| |
"بويلماون" بين التأصيل للمسرح
الأمازيغي وقفص الإتهام: أيت أبلال- دمنات نموذجا
بقلم : حقي عبد اللطيف* (دمنات)
الزمن
عيد الأضحى،المكان قبيلة أيت أبلال بنواحي مدينة دمنات، هذه الأيام المميزة لعيد
هذه السنة، حيث أعيد إلى الواجهة نقاش حاد وتساؤل كلاسيكي يبدو من الوهلة الأولى
انتهازيا واستهلاكيا. إنه النقاش حول تظاهرة buylmawen، التظاهرة ذات المسحة
المسرحية، جعلتنا كمهتمين بالمجال الفني، والمسرحي بالدرجة الأولى، نولي هذا النقاش
اهتماما خاصا، خاصة وأنه نجح هذه المرة في تغليب الإرادة الشعبية على إرادة
المتفيقهين المتأسلمين، ومن والاهم ممن غرر بهم من بعض السكان، حيث يعتبرون تظاهرة
buylmawen رجسا من عمل الشيطان، وهو ما جعل سؤال: علاقة الفنون الشعبية والموروث
الثقافي الأمازيغي على وجه الخصوص بالدين؟ يطفو على السطح،هذا الموضوع الذي اعتبر
متجاوزا حتى من أرباب وسدنة هؤلاء المتفيقهين وهم الذين يريدون بتحريم كل شيء جعل
بيوت الله أماكن للرهبنة والانزواء. إنه السؤال الذي أنتج العديد من فتاوي التحريم
التي طالت ليس فقط buylmawen بل تجاوزته إلى فنtamedyazt ، AHWAC ، IZID n lhenna ،
le3rif...إلخ واعتبار كل ممارس لهذه الأنشطة زنديقا! هذا السؤال الذي استطاعت قبيلة
أيت ابلال مقاومته والتصدي له في سياق مقاومتها للتهميش و الإقصاء والعزلة. والكل
يذكر المسيرة الاحتجاجية التي شملت سكان أكثر من أربعة عشر دوارا ومدشرا، إنه
النضال والاستماتة من أجل التحرر والانعتاق ونفض غبار "الحكرة" والتهميش عن القبيلة.
استيقظت قبيلة أيت ابلال في اليوم الثاني للعيد على وقع استعداد الشباب للاحتفال،
هذا الشباب الذي لم يهمه أبدا موضوع التحريم الذي استهلك بما فيه الكفاية لمدة
أسبوع، أي بعد خطبة الجمعة قبل العيد، التي أسهب فيها الفقيه وأطنب في إيراد أدلة
اللغو، والشغل عن ذكر الله ـ وهي ليست بأدلة الموضوع ـ وأضاف أن ما يصاحب التظاهرة
من فرح واختلاط وكثرة الضحك دليل على حرمتها، أو كما، يحلوا للمدافعين عنه وأتباعه،
هذه الأدلة تجعل التظاهرة في درجة كبيرة من الكراهية. هذا الفقيه المتأسلم، الذي
تخصص قبل هذه الجمعة في توزيع الفتاوي المجانية على ما سبق ذكره le3rif و tamedyazt
.. إلخ، وهو الذي - الفقيه- يستشهد من فوق المنبر بما يروق له من شعر العرب، لإثبات
تبحره في عمق اللغة العربية، وتمكنه من علوم الآلة، مما يعطيه بالطبع - حسب اعتقاده
- حق الاجتهاد ليلحق buylmawen إلى ركب المحرمات، وهنا يحق أن نتساءل أليس le3rif و
tamedyazt شعرا مثله مثل ما يستدل به من شعر العرب، بل هو أكثر ولا ذنب له إلا أنه
باللغة الأمازيغية، لغة هؤلاء المهمشين المقهورين، القابعين في سفوح جبال راث RAT،
غير راغبين في أي شيء من المدنية سوى الحفاظ على هويتهم وموروثهم الثقافي الأمازيغي.
ألا يعلم هذا المتفيقه ومن ولاه أن هذه القبيلة يضرب بها المثل في الدين
والاستقامة، وأنها عرفت عبر التاريخ فقهاء وعلماء أبناء المنطقة من أبرزهم كل من سي
حماد نايت علي أو حساين، والسي بوبكر نايت منصور الذي اشتغل بالعدالة وسي احماد
نايت اموي، إضافة إلى الفقيه العالم السي اليزيد السويرتي الأسوي والد المناضل
الحاج محمد الأسوي الفقيه أيضا، هؤلاء الرجالات والأعلام الذين عاصروا هذا الموروث،
وأقروا أهل القبيلة عليه، بل إن منهم من كان يساهم في تنظيم هذه التظاهرة.
