| |
نهايات الطفل الامازيغي
بقلم: عناني إبراهيم Warir
تصور مجموعة من الأطفال الأمازيغ, كلهم ذكور جالسون فوق سطح المسجد على شكل حلقة
حول الفقيه إمام المسجد،وهو يتربع فوق "هيدورة" وبيده عصا طويلة من الرمان تمتد
لقصل رؤوس الأطفال وهم في حركات طقوسية حيث تختلط الأصوات العالية بالضربات بالأيدي
على الألواح. فكلما ساد السكون واستيقظ الفقيه من نومه إلا وتسابقت الرؤوس لكي تنال
من «بركة العصا». فالمحظوظ من الأطفال من انتفخت الضربات على رأسه وتخمد الضربات
بوضع قراب المسجد مكان الضربات.تمسح الألواح في السماء ويدخل نفس الأطفال تمثيلية
مراسيم الزواج أو العرس الأمازيغي مع بنات قبيلتهم.فهناك من يمثل دور "تسليت"
العروسة أو دور"اسلي" العريس. ثم هناك من يمثل دور «اسناين»,-رجال العريس. وينطلق
الاحتفال بشكل اختزالي تحترم فيه عادات وتقاليد اليوم الأول من العرس «تنمديلت» ثم
«تنكا»-يوم الركوب وأخيرا طقوس «تيسي» يوم السقي لكي يدخل الطفل –العريس على أحد
بنات قريته وقد تتفاقم جروح العصا الصباحية في رأس الطفل القائم بدور العريس، وهو
يتلقى حجرة من الملح تضربه بها العروسة لتثير جنون العريس الذي بدوره يلوح بحذائه
عليها محاولة إسقاطها على الأرض ليبين رجولته الجنسية من جهة، ولكي لا تجلب العار
لأخته الصغيرة التي قامت بدور العروسة يوم البارحة من جهة أخرى.
نحن إذن أمام مؤسستين مختلفتين ثقافيا ووظيفيا وأمام أشكال مختلفة من عادات وطقوس
تعمل على تمثيل أحاسيس الطفل الأمازيغي بطريقة رمزية وبشكل معياري.إنها سلوكات
اختزالية اقتصادية للتعبير عن حالة معينة بتقوية أحاسيس مهمة.فالطقوس التعليمية في
المؤسسة الثانية وداخل فضاء المسجد توفر للطفل الأمازيغي تلك الثقة أو الإحساس
بالأمان أمام اضطرابات نفسانية.فالضرب على الألواح بالأيدي وتحريك الرؤوس من الأمام
إلى الوراء, سلوكات طقوسية جديدة تنمي في الطفل شعور الولاء والخضوع لمتطلبات قوة
متعالية عنه وفلسفة ميتافيزيقية مطلقة تكرس مبدأ الوحدة في الوجود والسلوك .أما في
المساء فإنه داخل مؤسسته الانتروبولوجية يحاور تجاوز مبدأ الوحدة وسلطة اللامعقول
ليدخل ذلك الاختلاف الانتروبولوجي على شكل تمثيلية مراسيم الزواج, حيث تزوده الطقوس
الاحتفالية بذلك الدواء المسكن للضغوطات والاضطرابات النفسانية أو ذلك الفصام الذي
خلقته الثقافة الوافدة. إن طقوس «احيدوس» في المساء محاولة لاسترجاع الاستقرار
والأمن داخل ثقافته الأصيلة.
