| |
محمد شفيق:لحظة انعطاف في الفكر المغربي
بقلم: رشيد نجيب سيفاو
تصعب
كثيرا الكتابة عن الأستاذ العميد محمد شفيق كمفكر ومثقف أمازيغي من العيار الثقيل,
كهرم ثقافي ذي فكر ثاقب متعدد الأبعاد والمشارب, كباحث ملم بجزئيات وتفاصيل ليس فقط
الثقافة الأمازيغية ولكن بمجموعة من الثقافات والحضارات التي تعامل أستاذنا معها
مسلحا بعناصر منهجية وتحليلية صارمة اكتسبها عبر تعامله المبكر والطويل مع مجموعة
من المعارف والعلوم الإنسانية، وبالدرجة الأولى: علوم التربية, علم التاريخ,
اللسانيات...ويهمنا من خلال تقديم هذه اللمحات السريعة من فكر وحياة الأستاذ محمد
شفيق تكريم أحد أكثر المثقفين والمفكرين المغاربة إخلاصا للثقافة الأمازيغية, يشهد
على ذلكم الإخلاص والوفاء ركام الأبحاث والدراسات والأعمال التاريخية واللسنية
والفكرية التي أنتجها الأستاذ والسجالات الحوارية التي قام بها إسهاما منه في
الحفاظ على اللغة والثقافة الأمازيغيتين وصيانتهما عبر إيجاد المكانة اللائقة بهما
في المجتمع. هدفنا هو تعريف شباب إيمازيغن بواحد من رموز الحركة الثقافية
الأمازيغية بالمغرب الذي كان من السباقين الذين تجسد لديهم وعي عصري، لا تقليدي،
بالهوية الأمازيغية, وكذلك لكي يستحضر هذا الشباب مجمل القيم التي أطرت ووجهت عمل
هؤلاء الرموز سلوكا وتفكيرا ومنهجا وتطبيقا, فتصبح بذلك ذاكرتنا الثقافية الفكرية
الوطنية محصنة ومصانة.
ازداد محمد بن علي شفيق في 17سبتمبر1926 بأيت سادن بنواحي فاس. وهو من قدماء تلاميذ
ثانوية أزرو. اختار بعد تخرجه العمل في المجال المدني عكس العديدين من أقرانه, إذ
جرت العادة أن معظم المتخرجين من النظام التعليمي الذي كانت ثانوية أزرو خاضعة له يلتحقون
بالخدمة في الجيش الفرنسي كضباط عسكريين. حصل شفيق على شهادة في اللغة العربية وعلى
إجازة في التاريخ وديبلوم في التفتيش المهني. عمل في سلك التدريس بداية أمره في
منطقة دمنات, وكان من الأوائل الذين اهتموا بتمدرس الفتاة بالعالم القروي وقد أسس
لهذا الغرض سنة 1955 الأقسام الأولى لتعليم الفتيات ببادية تايسا, ودرس أيضا في
معهد البنات المسلمات بفاس. شغل مع بزوغ فجر الاستقلال مهمة مفتش بالتعليم
الابتدائي بمجموعة من المدن المغربية قبل أن يعين مفتشا جهويا سنة 1959, ثم مفتشا
عاما للتعليم الابتدائي منذ 1963. وفي سنة 1967, تمت ترقيته إلى مفتش مركزي منسق
لمادتي التاريخ والجغرافيا وعين سنة 1970 كاتبا للدولة مكلفا بالتعليم الثانوي
والتقني والعالي وتكوين الأطر, وهو نفس المنصب الذي احتفظ به في الحكومة المكونة في
غشت 1971. ومن 13 أبريل إلى 19 من نونبر من نفس السنة, عين محمد شفيق مكلفا بمهمة
في الديوان الملكي وفي نفس الوقت مديرا للمعهد المولوي بالرباط. وعبر مسيرته
التعليمية الطويلة, درس محمد شفيق اللغتين العربية والفرنسية والتاريخ والترجمة
وعلم التربية وعلم النفس التربوي مساهما بذلك في إعداد وتكوين أجيال من المتعلمين
والمدرسين والمفتشين والباحثين. بعد إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية, عين
عميدا له من 14 يناير 2002 إلى غاية نونبر 2003 حيث عين الدكتور أحمد بوكوس خلفا له.
وهو عضو بأكاديمية المملكة منذ 1980 وكذلك بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في
صيغته الثانية المعدلة.