تابع الشباب خياطة الجلود وسط جو مفعم بالتضحية وروح المبادرة، والرغبة في إثبات
الذات. إنه الحنين إلى الماضي الغابر، جهزت الشخصية الرئيسية في التظاهرة، tafunast
n buylmawen، الشخصية البارزة التي تعود بنا إلى زمن القناع والتنكر، كلون من ألوان
المسرح زمن الشمانية(1) والقديسين في العصور الغابرة. وهذا ما يهمنا في هذه
التظاهرة، أي اعتبارها نوع امن المسرح الاحتفالي بكل المقاييس. ذاع الخبر في كل
أرجاء القبيلة وأقبل الناس من كل صوب وحدب، وبدأ الاحتفال - و هو أول فشل ذريع يلحق
بالمتفيقه وأتباعه - على الشخصية الرئيسية / tafunast n buylmawen، أن ترتدي القناع
بعيدا عن أنظار الناس، أن لا يعرف المتقنع المتقمص لهذه الشخصية وأن يلتزم الصمت
طيلة أيام الاحتفال، إنها قواعد اللعبة ضمانا لنجاح الشخصية في أداء مهمتها. لطالما
كان عنصر التخفي والتنكر عنصرا مباشرا وأساسيا في أداء الدور على الوجه الأكمل،
والقناع بهذا المعنى واحد من أصعب موثيفات الثقافة الشعبية(2) كما أكد ذلك ميخائيل
باختين.
إن دراسة الشخصية المقنعة / tafunast n buylmawen / الرئيسية والمحورية تبدو مختلفة
على الأقل مظهريا عند مقانتها من حيث الرؤية الحسية مع عالمها الخارجي (الناس)، حيث
تكون هذه الشخصية مكسوة بجلد الماعز على مستوى الجسد والرأس أيضا، حيث يتم سلخ رأس
الماعز ليوضع كقناع للوجه، القناع بهذا المعنى مرتبط بالمعنى الحقيقي والقديم
للقناع الذي ما يزال بعيدا عن إدراكنا المعاصر الجزئي المتمركز حول الصور الحسية
المباشرة، المغرمة بما هو مرئي/ محسوس، حيث أنه النتاج الطبيعي لإيماننا بقيمة
الفردي في مقابل قيم الجماعة والوحدة ( مجتمع الأسرة، العشيرة، القبيلة) إضافة إلى
أن المشاركة الجماعية والتي كان القناع بها جزءا عضويا من حياة الناس، وليس مجرد
حيلة مسرحية وعنصرا احتفاليا أو حيلة تشكيلية.
وهكذا نجد رصيد الشخصية المقنعة / tafunast n buylmawen، يتكون من حركات تعبيرية
مشخصة دون أن تتفوه هذه الشخصية بأية كلمة، هذه الحركات التي تعكس معالجة مسرحية
لمختلف الأحداث المثيرة لانتباه الشخصية طيلة أيام السنة، وهذه الشخصية تقوم
بمناقشة كل هذه المواضيع بطريقتها الخاصة/ المسرحية. والقناع يسمح لها بتجسيد أية
حركة يتم الإعداد لها مسبقا، تلك التي لا يمكن للشخصية أداؤها من غير القناع، وهو
الفهم التقليدي والعريق للقناع، فالقناع إذن يضمن لها التحرر من قيود المقدس،
وتأثير المحرم tabous والخروج عن المعتاد / السائد، إثارة للتسلية والضحك والفرح.
إنه تعبير واضح ضمني عن شوق الإنسان الغريزي إلى الفرح وإلى الاحتفال كمساحة مفتوحة
للمشاركة والإبداع الجمعي، وهو أيضا ما يفسر استمرار الجرح القديم الذي أصاب
الإنسانية في قلب وجودها الملتئم لاختراع الكتابة.
