| |
الداروينية اللغوية والبقاء
للأصلح
بقلم: مبارك بلقاسم (هولاندا)
إذا تأملنا تاريخ تطور لغات العالم على مختلف المستويات، نجد
الدور المحوري والأساسي الذي لعبه الإنسان، فردا أو مجتمعا، في تغليب كفة لغة ما
على أخرى ونشر لغة ما والقضاء على أخرى، أو الحد من انتشارها. والدور الإنساني
المقصود هنا هو مجموع الأفعال والتدخلات التي يرتكبها (يقوم بها) الإنسان/المجتمع
لتغيير أو تعديل وضعية اجتماعية أو اقتصادية معينة فتكون لها آثار مباشرة أو غير
مباشرة، متعمدة أو غير متعمدة على اللغة والثقافة المصاحبة لها. لا يهم هنا أن نضع
هذه التدخلات والأفعال الإنسانية عبر التاريخ في ميزان الخير والشر، لسبب بسيط هو
ما برهن عليه الإنسان في تاريخه الطويل من أنانية وحب للتملك والسيطرة والتمتع
بخيرات الحياة، والذي يبرر (ويفسر) كثيرا من الأحداث التاريخية ونتائجها الاجتماعية
والثقافية (واللغوية).
إن المهم هنا هو فهم هذه النواميس والميكانيزمات جيدا لنتمكن من إنقاذ اللغة
الأمازيغية تحديدا من اللحاق بأخواتها وزميلاتها من اللغات المصرية والهندية
الأمريكية والأشورية... إلخ.
إنه لمثير للاهتمام والإعجاب حقا نجاة اللغة الأمازيغية من الانقراض على غرار
العديد من اللغات العظيمة الأخرى التي هي الآن في ذمة التاريخ، وأيضا العشرات من
اللغات في وقتنا الحاضر التي تنقرض بمعدل لغة واحدة كل أسبوعين حسب آخر إحصاء لإحدى
المنظمات العالمية!! لقد بقت اللغة الأمازيغية حية رغم تواجدها في منطقة أسميها
مجازا «مهب الريح» و»مجرى الفيضانات»... إنها منطقة شمال إفريقيا المطلة على البحر
المتوسط بسواحل طويلة والإستراتيجية بامتياز. لقد شهدت منطقة شمال أفريقيا
(ثامازغا) في تاريخها الطويل آلاف الحروب الطاحنة سواء بين الأمازيغ أنفسهم (قبائل
وممالك) أو بين الأمازيغ والغازي الأجنبي (رومان، قرطاجيون، وندال، عرب، إسبان،
فرنسيون، برتغال، إيطاليون)، و تمحورت هذه الحروب بالطبع حول الرغبة في السيطرة
الاقتصادية والسياسية.
لقد كان من المنطقي جدا والوارد جدا أن تتعرض منطقة «مهب الريح» و «مجرى الفيضانات»
هذه لـ»تعرية لغوية» و»غسيل لساني» من الدرجة الأولى تنقرض بموجبه ثامازيغت من
الوجود نهائيا ويخلو الميدان بشكل كامل للغات أخرى قد تكون اللاتينية أو الفرنسية
أو الإسبانية أو العربية.
لقد حدثت هذه التعرية اللغوية والغسيل اللساني في فترة الاحتلال الروماني وتراجعت
بعد رحيله وحدثت مرة أخرى بعد الغزو العربي الأموي لبلاد الأمازيغ ودخول الإسلام
وانتشاره. وما لبثت موجة التعريب أن انخفضت وتيرتها بعد استقلال المغرب الأمازيغي
عن المشرق العربي بسبب قيام ممالك إسلامية أمازيغية قوية اقتصاديا وعسكريا ودعمها
لتقريب الإسلام للفرد بلغته المحلية أي الأمازيغية، وتأليف كتب دينية بالأمازيغية،
ووصل الأمر إلى الأذان للصلاة بالأمازيغية ومحاولات لترجمة القرآن إلى الأمازيغية.
ولكن بقيت للعربية مكانة قوية في عهد الممالك الأمازيغية باعتبارها لغة القرآن
والإسلام وأداة التفقه فيهما. كما ساهمت هجرات قبائل عربية بأكملها إلى ثامازغا
هربا من ظروف سياسية بالمشرق العربي وبحثا عن الثروة والاغتناء بالمغرب في تقوية
التعريب وامتداده.