كان محمد شفيق ولا يزال واحدا من المفكرين والمثقفين المغاربة النادرين الذين يرجع
إليهم الفضل الكبير في الدعوة إلى العودة للذات والجذور الوطنية وتراث الأجداد,
والدعوة إلى الحفاظ على المقومات الهوياتية والتاريخية والثقافية لوطننا, بعيدا عن
أي ذوبان سواء في قيم وأفكار الشرق أو الغرب على حد سواء, هذا في الوقت الذي كانت
فيه طائفة كبيرة من النخبة المثقفة ببلادنا- ولاتزال على ما يبدو- منبهرة سواء
بالشرق أو بالغرب مصرة على الإقتداء بهذا أو ذاك ليكون بمثابة القدوة والنموذج الذي
ينبغي السير على خطاه بله تقليده. وبدعوته تلك, جسد المغربي الوطني محمد شفيق لحظة
انعطافة كبرى وقوية في تاريخ الفكر المغربي المعاصر.
هذه الدعوة إلى عدم التنكر للذات, حدت بمحمد شفيق أن يكون من أوائل المدافعين عن
اللغة والثقافة الأمازيغيتين, مرماه في ذلك الوصول إلى الاعتراف المؤسساتي
والمجتمعي بالتنوع والتعدد اللذين تمتاز بهما الهوية المغربية. وقد تميز نضاله
بتنوع المسالك والسبل التي سلكها وكان أبرزها مجال النشر والإصدار, فلقد بدأ في
بداية الستينيات نشر سلسلة من المقالات حول الدلالات العميقة للثقافة الأمازيغية
وارتباطها العميق كثقافة وطنية بمكافحة المستعمر والعمل من أجل استقلال البلاد
وتحررها من نير الاستعمار, وكانت أولى هذه المقالات قد صدرت بالعدد الخامس من مجلة
آفاق الصادرة سنة 1967 عن اتحاد كتاب المغرب الذي كان اسمه في تلك الفترة "دار
الفكر" ويرأسه المرحوم محمد عزيز الحبابي, وحملت المقالة عنوان: "من تراثنا المجهول:
تصنيف مقتصر للأغاني والرقصات الأمازيغية", تلتها بعد ذلك في نفس السنة وفي العدد
السادس من نفس المجلة مقالة ثانية بعنوان " من تراثنا المجهول: قصائد أمازيغية في
الحماس الوطني", ولكن الأهداف المتوخاة منهما لم تتحقق, إذ لما سئل الأستاذ عن
تأثير تلك الدراستين ووقعهما على مثقفي تلك المرحلة أجاب: "لم يكن لهما محل من
الإعراب" (حواره مع جريدة النشرة العدد 59, أبريل1997).
ومن خلال رد فعل النخبة المثقفة التي كانت ممثلة بدار الفكر, والذي يجسده الموقف
الخجول، بل الغائب من المضمون الأمازيغي لتلك الدراستين المنشورتين بآفاق, تبين
لشفيق عدم الجدوى والفائدة من النقاش مع المثقفين المتشبعين بأفكار القومية العربية.
فاتجه نحو محاورة المفكرين المحسوبين على التيار الإسلامي, وحاول إقناع الحاملين
لهذا الفكر بأن الإسلام دين جاء للإنسانية جمعاء دون أن يكون مقتصرا على فئة دون
أخرى وأن قوة الإسلام تكمن في دعوته للتسامح وليس بتفضيله ونصرته لعرق (هو العرق
العربي كما يعتقد أولئك) على حساب أعراق أخرى, وقد بدأ شفيق هذا الحوار منذ بداية
السبعينات وتوجه بإصداره لمؤلفين هما: "أفكار متخلفة" Pensés sous-développées سنة
1972 و» ما يقوله المؤذن»Ce dit le Muezzin سنة 1974, بيد أن نوعية الخطاب الذي كان
سائدا في هذه الفترة حيث كان مد القومية العربية قويا, سهلت رواج أفكار بعيدة كل
البعد عن حقيقة الإسلام, مثل القول بأن الإسلام ذو بعد إثني عربي, معتبرة إياه دينا
عربيا, وأن الإسلام يستلزم تعريب الشعوب التي ليست ذات أصول عربية... وكل هذه
الأشياء وغيرها كانت مغالطات طبل لها التياران الإسلامي والعروبي اللذيان حملا معا
شعار «العروبة والإسلام», هذه المغالطات سعى محمد شفيق إلى تفنيدها في حواره مع
هؤلاء, وكثيرا ما ضمن شفيق أبحاثه آيات وأحاديث تحث على المساواة اللغوية والتعدد
اللغوي وتدعو إلى تعلم الألسن.