فعلى العموم، وانطلاقا من هذه السلوكات الطقوسية, يمكن التمييز بين ما سمي
انتربولوجيا «بطقوس العبور»Rites of passage حيث ينتقل الفرد أو الجماعة من مكانة
اجتماعية إلى أخرى كتتويج الطفل بمكانة "اسلي" أو"تسليت".وقد تكون طقوسا للتقوية أو
الدعم Rites of intensification حيث تذكّر الطفل باحترام مراسيم أو عادات الزواج
الأمازيغي.وأخيرا قد تكون نموذجا «للطقوس المعكوسة «Rites of reversal حينما يقوم
الأفراد بأداء سلوكات تتناقض مع ما هو معترف به ثقافيا أو بما هو مسموح به داخل
مجتمعهم. فنجد مثلا الأطفال يتلذذون أو يستمتعون بضربات عصا الفقيه و هي تنزل على
رؤوسهم بنفس الطريقة التي يستمتع بها الطفل من دور اسلي بقطعة الملح التي يتلقاها
من طرف العروسة –تسليت في يوم الدخلة رغم خطورتها مبدئيا.إن تمثيلية الأطفال
لمراسيم الزواج كنموذج بدائي لما قبل المسرح, ما هو إلا تفجيرا لذلك الكبت المسرحي
الذي ينعدم أو يفتقر إليه فضاء المسجد في الفترة الصباحية, بل هو حنين إلى تلك
الاحتفالية أو صف الملاحم أو الدراما التي عرفتها شمال أفريقيا قبل ظهور الثقافة
العربية وسلطتها المتعالية ومبدأ و حدتها المطلقة.تشير هنا إلى تأثير أو استمرارية
الميتولوجيا اليونانية، وكذلك المصرية القديمة في الميتولوجية الأمازيغية, وقد يتضح
هذا التأثير بتناول مفهوم الصراع المرتبط أساسا بأنواع المسرح في الحضارة اليونانية
و ظهور الآلهة فوق خشبة المسرح تتحرك وتدخل في صراع مع الأبطال البشرية,يتجسد هذا
النوع من الصراع بشكل عمودي في تشخيص اله المطر –انزار بإجراء طقوس «تل اغنجا»
Tlaghunja لإغراء اله المطر لتزويد الساكنة بالمياه أيام الجفاف، تتجه مجموعة من
النساء إلى وسط النهر الجاف ويقمن بتزيين مغرفة من الخشب بأنواع الملابس التي
ترتديها العروسة –تسليت في يوم» تيسي» –يسمى هذا الديكور «باعبراق» و يشبه ألوان
قوس قزح –»تسليت ن يكنا»Tislit n yigenna المرتبطة أساسا باله المطر –»انزار»Anzar
كظاهرة طبيعية تعلن انتهاء نزول الأمطار و بداية مسلسل التخصيب أو الإنتاج,هنا نجد
العنصر لبشري أو الحرية الإلهية ,وبشكل عمودي تتحاور عن طريق الأشعار الغنائية:
A ttelaghwnja ma –kem yiwin
Wad igwan ism n unzar
أيتها تلغنجا, من الذي تزوج بك, ذلك الذي سمي باله المطر.وقد ينتقل الصراع ليتخذ
شكلا أفقيا حيث يواجه فيه الأفراد القوانين أو الأعراف الاجتماعية المفروضة على
مراسيم الزواج عند الكائن الأمازيغي.. فطقوس «تل أغنجا» تشبه إلى حد كبير طقوس
اليوم الأخير –يوم «تيسي»-من مراسيم الزواج,الأطفال يمثلون موكب تيسي تتقدمهم «تسليت»
لكي تملأ قادوسة من النحاس-»تناست» بماء النهر كإعلان عن نهاية الصراع الأفقي
وبداية الصراع الداخلي .. يدخل البطل «Hemmu» في دور «اسلي» على الطفلة «Zizi» في
دور «تسليت» فتضربه هذه الأخيرة بحجرة من الملح ثم يضربها بحذائه وتنتهي المصارعة
الجسمانية بإسقاط الطفلة على الأرض ليمارس عليها الجنس فيصل البطل المأساوي إلى
التناقضات الداخلية التي توجه نحو الكمال وإتمام رجولته أو إثبات وجوده ليكشف أخيرا
في أعماقه عن إنسان أخر يصارعه.
سنتحدث لاحقا عن اللوغوس عند الطفل الأمازيغي ورجوعه إلى الروح الديونزوسية
والمحكمة البهيجية التي فتحت المجال للطاقات اللبيدية والتغني باله الحب ‘Hirru n
Werru’ في محاولة لإعادة القيمة للجسد بعدما ثم الإعلان عن موت هذه الطاقات داخل
فضاء المسجد. سنتكلم أيضا عن التشابه بين اله الحب Hirru عند الأمازيغ مع اله الخصب
Amon Ré عند الفراعنة و سنبين أيضا أن عقدة الأوديب الأمازيغي كاعتراض مثالي –له
علاقة تاريخية بكل من أسطورة Osiris وIsis عند الفراعنة وكذلك أسطورةZeus مع Héra
عند اليونان .