ويمكن تلخيص معظم أسباب نجاة الأمازيغية من الانقراض الكامل كالتالي:
- اعتزاز الأمازيغ على امتداد تاريخهم بلغتهم وثقافتهم ومكتسباتهم واستعدادهم
الدائم للدفاع عنها (وهذا بالمناسبة ينطبق على جميع شعوب العالم بدون استثناء). إلا
أن هذا لا ينفع كثيرا حينما تكون القوة المادية والعسكرية للخصم متفوقة كثيرا. وهذا
ما يفسح المجال للتفسيرات المادية البحتة.
- عامل سياسي: الاستقلال المبكر نسبيا للغرب الإسلامي الأمازيغي عن الشرق الإسلامي
العربي وقيام ممالك أمازيغية إسلامية قوية اعتبرت قوى اقتصادية وعسكرية وازنة في
حوض المتوسط امتدت سيطرتها إلى الأندلس في عهد الإمبراطوريتين الأمازيغيتين
المرابطية والموحدية.
- عامل جغرافي: يتمثل في احتماء السكان بالمناطق الجبلية الوعرة والاستقرار بها
اتقاء للغزاة (رومان، وندال، عرب...)، وانعزال الكثير من القبائل الأمازيغية
بالمناطق الصحراوية الجافة الشاسعة والمناطق شبه الجافة، والتي لا تجذب الغزاة
الباحثين عن المناطق السهلية ومصادر المياه. وهكذا طال التعريب المناطق السهلية
الخصبة بشمال أفريقيا أكثر على وجه العموم، وقل، بل غالبا ما انعدم في المناطق
الجبلية والصحراوية مع وجود استثناءات في كلتا الحالتين (سهول سوس، الصحراء
المغربية، القبايل )
- نظام ملكية الأرض: حيث إن التعريب طال المناطق الرعوية أكثر من المناطق الفلاحية
الصرفة والمملوكة وذلك بسبب تملك الأمازيغ للأراضي الفلاحية وتوارثها فيما بينهم.
- المسافة الجغرافية: يمكن ملاحظة أن درجة تعريب شمال إفريقيا من مصر إلى المغرب
تقل كلما اتجهنا غربا. فمصر تعربت بشكل كامل (باستثناء واحة سيوا وما جاورها) بينما
لم يحدث الأمر نفسه بليبيا، والجزائر مازالت أمازيغية بقوة أما المغرب فهو اليوم
أكبر بلد أمازيغي في العالم وهو الأقل تعربا في شمال أفريقيا.
على المستوى العالمي تسود اليوم العالم لغات قوية أهمها الإنكليزية التي وصلت إلى
مكانتها الحالية بعد تضافر عدة عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية تحركها نفس
القوانين التي تسود في أي بقعة من العالم. واليوم يقاس مقدار قوة لغة بـ:
- حجم وجودة الإنتاج الأدبي والفني بتلك اللغة.
- قدرتها على التعبير عن تطور العلوم والتكنولوجيا وإيجاد مصطلحات ومفاهيم جديدة.
- قدرتها على التطور والانتشار والاندماج في الحياة اليومية من أبسط صورها إلى
أعقدها.
كما أن اللغة تتقدم إلى الأمام حينما يتوفر لها الدعم المالي والمادي والاهتمام
المعنوي.
وربما يكون سبب انكماش لغة ما وتراجع استخدامها هو تنازل متكلميها عن استعمالها
حينما يتعاملون مع «أجنبي» ذي لغة مختلفة، ولابد أن المقارنات التالية تعبر عن ذلك:
- إذا التقى مغربي يتحدث الأمازيغية مع مغربي يتحدث العربية الدارجة فالغالب أن
يتحدثا بالعربية الدارجة.
- إذا التقى مغربي مع فرنسي فسيتواصلان بالفرنسية.
- وإذا التقى مغربي مع عربي من المشرق فالأرجح أن يبذل المغربي جهده ليتكلم دارجة
متفصحة أو إحدى اللهجات المشرقية.
- إذا التقى فرنسي بأمريكي فسيتواصلان بالإنكليزية على الأرجح.
- وستكون الإنكليزية أيضا هي لغة التواصل على الأرجح بين ألماني وإسباني أو بين
فرنسي ومصري أو بين صيني و إيطالي.