ونشير أنه في فترة السبعينيات, بالضبط سنة 1978, أعد الأستاذ شفيق تقريرا رفعه بصفة
شخصية للحكومة, أسماه " تقرير حول ضرورة العناية باللغة الأمازيغية وضرورة تدريسها
للمغاربة كافة", حدد فيه الأسباب الموضوعية القاضية بوجوب دراسة اللغة الأمازيغية
وتدريسها, كما اقترح لهذا الغرض الخطة الإجرائية التي ستنبني عليها عملية التدريس
والتي يرى أن تبدأ في مرحلة أولى بإحداث معهد وإحداث كراسي في كليات الآداب, ثم
إدراج الأمازيغية في التعليم الثانوي, كمرحلة ثانية, والتعليم الابتدائي كمرحلة
ثالثة.
ورغم نهجه أسلوب الحوار, لم يرد مثقفو التيارين الإسلامي والعربي تفهم أفكار شفيق
حول أهمية الاعتراف بحقوق اللغة والثقافة الأمازيغيتين والعناية بهما, بل رفضوا حتى
مقارعة حججه بحججهم, وإزاء هذا التعصب لم يجد أستاذنا محمد شفيق من متفهمين
لأفكاره سوى المثقفين المؤمنين بخطاب حقوق الإنسان- وما أقلهم- كرسالة عالمية أدمجت
المطالبة بالحقوق الهوياتية ضمن التعددية اللغوية والثقافية التي تكتسي أهمية في
إطار هذا الخطاب ويدعو العالم المتحضر إلى الحفاظ عليها. في هذه المرحلة, واصل محمد
شفيق أعمال التأليف والنشر, ولكن من زاوية أخرى أكثر أهمية, هي زاوية البحث العلمي,
وركز اجتهاداته البحثية بالأساس فيما يهم التاريخ واللغة. ونشر مجموعة من الدراسات
حول الأمازيغية بمجلة " البحث العلمي" ومجلة" الأكاديمية". لكن أهم ما أنتجه كان
كتابا بعنوان " لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين" سنة 1989 مكسرا
بذلك العديد من الطابوهات التي ترسخت حول ئمازيغن. كما أغنى المكتبة اللغوية
الأمازيغية سنة 1990 بمعجم عربي- أمازيغي في ثلاثة أجزاء بطبع من أكاديمية المملكة
المغربية, وفي 1991 أصدر كتابا لتعليم اللغة الأمازيغية عنونه ب" أربعة وأربعون
درسا في اللغة الأمازيغية". كما أسس رفقة مجموعة من المثقفين مجلة تيفاوت الخاصة
باللغة والثقافة الأمازيغيتين وكان يوقع مقالاته بها باسم ( موهوش). وساهم بإسهامات
تمحورت حول اللغة والثقافة الأمازيغيتين بالموسوعتين المغربيتين "مذكرات من التراث
المغربي" التي أصدرتها وزارة الشؤون الثقافية في الثمانينات و" معلمة المغرب" التي
كان يشرف عليها المرحوم محمد حجي وأحمد التوفيق وتصدرها الجمعية المغربية للتأليف
والترجمة والنشر, وصدر له كتاب "الدارجة المغربية, مجال توارد بين الأمازيغية
والعربية" في سنة 1999, وله كتيب صغير حول " الأمازيغية: بنيتها اللسانية" و"من أجل
مغارب مغربية بالأولوية" عن مركز طارق بن زياد للدراسات والنشر سنة 2000. هذه السنة
بالذات, عرفت تسجيل نقلة نوعية في المسيرة النضالية والعلمية للأستاذ شفيق, ذلك أنه
حرر فيها "بيان من أجل الاعتراف الرسمي بأمازيغية المغرب" الذي نشر على نطاق واسع
وعرف لاحقا بالبيان الأمازيغي والذي أراده أن يكون بيانا بينا لتسعة مطالب الحركة
الثقافية الأمازيغية, وهي: جعل الأمازيغية موضوع حوار وطني, دسترة الأمازيغية كلغة
وطنية ورسمية, التنمية الاقتصادية للمناطق الأمازيغية, تدريس اللغة الأمازيغية,
إعادة كتابة تاريخ المغرب, الاهتمام بالأمازيغية في وسائل الإعلام, رد الاعتبار
للفن الأمازيغي, التراجع عن تعريب أسماء المناطق الأمازيغية, تمتيع الجمعيات
الثقافية الأمازيغية بصفة المنفعة العمومية ومنح المساعدات للجرائد والمجلات
الأمازيغية على غرار المنشورات الصادرة بالعربية واللغات الأخرى. وتم توجيهه إلى
السلطات العليا بالبلاد, وقد وقعه العديد من الأفراد المنتمين للحركة الثقافية
الأمازيغية فأصبح بذلك الأستاذ محمد شفيق رجل الإجماع في صفوف هذه الحركة.