نهاية المثاقفة: تماشيا مع مفهوم المثاقفة كاتصال مستمر ومباشر بين ثقافتين
مختلفتين, يتوجب علينا الحديث عن الصراع الثقافي ومفهوم المغالبة, وعن تأثير ثقافة
عالية, نشيطة على أخرى بسيطة سلبية.إننا أمام تقييم شامل لطقوس معرفية مثالية وافدة
داخل فضاء المسجد في الصباح وطقوس وجودية تمثيلية داخل الثقافة الأصلية (Culture 1)في
المساء –مبدئيا اعتبار التاريخ مسلسلا للمثاقفة في شمال أفريقيا,وامتدادها في
الزمان والمكان,فإن بقاء واستمرارية الطقوس الأصلية يفسر عجز التعليم أو الطقوس
المسجدية عن تحقيق مثاقفة حقيقية.فصمود الثقافة الامازيغية ودورها في تثقيف الطفل
الأمازيغي يفسر جزئية الاتصال أو الاحتكاك بين الثقافتين.ومن جهة أخرى فان التعريف
الانتروبولوجي للتثقيف Enculturation كتعليم أولي للمشاركة في تقاليد وعادات مجموعة
ثقافية, يفرض علينا تثمين الطقوس المسائية على طقوس المسجد.إن طقوس القراءة الصامتة
المصحوبة بالضرب على الألواح من الصباح إلى المساء لم تنجح لحد الآن وبعد مرور 15
قرنا في تثقيف أو زيادة المعارف للطفل الأمازيغي لأن الاتصال لم يكن مباشرا ولا
مستقرا داخل الوجود الاجتماعي، وحتى الاقتصادي لهذا الطفل المختلف
انتروبولوجيا.ربما أن اكتساب الثقافة ألام لا يمكن فصله عن نمو وتكوين شخصية الفرد
وتنشئته اجتماعيا,فقد يمكن اعتبار الطقوس الوجودية المسائية أكثر تثقيفا وأكثر
أهمية من الطقوس المعرفية المثالية داخل مؤسسة المسجد,وبالتالي فكل من طبق كفاءاته
اللسنية أو غير اللسنية فهو مثقف دون مراعاة تعليمه الكتابة والقراءة.
إن الثقافة الملقنة داخل المؤسسات الأولية تمتاز بادراك واقعي للمعاش.فبالإضافة إلى
ذلك الاتصال المباشر والمستمر مع تقاليد وعادات ثقافتهم الأصلية,فان الأطفال،ذكورا
وإناثا، يعقدون علاقات متعددة الاتجاهات مع هذه الثقافة: فهناك رابط وجودي تمثيلي
يعتمد أساسا على «مقاربة الشخصية الثقافية» Culture personality approach يتجسد في
الواقع المعاش ليشمل العادات الشخصية Eso traitsكقوة داخلية تستمر منذ السنين
الأولى لتشمل مراحل العمر وتعمل على ربط تربية الأطفال بعادات وتقاليد شخصية
الكبار.فتقمص شخصية «اسلي» أو»تسليت» ماهو إلا انفعالا تمثيليا لذلك الشخص الناضج
أو الأوسع تجربة ثقافيا أو اجتماعيا.وقد يكون رابطا معرفيا يوفر تعليم أو تعبئة
موارد مراسيم الزواج لكي يميز بين عادات اليوم الأول –»اسناين»أو»اغومان»وعادات
اليوم الأخير من الزواج-»تيسي».ولإثبات فشل التعليم داخل المسجد في تحقيق مثاقفة
حقيقية تستحضر هنا الوضعية الثقافية لذلك الأمازيغي المهاجر إلى أوربا والعوامل غير
التعليمية التي تجعل منه إنسانا مثقفا بالمفهوم الانتروبولوجي لعلمية
التثقيف.وبإيجاز فان المعارف الممارساتية والانخراط المباشر هي التي تؤدي إلى تحقيق
مثاقفة فعلية وإلى تكوين إنسان مثقف ومتحضر في نفس الوقت.