إن ارتكاز الشخصية المقنعة tafunast n buylmawen على عنصر المحاكاة والتقليد هو ما
يجعلنا نعود إلى البدايات الأولى لفعل التمسرح، والتي يرجع جل كتاب ومؤرخي المسرح
بدايته إلى الإنسان الأول الذي كان في تلك الليلة الباردة جالسا إلى ناره يشوي
فريسته، وفي انتظار أن يكون الطعام جاهزا يحكي لأفراد عائلته المترقبين بلهفة
الكيفية التي تمت بها المطاردة المفضية للحصول على الطريدة (3)، ذلك الشوق الذي
يحمله لإعادة ذلك العمل البطولي محاكيا تلك الحركات من بحث ومطاردة إلى بلوغ الهدف،
ليتحول الحدث الذي كان إلى عهد قريب مهما وخطيرا إلى لهو ومتعة، تبعث المرح والسرور
في القناص / المشخص، وأفراد عائلته/ الجمهور المتحلق حول النار/ الإضاءة لتكتمل
عناصر التمسرح ويتأثث فضاء المسرحي. وبذلك تكون الشخصية الرئيسية للتظاهرة شخصية
مسرحية بامتياز وفق ما رأينا، وسكوتها مع حركات معبرة ومحاكاة يجعل منها شخصية -
ميمية- بالمعنى الدقيق كفن مسرحي متميز. لم تكن الشخصية الرئيسية في التظاهرة وحدها
ولكن بجانبها شخصيات أخرى عادية ليست مقنعة ولكن ترتدي كل أنواع الملابس المثيرة
للضحك، والتي غالبا ما تكون انعكاسا لتلك الملابس المثيرة للاستغراب أو المخالفة
للمعتاد، والمتفرج يضحك ويصفق ويدفع بسخاء، يقف وفد buylmawen أمام منزل تجري
الفرقة حوارات ساخرة طالبة من صاحب المنزل أن يصلحوا له الأواني المكسورة أو
الأحذية المقتلعة، وتجري محاكاة لمهن عديدة، والجمهور من طفل وشيخ وامرأة وشاب
يتابع باهتمام ما يجري، ينفجر ضاحكا ملء فيه، ويلتزم الصمت ليسمع الحوار فيصفق عند
الانتهاء، وهو ما يجعل صاحب المنزل يعطي ويجل في العطاء وبكل سخاء، وهو الشرط نفسه
وراء كل عرض مسرحي، بل هو الحافز الرئيسي ومسعى كل من الممثل والمخرج والمؤلف أيضا.
وتتكرر المشاهد أمام منزل ودون ملل يجمعون العطايا، ولا يشترطون نوعها ولا كمها.
يجمعون ما يطعمون به أهل القبيلة كلهم دون استثناء في حفل بهيج يسوده الالتحام
والتآزر، فأين يتجلى التحريم إذن؟ ! في اليوم الأخير من انتهاء تظاهرة buylmawen
تجتمع القبيلة في ساحة Asays ليتنوع الاحتفال أحواش تانظامت، العامت، العريف... إلخ
فصول مسرحية هزلية من صلب المجتمع، إنه الاحتفالية كما أسلفنا، مسرح تكون فضاءاته
كل دروب وأزقة دواوير القبيلة بفضاءاتها المختلفة والمتنوعة، وهذا التنوع يضفي
إغناء لما سنسميه أخيرا البدايات والأصول الأولى لعناصر المسرح الأمازيغي.
وأخيرا، وليس آخرا، يحق لنا أن نتساءل وهو ما يمكن أن يكون مفتاحا لمقالة أخرى،
أليس جديرا بالمسرح المغربي اعتبار جذوره أمازيغية عوض البحث عن مسرح آخر بعيد عن
ذاته ليتبناه؟ وهو قد يكون - أي المتبني - في الأصل من دون جذور .. !
هوامش:
1ـ الشمانية: الديانة التقليدية لشعب التونجيين الذي يعيش في شرق سيبريا يعتمد
الشمان على القناع للاتصال بالأرواح الشريرة والطيبة وبالتالي التحكم فيها. د. صالح
سعد «الآنا - الآخر « سلسلة عالم المعرفة مطابع السياسة الكويت2001 ص 105.
2ـ باختين ميخائيل « فرانسوا رابيلييه- و الثقافة الشعبية» ط موسكو دار الآداب
الفنية 1975
3ـ صالح سعد « الآنا - الآخر « سلسلة عالم المعرفة مطابع السياسة الكويت2001 ص 64
دمنات في :09/02/2005
*حقي عبد اللطيف ماسين مناضل بجمعية أناروز للثاقة والتنمية والبيئة دمنات،رئيس
فرقة أكليف للمسرح و مؤلف مسرحي
|