كما أسهم محمد شفيق في تأسيس مجموعة من الجمعيات, ومنها جمعية قدماء تلاميذ كوليج
أزرو التي ترأسها من 1960 إلى 1965 وكان يحرر افتتاحيات مجلتها الداخلية "طارق"
وعرف عنه في هذه المرحلة حمله لشعار "إن زمن الشجاعة الجسمانية قد ولى وجاء زمن
الشجاعة الفكرية", والجمعية الثقافية أمازيغ سنة 1979, رفقة عبد الحميد الزموري
وعلي صدقي أزايكو وآخرين. إضافة إلى جمعية " أكراو" سنة 1990 بمعية كل من عبد
الحميد الزموري, التهامي عمار, عبد المالك أوسادن, علي أزايكو, علي أمهان, محمد
أودادس, محمد كابري, يوسف عكوري, ميمون إغراز, محمد أجعجاع, غير أن هذه الجمعية
حرمت من وصل الإيداع القانوني ورفضت سلطات الداخلية آنذاك الاعتراف بها. وتقديرا
لجهوده في إعادة الاعتبار للغته الأم وثقافتها, منحته مؤسسة الأمير كلاوس الهولندية
جائزتها السنوية لـ 2002, ليكون بذلك ثاني أمازيغي يحصل عليها بعد الفنان الأمازيغي
الفكاهي فلاك FELLAG.
في إطار اهتمامه بتاريخ الأمازيغيين, يحاول محمد شفيق طرح سؤال تاريخ المغرب
الحقيقي للنقاش والتداول العموميين, وعبر إسهاماته في هذا المجال العلمي, هدف إلى
إبراز وجهة النظر الأمازيغية المغيبة في رواية التاريخ وكأن الأمازيغيين لم يصنعوا
التاريخ إلا من هامشه. وقد استخلص في هذا المضمار أننا كمغاربة: "لا نعرف عن "بربر"
عهد قرطاجة وعهد روما وعهد"بيزانتا "إلا ما رواه الفينيقيون واليونان والرومان
أنفسهم, ولا نعرف عن "بربر" عصور الإسلام الأولى إلا ما رواه لنا المؤلفون العرب.
ولا نعرف عن "بربر" العهود المتأخرة من التاريخ الحديث, بين القرن السادس عشر
والقرن العشرين الميلاديين إلا ما رواه لنا أعوان السلطة المركزية أو المقربون
للسلطة, ولا نعرف عن " بربر" المقاومة المسلحة التي تصدت للفرنسيين بين 1912 و1934
إلا ما رواه الفرنسيون وكتبوه". (لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين,
ص: 111), وتتمحور المتابعات التاريخية للأستاذ شفيق حول قضيتين رئيسيتين, هما:
الإسهامات السابقة للأمازيغيين في بناء أسس الحضارات الكبرى التي شهدتها ضفتا البحر
الأبيض المتوسط والتي يسعى جاهدا إلى إظهارها ونشر الحقائق المرتبطة بها, ثم الوقوف
في وجه التزوير الذي أُلحق (الفعل مبني للمجهول) بتاريخ ئمازيغن, ويعمل هنا على
إشكاليتين مركزيتين هما: إشكالية الاسم وإشكالية الأصل.