لقد اعتمدت ثقافة المسجد على تلقين معرفة متعالية وحقائق غير ملائمة أمام الوجود
اليومي للطفل الأمازيغي, وبما أن موضوع إدراكها مختلف في الزمان والمكان,فإن
المثاقفة تتحقق جزئيا في نصوص ميتافزيقية غير وجودية وعن طريق لغة خيالية غير
تواصلية تتحدث عن عوالم ذهنية متصورة ليست لها أية روابط تمثيلية لحاملي هذه
الثقافة من جهة ولا علاقة وجودية لها بالمتلقي الأمازيغي من جهة ثانية.
وعوض الحديث عن مثاقفة حقيقية, فإننا سنستعمل مصطلحا جديدا سمي ب"الملا قفة"، على
وزن "مشاكلة" وليس "مفاعلة".فأصل هذا المفهوم من فعل "لقف الشيء لقفا"، أي تلقى
شيئا رمي إليه بطريقة سريعة لا تتيح التفكير أو التردد.فعملية "الرمي" هاته تستدعي
طرفا فاعلا وطرفا مفعولا به.فالطفل الأمازيغي مغلوب على أمره خاضع لشروط "الملاقفة"
ولشروط حامل الثقافة الوافدة ..فكلمة «قروات» (كتمزيغ لكلمة اقراوا) المصحوبة عادة
بضربات بالعصا فوق الرؤوس لا تفيد الفهم والزيادة في المعارف أو التثقيف, وإنما
تفيد الترديد الببغاوي لما رمي إليه من معارف تاريخية راكدة يحل فيها تسلط العصا
القاهرة محل التغذية الراجعة Feed-back ويستحيل إصلاح أو مناقشة عطب التخلف أثناء
نقل معارف هي بالأساس أدوات من أجل امتلاك السلطة.
نحن أمام مفارقات جديدة تتأرجح يوميا وعبر التاريخ بين طقوس انتربولوجية تثقيفية في
المساء وبين "ملاقفة" بطقوس مثاقفة في اتجاه معكوس في الصباح.وبما أنها "ملاقفة" من
أجل التخلف وليس التثقيف,فإن طقوسها التنميطية لن تعمل إلا لخلق أو تكوين أطفال
«لقفاء»، أي سريعي التلقيح أو الأخد من التخلف.
إن الحديث عن جزئية المثاقفة بين الثقافة العربية والثقافة الامازيغية يستلزم
تحليلا مفصلا للتفاعل بين الطقوس المعرفية المثالية داخل المسجد وبين الطقوس
الوجودية داخل المؤسسة الأولى.وبما أن الثقافة الوافدة لم تفلح في القضاء وبشكل كلي
على الطقوس الانتروبولوجية الأمازيغية,فإن تقييم الوظائف الاجتماعية لهذه الطقوس
سينفي المفهوم التطوري أو النظرة التاريخية للتحليل، وبالتالي سنقتصر على الاتجاه
الوظيفي والبنائي لهذه الطقوس,وسنستعين هنا بمقاربة المدرسة الوظيفية Functional
approach التي أسسها Malinowskiوالمقاربة البنائية التي أسسها Levis-Strauss رغم
اختلافهما مبدئيا.فتماشيا مع المقاربة الأولى فإن الوظيفة النهائية لهذه الطقوس
اليومية, هي إرضاء الحاجيات البيولوجية والنفسانية للطفل الأمازيغي، و بالتالي فهي
مرتبطة بظروفها المادية الآنية أو الحالية, وكما تمت الإشارة إليه سابقا, فإن الضرب
على الألواح وطأطأة الرؤوس المنسجم مع القراءة الصائبة لا يهدف إلى الزيادة في
المعارف والإدراك وإنما محاولة لضمان أو توفير الراحة البيولوجية للفقيه(المتمثلة
هنا في النوم) و تفادي العنف أو قهرية العصا بالنسبة للطفل نفسه.ورغم نسبية
المثاقفة في تغيير بنية الأنماط الثقافية فإن أي تغيير طفيف على مستوى سلوكات
الأفراد من طرف الثقافة الوافدة سيؤدي حتما إلى مجموعة من الإصلاحات Adjustments
داخل الثقافة الأصلية ويتم خلق بناء طقوسي متكامل يصعب التمييز فيه بين ما هو أبجدي
وبين ما هو شفاهي وبين ما هو تفكير علمي وتفكير أسطوري.فاسترجاع الانسجام أو
التوازن للطقوس المختلفة تاريخيا,يتم إجراء تغيير بنيوي على أصناف الشعر الغنائي
التي تصاحب جميع أطوار الزواج الأمازيغي. وذلك بإدخال مفاهيم وأدوات لغوية عربية
خاصة في مقدمة هذه القصائد الشفاهية,مع تمزيغ الإيقاع المرفلوجي لهذه الأدوات
اللسنية ,فهي حلقة»اسناين»أو»اغمان» نسمع الأطفال –انات يتغنون بما يلي Rrahman u
Rrahim …Tinàiddal Amin a Rebbi.
