما مشهودا ونقطة بارزة في تاريخ آيت عطا، إذ أبانوا فيه عن دراية وخبرة بالحروب والمعارك. فمنذ الساعات الأولى من ذلك اليوم، ظهر عجز وشلل القوات الغازية. فالمقاومون يدركون جيدا خطورة المستعمر. لذلك حاولوا الاستفادة من التضاريس الصعبة وتجنيدها ضد عنصر أجنبي عنها. وهذا ما حدا بالطبيب العسكري جون فيال إلى كتابة: "المقاومون يدافعون بطاقتهم الأخيرة، مختبئين وراء الصخور، في كهوفهم حيث لا تظهر إلا فوهة بنادقهم، يطلقون النار بدون انقطاع يحصدون خلالها جنودنا.".(4). كانت نقطة الضعف الأساسية عند المقاومين هي أسلحتهم ومعداتهم القديمة. لذلك كان هاجسهم الأول هو تعزيز إمكانياتهم الدفاعية ولم لا المبادرة بالهجوم؟. وقد بذلت جهود جبارة لهذا الغرض، منها شراء بعض الأسلحة من المهربين اليهود بأموال طائلة. وفي نفس الوقت نصب كمائن للقوات الغازية لانتزاع الأسلحة المتطورة. منها عملية تيزي نتدارت غرب ورزازات، وعملية أمسعد في صاغرو حيث استولى المقاومون على قافلة من 117 بغلة بعتادها بعد القضاء على حراسها. وبهذه الطرق وغيرها تسلح المقاومون لأول مرة بأسلحة متنوعة أهمها تلك ذات القذف السريع عوض "بوشفر "بطلقاته المتقطعة.5). وهذه الجهود من المقاومين كان لزاما أن تثمر نتائج هامة تفجرت فعاليتها يوم 28 فبراير. ذلك اليوم الأغر الذي أباد فيه المقاومون القوات الغازية إربا إربا، والتي لم تفلح في زعزعة أناس يدافعون عن وجودهم ويحصنون استقلالهم. ففي ساعات معدودة خاب الأمل الاستعماري وانطفأ الحماس العدواني، لتحل الكارثة بالغزاة منذ الساعة السابعة صباحا من ذلك اليوم. الثلوج تتساقط وكأنها بصدد إعداد كفن للاستعمار، والرياح الباردة تزمجر متوعدة. إن ذلك في ذهنية السكان البسيطة غضب من الطبيعة ولعنة من السماء ضد فرنسا. كانت الحصيلة كارثية للفرنسيين بكل المقاييس. فضباطهم يتساقطون صرعى. بورنازيل أسد الصحراء، الملازم الأول برانكلي، الملازم الأول بنيت، القبطان فوشو، الملازم الأول سيوراك والملازم أول تامبانيون من الفيلق السادس للرماة السنغاليين، والملازم بوادفان من الفيلق الثاني للرماة المغاربة، والملازم أليساندري والملازم بيرو وسي محمد من كوكبة الفرسان، والملازم لاريدون وهوبشويرلين من الشؤون الأهلية بالجزائر. هذا بالإضافة إلى مئات الجنود العاديين. وقد اضطر الجنرال هوري لوقف القتال. يقول: "غير مفيد الاستمرار في إراقة الدماء. هنا حيث فشل كل جنودنا الجيدين، أول جنود العالم وخاصة المؤطرون من طرف قواد كبورنازيل وبرانكلي. لا أحد سينجح. يجب البحث عن شيء آخر، الحصار.".(6). الحصار، تلك الوسيلة غير الإنسانية في الحروب. اعتمده الفرنسيون كوسيلة أخيرة للقضاء على حفنة من المقاومين. لم تفلح التكنولوجيا العسكرية الاستعمارية في قهرهم وإرغامهم على الخضوع والاستسلام.كان الحصار وسيلة غريبة حتى الفرنسيون لم يفكروا يوما بأن الظروف ستضطرهم لمحاصرة شعب ضعيف التسلح، قوي العزيمة. وهذا الحصار،كما اعترف بذلك كبار القواد الاستعماريين، يعني شن الحرب ضد النساء والأطفال والشيوخ، أي ضد المدنيين العزل. وهكذا مع بداية شهر مارس دخلت المنطقة صراعا جديدا وخطيرا، اتسم باشتداد الحصار على السكان، وتحملهم الموت البطيء. فمن جهة كثفت فرنسا جهودها لإيصال نجدات متواصلة إلى صاغرو حتى وصل عدد جنودها إلى حوالي 80 ألف جندي، بعد استقدام 3 فرق من المشاة. وأمام هذا التطور الخطير، ماذا فعل المقاومون؟ لقد حاربوا ب 1 مقابل 100 فرنسي. قاوموا بقوة لا تقهر وبثبات غير متزعزع. ديناميكيتهم ودقة طلقاتهم غطت نسبيا على قلة عددهم وضعف تسليحهم. غريزة الصراع من أجل البقاء جعلت منهم أسودا لا تقهر. لقد اعتمدوا الحرب غير المرئية مع الهجوم المباغت ثم الاختباء في الكهوف ووراء الصخور أو في أي حاجز توفره الطبيعة. وبذلك سقطت وتحطمت المعادلات الفرنسية على صخرة الواقع. فقد خيل إليهم أن الزحف على صاغرو لا يعدو أن يكون نزهة عسكرية أو رياضة تسلق الجبال. وبالتالي أين صحة التنبؤات التي أطلقها بعض منظري الاستعمار أمثال روبير مونتاني الذي قال عن المغرب: "بلد الثورات والفوضى، غير قادر على تشكيل كتلة مقاومة بسبب منافسة الأفخاذ والقبائل واللفوف.".