فيما يخص الاسم, وعلى مر التاريخ ولمدة زمنية تزيد عن أكثر من 3000 سنة, أطلق
الأمازيغيون على أنفسهم لفظة "إيمازيغن" أي الناس الأحرار, وليس البربر ذات
الدلالات القدحية والعنصرية. وفيما يرجع لأصل إيمازيغن, فهو( أي شفيق) ينتقد
طروحات كل من المؤرخين العرب الذين يدعون أن الأمازيغيين أصلهم عربي يمني, أي أنهم
من العرب العاربة, من جهة. ومن جهة أخرى, المؤرخين العاملين تحت رعاية الاستعمار
والذين زعموا أن الأمازيغيين من أصل أوربي. ويرى شفيق أن كلا الطرحين خاطئان لأنهما
يستندان على أسس سياسية واهية لا علمية, حيث أن تحليلات العديد من المكونات
الحضارية والأركيولوجية والأنتروبولوجية واللسنية أكدت بالدليل الملموس أن
للأمازيغيين صلات وثيقة ومتينة بالإنسان الذي استقر بهذه الديار منذ ما قبل
التاريخ, أي منذ ما يقدر ب 9000 سنة, ويتساءل قائلا: أليست إفريقيا مهد الإنسانية؟
في هذا الصدد يقول في "لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين" ( صفحة
19): " إن من العبث أن يبحث " للبربر" عن مواطن أصلية غير التي نشأوا فيها منذ ما
يقرب من مائة قرن. ومن يتكلف ذلك البحث يستوجب على نفسه أن يطبقه في التماس "مواطن
أصلية" للصينيين مثلا, أو لهنود الهند والسند, أو لقدماء المصريين, أو لليمنيين
أنفسهم وللعرب كافة".
في الجانب المتعلق باشتغاله على قضايا اللغة الأمازيغية من الزاويتين اللسنية
والمعجمية, ينطلق محمد شفيق من تعريف أولي وعام لهذ اللغة, فيستعير كلمة "أوال
أمازيغ" من المؤرخ الحسن الوزان المعروف بـ " ليون الإفريقي" ليشير إلى كون هذا
الأوال عامل حضاري وثقافي شكل الروح المغربية طوال ألاف السنين وقولب الفكر المغربي
في كثير من جوانبه وساهم في خلق الإنسية المغربية.
وفي الحقيقة, فإن اهتمام محمد شفيق بشؤون الثقافة واللغة الأمازيغيتين مرده إلى
انطلاقه من التعريف الأنتروبولوجي والعصري للثقافة, هذا التعريف لا يقتصر فقط على
خندقتها فيما هو مكتوب, بل إنه يتجاوز ذلك ليشمل التقاليد الاجتماعية والاختيارات
والنزعات السياسية والفنون بمختلف تنوعاتها معمارا ورقصا وغناء والأدب الشفوي
المحكي من قصص وأمثال إضافة إلى اللغة نفسها بمضامينها المعجمية والصرفية والنحوية
والاشتقاقية.
هذا الاهتمام أطره الأستاذ في مجموعة من المبادئ:
- اللغة الأمازيغية لغة ذات عبقرية استمدتها من طينة شمال إفريقيا.
- اللغة الأمازيغية لغة قائمة بذاتها, لها لهجاتها المتفرعة عنها والتي تلتقي
بوضوح لا غبار عليه في أصل واحد هو اللغة الأمازيغية الموحدة.
- اللغة الأمازيغية ذات وحدة في الزمن نظرا للاستقرار النسبي لمعطياتها اللغوية.
- اللغة الأمازيغية لغة ذات حيوية.
- الثقافة الأمازيغية منفتحة وليست منغلقة.
في ظل هذه المبادئ, عمل محمد شفيق لمدة تزيد عن أربعة عقود في إعداد عمل معجمي ضخم
يتجلى في المعجم العربي الأمازيغي (في ثلاثة أجزاء) ويحتوي على ثروة هائلة من
المفردات اللغوية الأمازيغية. وكان- بحق- خطوة علمية غير مسبوقة ساهمت في تمتين
الدعامات التي تأسست عليها الثقافة المغربية, وعرفت بالأمازيغية كعنصر جوهري يكون
القلب النابض للحضارة المغربية. وقد أسهم شفيق بهذا العمل في إنجاز أول عملية
استقراء للغة الأمازيغية من مختلف لهجاتها في شمال إفريقيا والصحراء, معتنيا بجوهر
اللغة ولبها أكثر من الخصوصيات اللهجية, وذلك على خلاف المعاجم التي أنجزها متمزغون
مثل André Basset أو Emile Laoust وغيرهما، والذين أظهروا الفوارق على حساب ما هو
جامع ومشترك, فرسخوا بذلك القطيعة بين لهجات اللغة الأمازيغية.