إن إقحام مثل هذه المقولة الدلالية الميتافيزيقية أصلا واقتصارها على مقدمة القصائد
الغنائية كمعارف وجودية تمثيلية يطرح عدة تساؤلات حول أهداف المثاقفة رغم أقدميتها
في الزمان و المكان.لماذا لم يشمل التغيير القصائد الغنائية بكاملها؟ لماذا لم
تستطع المثاقفة أن تميز بين ما هو معرفي مثالي وبين ما هو وجودي مثالي؟ ولماذا لا
يميز الكائن الأمازيغي في شمال أفريقيا بين الثقافة «الأبجدية» الوافدة عن ثقافة
الشفاهية الأصلية؟ والأهم من كل ذلك هو كيف للثقافة الوافدة –كمعارف مثالية أن تدخل
في تناغم تام مع اللوغوس أو الحكم البهيجية وكذلك الطاقات اللبيدية في حين أنها
كانت تهدف إلى محاربتها والقضاء عليها؟
إن استعمال المفاهيم اللغوية العربية في مقدمة القصائد الغنائية الامازيغية يعكس
بالأساس درجة جزئية المثاقفة, وبالتالي فان هذه المفاهيم لم تكن من أجل إغناء
المضمون الثقافي لهذه القصائد و إنما مساهمة النساء (الأطفال-الإناث) وبشكل وظيفي
استرجاع ذلك التوازن والتضامن المألوف بين الذكور والإناث، والذي كان مهددا
بالتفرقة والتأزم من طرف ثقافة المسجد.إنها سلوكات استرجاعية، إن لم نقل مقاومتية،
في مواجهة الصدمة الثقافية حيث تحاول الثقافة الوافدة الاستحواذ على الذكور
وإبعادهم عن الإناث (تماشيا مع مبدأ التسلط الأبوي).ومن جهة ثانية فإن اقتصار هذه
المفاهيم اللغوية على تمهيد أو استهلال القصائد الأمازيغية يمكن ربطه بحرمان النساء
من ولوج فضاء المسجد، بل هو تذكير الذكور بالطقوس المثالية داخل المسجد وإغرائهم
بالرجوع إلى الثقافة الأصلية، وبالتالي لإرضاء حاجياتهم البيولوجية.فمباشرة بعد قتل
الكلمات العربية الممزغة, تعود لتفكر بالجسد و الغرائز : Zwarnt willi a yisnayen
zwarent willi» يا رجال إن الأغنام تتقدمكم». يلاحظ أن ما تبقى من القصيدة الشفاهية
لا يحتوي على أية كلمة عربية وهذا ما يزكي أن كل عادة أو سلوك لسني دخيل أو وافد
يتم ربطه بوظيفته الآنية، وكما سنبين لاحقا، فإن الأهداف النهائية للثقافة الوافدة
نفسها لم تكن من أجل التثقيف أو إغناء معارف الإنسان الأمازيغي وإنما تهدف بالأساس
إلى تغيير السلوك وتغيير بنية المجتمع الأمازيغي, كعمليات إجرائية للوصول إلى أهداف
مادية محضة.لقد فشلت فلسفة التعليم داخل المسجد في تعريب طقوس المرأة الأمازيغية
رغم تلك القرون العديدة من المثاقفة،وفشلت في تعريب الحياة اليومية للذكور رغم
مكوثهم معظم النهار داخل مؤسسة المسجد.إن استمرار الأطفال في تمثيل وتداول طقوسهم
الوجودية ما هو إلا تغييرا أو إعلانا عن فشل تعليم المسجد في تكوين الشخصية أو
الهياكل القبلية (كنماذج أو أنماط بلاستيكية Protoplastic على حد تعبير
(C.Jung)للجنس الامازيغي.فعندما تقوم النساء بممارسة طقوسهن المسائية,فإنهن لا
يشخصن مرضا أو خللا في عقولهن (Neurotic) ,بل هي مساهمة طبيعية في اللاشعور الجماعي
،Collective Unconsciousness فهن ساحرات أو كاهنات,يصنعن من فن ثقافتهن الشفاهية
دواء للذكر لاسترجاع الانسجام والتوازن الانتروبولوجي.ولا غرابة أن تنعت الملكة
الامازيغية بالداهية أو الكاهنة "ديهية".