(7). لقد دام الحصار زهاء شهر حيث ركز الغزاة أعمالهم ضد حظائر المواشي وتجمعات السكان وموارد المياه. كما أنهم ركزوا بطاريات بقذف مباشر وغير مباشر. وتم استقدام جنرال مختص من الرباط هو الجنرال رامون. وأسندت إليه قيادة المشاة. بالإضافة إلى نشاط المخابرات والجواسيس الذين تسللوا إلى صفوف المقاومين لخلق التناقضات بينهم وإذكاء النزاعات والحزازات القبلية. وبالإضافة إلى مختلف التدابير البشرية والمادية المتخذة والحيل الحربية، ارتكب الفرنسيون أعمالا خارجة عن نطاق الأعراف الدولية وقوانين الحروب مثل توزيع الخبز والسكر الملغوم، وإرسال دواب محملة بمواد قابلة للانفجار، مع نسف المزروعات وقصف الماشية وتفجير ينابيع المياه.(8). وتقول الشاعرة العطاوية بهذا الصدد: تاكوت ن انسمار أيد أغ ايلان ك عاري تاكوت ن انسمار أنزار أور داياد اكات أشارضو تناك اوت بوكافر امسد ألوض اوتاتن اوحدادي نك اولا الكوم ن بولا اوا مك ابزك اورومي اسيرس المهبولة يا سيد بوشفر ادود هياغ ك اسكيوار لقد كان هدف الغزاة الوصول إلى واحدة من النتيجتين التاليتين: إرغام السكان على الخضوع أو دفعهم إلى الموت جوعا.(9). ورغم ذلك كان السكان في مواقفهم أسودا رجالا ونساء، حيث تميزت المرأة بأنها لم تكن أقل شجاعة من الرجل. فقد كتب الطبيب العسكري الفرنسي جون فيال: "كانت النساء يزغردن لإذكاء الحماس في المجاهدين. يوزعن المؤونة ويأخذن أماكن الذين قتلوا. يدحرجن على المهاجمين أحجارا ضخمة تزرع الموت إلى عمق الوادي.". في 24 مارس 1933 وقع نقاش وجدال صاخب في معسكر المقاومين حول الاستسلام من عدمه. حيث في النهاية آثر أغلب السكان إنقاذ ما تبقى من الأطفال والنساء. وهكذا وقع الاستسلام بموجب اتفاقية منصفة. بل يتخيل متصفحها بأن المقاومين هم الذين انتصروا فعلا. ذلك أنها تضمنت بنودا كلها لمصلحة هؤلاء ومنها.(10). 1-الاستسلام للمخزن المغربي. 2-إبعاد سلطة الكلاوي عن أراضي آيت عطا. 3-إبقاء الأسلحة في أيدي السكان. 4-عدم تشغيل السكان في أعمال السخرة. 5-عدم استدعاء النساء للغناء في الحفلات الرسمية. ومن غرائب الصدف أن النساء اللائى وقعت المعاهدة باسمهن كن أول الرافضين للاستسلام. وقد واجهن المستسلمين بعاصفة من الاستياء وصحن في وجههم: "عار عليكم، أنتم لستم رجالا مادمتم ستصبحون عبيدا للنصارى."(11). بذلك تنتهي تلك الملحمة المجيدة ليبدأ الفرنسيون سيطرتهم المباشرة على المنطقة. حيث حققوا هدفا استراتيجيا وهو ربط درعة بتافيلات. وبعد حصول المغرب على الاستقلال، لم يتم تسجيل أي فرد من المقاومين ضمن قدماء المقاومين. وبالتالي لم يستفيدوا من تعويضات المقاومة المادية والمعنوية، تحت ذريعة أنهم من أنصار السيبة، وأن حملهم للسلاح كان لنزعتهم الثورية والعصيان على الدولة!. (حسن الكاغ في 27-02-2007 ) الهوامش: 1-جاء ذلك بعد أن رفض آيت عطا التعاون مع الفرنسيين عبر برقية إلى الحامية الفرنسية في أرفود، جاء فيها: "عليكم بالمجيء إلى هنا للبحث عن الجواب.". انظر سبيلمان: آيت عطا الصحراء، ص38. 2-نفس المرجع، ص 15 و 16. 3-جون ديسم: بورنازيل الرجل الأحمر.ص 230. 4-هوري: تهدئة المغرب، المرحلة الأخيرة.ص 114. 5-دافيد هارت: الأفارقة.ج5.ص82. 6-هوري: نفسه.ص 103. 7-روبير مونتاني:البربر والمخزن في الجنوب المغربي.ص 4. 8-الرواية الشفوية. 9-هنري دو بوردو: الملحمة المغربية.ص325. 10-ألبير عياش:المغرب حصيلة استعمار.ص330. 11-سبيلمان: نفسه.ص 143.
|
|