وطيلة مساره النضالي الطويل, لم يلجأ محمد شفيق سوى للأساليب الحضارية في النضال,
ومنها اتخاذه الحوار كوسيلة ومنهج في مخاطبة أعداء الأمازيغية والعمل على إقناعهم,
فهو يؤمن بالحوار إلى حد بعيد. لقد باشر- كما سبق أن أوردنا- سلسلة من الحوارات
الفكرية بصدد الأمازيغية سواء مع التيار القومي أو التيار الإسلامي, هذا الأخير
تمثل في حواره مع زميله في المهنة عبد السلام ياسين زعيم جماعة العدل والإحسان,
فلقد أرسل إليه محمد شفيق رسالة مكونة من بضع صفحات بعنوان "رسالة إلى أخ لي في
الإسلام" بعد أن أصدر الأول كتابا بعنوان "حوار مع الفضلاء الديمقراطين", وقد رأى
شفيق نفسه كديمقراطي معينا بما ورد فيه من أفكار, فبين له في رسالته أن استعمال
العقل والمنطق شيء ضروري لمعالجة أمور العصر الحالي, فالإسلام دين العقل والحكمة
والعلم مقدما مجموعة من البراهين المستنقاة من النصوص الدينية الإسلامية ووقائع من
التاريخ الإسلامي نفسه, داعيا الحركة الإسلامية من خلال نموذج جماعة العدل والإحسان
إلى نبذ العنف والابتعاد عنه بل والتخلص مما أطلق عليه " ديكتاتورية الفقيه" في
إشارة إلى مفهوم الزعامة الذي ظل ولايزال ملتصقا بالحركة الإسلامية, وركز أيضا على
نقد نزعة إضفاء الطابع العنصري وبالضبط العربي على الدين الإسلامي متسائلا في هذا
الصدد: " هل يعقل أن نسمح للعربي بالانتساب إلى العروبة وأن يمنع الأمازيغي من
الانتساب إلى الأمازيغية ؟"( مجلة تيفاوت, العدد السادس) وأصر على القول بأن
الأعاجم من أمازيغ وفرس وغيرهم خدموا الإسلام أكثر من العرب أنفسهم الذين لا يزال
جزء كبير منهم يتدين بالمسيحية مشيرا إلى دورالأعاجم في رواية الحديث الشريف ونقل
الإسلام إلى أصقاع بعيدة في العالم مستحضرا دورا طارق بن زياد, وقد أخذ شفيق على
الشيخ ياسين ادعاءه النسب الشريف في الوقت الذي يقول فيه كذلك إنه "ابن فلاح بربري
من الأطلس الكبير منحدر من إحاحان" على حد تعبير الشيخ عبد السلام ياسين, هذا
الأخير رد عليه بكتاب حمل عنوان "حوار مع صديق أمازيغي" الذي أثار كثيرا من المداد
أثناء صدوره في صفوف الحركة الثقافية الأمازيغية, وكثيرا ما يرجع إليه مريدو جماعة
العدل والإحسان كلما تناولوا موضوعا يتعلق بالقضية الأمازيغية. وقبل هذه الرسالة,
كان شفيق قد قام في كتابه " ماذا يقول المؤذن" بالدفاع عن الشخصية الإسلامية للمغرب
مصححا المفاهيم المغلوطة حول الإسلام وأخلاقياته وفند الصورة السلبية التي يريد
الغرب أن يلصقها بالإسلام. كما توجه إلى المسلمين موضحا لهم ما يميز الإسلام عن
باقي الديانات الأخرى من مكارم, داعيا إلى حوار الأديان.
ويبقى الأستاذ محمد شفيق واحدا من أبرز المثقفين المغاربة القلائل الذين يسجل لهم
اقتحامهم للأمازيغية كمجال للبحث منسي غير مفكر فيه في الثقافة الوطنية, بعمل فردي
ولكن بوعي عصري, مساهما بذلك في مقاومة ومواجهة مد الإيديولوجيا العربية الإسلامية
التي تضع في جدول أولوياتها القضاء على اللغة والثقافة الأمازيغيتين وإماتتهما
وتغيير الهوية الحقيقية لهذا الوطن.
( sifawrachid@yahoo.fr )
|