نهاية المعرفة و تدريس الفلسفة
إن اتجاه الإرسالية داخل الكتاب أو المسجد تتناقض أو تتقاطع مع فلسفة التدريس نفسها
لأن أسلوب التدريس تخترقه فكرة فلسفية تهدف لا لتنمية أو الزيادة في قدرات الطفل
المعرفية، بل تهدف بالأساس إلى تغيير سلوكه الثقافي.اعتمدت هذه الفلسفة على مقاربة
تختزل الطفل الأمازيغي ككائن ثقافي أو كثقافة كاملة على شكل قاعدة تعتمد العنف في
توجيه سلوكه ضد الميتافيزيقيا أو الفكر المتعالي : «إن عصا الفقيه مفتاح الجنة»،وهي
فكرة تلخص المسالة التعليمية,كطرق ومناهج في جملة واحدة –»العنف والإرهاب
الميتافيزيقي».وقد تتشابه مع فكرة J .Derrida حول المسألة التعليمية و»عنف النظرية
التي تختزل الآخر لما تكون قاعدة لسلوكه في السيكولوجيا والديماغوجية نفسها التي
ليست هي التعليم».إنه تعليم لا يهدف إلى تكوين معين أو اكتساب تقنية أكثر استعمالا
للعالم المادي ولا لتثقيف الطفل الامازيغي و تنظيم حياته اليومية, إنما هو تعليم
لإنهاء المعرفة.إنه ينبني على فكرة فلسفية في حين لا يقبل تعليم أو تدريس الفلسفة
نفسها وهذا ما يمكن أن نسميه بـ"فلسفة إنهاء الفلسفة".
إن الحديث عن نهاية المعرفة داخل فضاء مؤسسة المسجد يجرنا إلى الحديث عن التناقضات
أو المفارقات التي يعاني منها تدريس الطفل الأمازيغي بشكل عام.فهذا النوع من
التعليم يدعو، وبشكل واضح، إلى التوحيد والتساوي في المطلق، ويرسخ الاختلاف أو
اللامساواة في السلطة والثروة والملكية في آن واحد.وبما أن هذه الفلسفة المتعالية
مرتبطة بكائن مختلف انتربولوجيا، أو متصلة بإنسان مغاير أو بأحداث أو تاريخ بعيد في
الزمان والمكان، فإن هويتها تنفصل عن هوية الفقيه الذي يدرسها وعن هوية الطفل الذي
يتعلمها.فهي تتناقض مع هوية الطفل وطقوسه الوجودية داخل الثقافة الأم لأنها ليست
وجودية لكي تعبر عن مكونات هذا الطفل الجسدية,النفسية والاجتماعية.إنها فلسفة لا
تحترم هويتها ولا تحترم هوية من يتعلمها. فكما يشير J.Drrida عند حديثه عن ارتباط
الفلسفة بهوية أصحابها «فلا شيء ينبغي أن يخاطر بوحدة المادة الفلسفية وأصالة أنماط
التساؤل والبحث والمناقشة التي شكلت تلك المادة لأولئك الذين يدرسونها...» Jacques
Derrida, 1990 .
|