عموما تفرض اليوم الفوارق الديموغرافية والاقتصادية والمعرفية بين دول وشعوب العالم
أيضا فوارق لغوية تتجلى نتائجها في مجموعة من السلوكات والاختيارات ناتجة عن سياسات
لغوية معينة.
ففي حوض المتوسط نلمس حضورا ديمغرافيا قويا للغات الأوروبية تتصدره الفرنسية التي
تتقوى أكثر بحضورها المهيمن في «مستعمراتها الثقافية الحالية» بدول المغرب الكبير،
كما أن الإيطالية والإسبانية موجودتان وإن ليس بدرجة الفرنسية. أما العربية
بلهجاتها المختلفة وإن كان لها وزن ديموغرافي مهم فإن وزنها الاقتصادي والعلمي
الضئيل يقلل كثيرا من قيمتها. فيما برزت لغات متوسطية ممعيرة وقوية نوعا ما وهي
التركية واليونانية الحديثة والعبرية. وليس من المبالغة القول إن الأمازيغية حاليا
ليست لها أية أهمية اقتصادية أو علمية في حوضها القديم الجديد، حوض المتوسط، بل
وإنها لمهددة جديا أن تصبح لغة أقلية ديموغرافية بسبب سياسة التعريب والفرنسة
المركزة الجاري بها العمل بالمغرب والجزائر والتعريب القسري المستمر بليبيا.
على المستوى العالمي أصبحت صدارة اللغة الإنكليزية من البديهيات، بل ويعتبرها
الكثيرون لغة عالمية رسمية غير معلنة رغم أنها لا تمثل الكتلة الديموغرافية الأكبر.
وهكذا تعتبر هذه اللغة أداة التواصل الأسهل في محافل ومؤتمرات الأمم المتحدة
والإتحاد الأوروبي وغيرها، وأصبحت الإنكليزية تدرس كلغة أجنبية أولى بأغلب دول
العالم. ولابد أن سهولة قواعدها اللغوية (التي نتجت عن تبلور دام قرونا) وكذلك
الإنتاج الأمريكي الضخم من المواد الفنية والترفيهية (أفلام، أغانٍ، ألعاب...) لا
يساهم إلا في زيادة انتشارها. كما أن 70% من المواد على الإنترنت هي بالإنكليزية
وتعتبر الكتلة الإنكليزية هي أكبر ناشر للمطبوعات في العالم. إلا أن المنافسة
اللغوية ما تزال قائمة عالميا وتعتبر الكتلة الإسبانية (إسبانيا+أمريكا اللاتينية)
الرابعة عالميا على المستوى الديموغرافي مع تزايد أهمية الإسبانية عالميا. ولا يجب
أن ننسى الكتلتين اللغويتين الضخمتين الصينية والهندية ولا ريب أن صعودهما عالميا
مرتبط بالتنمية الاقتصادية والعلمية السريعة التي تشهدها كل من الصين والهند. أما
الفرنسية فرغم كونها لغة متطورة ومهمة وعالمية فوزنها الديمغرافي لا يسمح لها كثيرا
بالصراع على الصدارة لا في الاتحاد الأوروبي ولا على الصعيد العالمي وتكتفي فرنسا
بممارسة نوع من «الحماية الثقافية» على مستعمراتها السابقة ترمي إلى ترسيخ اللغة
الفرنسية هناك. وتعتبر دول المغرب الكبير (باستثناء ليبيا) أبرز حقول هذه
«الحماية»، المتضرر الأكبر منها هي اللغة الأمازيغية.
نستنتج مما سبق وجود داروينية لغوية حقيقية تصول قوانينها غير المرئية وتجول حول
أرجاء العالم وتنتخب ما تراه الأصلح من اللغات للبقاء وتهمل الباقي فيما تحكم على
الحلقات الأضعف بالإعدام اختفاء من الوجود. وإنها لمسؤولية حقيقية لكل من لا يريد
للأمازيغية الاختفاء من الوجود أو التحول إلى لغة أقلية أن يبذل قصارى الجهد فرديا
وجماعيا بالإنتاج بهذه اللغة والترجمة منها وإليها وإدماجها ما أمكن في الحياة
اليومية والمجالات الأكاديمية على السواء.
|