|
افتتاحية: "تازمامارت"، نصب من العار في التاريخ السياسي للمغرب المعاصر بقلم: محمد بودهان لما انتهيت من قراءة مذكرات محمد الرايس، أحد الناجين من جحيم تازمامرت، حول السجن الرهيب، لم أقوَ على مقاومة رغبة شديدة في كتابة شيء عن تازمامرت. فكتبت آنذاك مقالا قصيرا بعنوان: L'opprobre de Tazmamart: la responsabilité des partis et des forces "démocratiques” بالعدد 38 من تاويزا لشهر يونيو 2000. اليوم يتكرر نفس الشيء بعد انتهائي من قراءة "Kabazal, les emmurés de Tazmamart, mémoires de Salah et Aïda Hachad" de Abdelhak Serhane, collection Témoignages, Tarik editions, 2003. فمرة أخرى تسيطر علي رغبة جامحة وقوية تدفعني للكلام عن تازمامارت. للتعبير عن أقصى درجات الاستنكار والاستياء، يقول المثل العامي: "يسمعها الشيطان فيغطي أذنيه". وهذا ما يصدق على فظاعات تازمامارت. أي أن الشيطان، رغم أنه الشرير الأول المختص في إلحاق الشر والأذى بالبشر، وبالتالي فهو يتلذذ بالأخبار التي تتحدث عما يصيب الناس من شرور وآلام، وما يقعون فيه من غواية وضلال، إلا أنه في حالة تازمامارت، فإن ما حصل فيها من شر وألم وعذاب يتجاوز بكثير كل الأفعال الشيطانية الشريرة التي يكون وراءها الشيطان، إلى الدرجة التي جعلت هذا الأخير "يغطي أذنيه" حتى لا يسمع فظاعات تازمامارت لأنها تفوق كل ما هو شيطاني إلى الحد الذي جعله يرقّ لحال معتقليها ويتعاطف معهم، وهو المعروف، بالتعريف، بأنه لا يكنّ شفقة ولا يحمل رحمة لبني البشر. هذه هي تازمامارت. شيء يرفضه، بل ويخاف منه، حتى الشيطان رغم أن علة وجوده هي أن يتسبب في الشر والإثم والأذى. إذا كان الإنسان لا يموت إلا مرة واحدة، فإن معتقلي تازمامارت كانوا يموتون كل يوم، كل ساعة، كل لحظة. في تازمامارت وحدها أصبح للموت ديمومة ومدة ومن الزمن مثله مثل الحياة نفسها. فكما نقول إن فلانا عاش كذا من السنوات، فكذلك الأمر بالنسبة للناجين من تازمامارت: لقد ماتوا ثماني عشرة (18) سنة، نعم، لم يحيوا في تازمامارت 18 سنة، بل ماتوا فيها 18 سنة. وهنا نكتشف العبقرية الشريرة والشيطانية والسادية للمخططين والمسؤولين عن هذا المعتقل الفريد في تاريخ البشرية كله: قتل المعتقلين ليس مرة واحدة ككل الأحياء الذين يموتون مرة واحدة فقط في حياتهم، بل قتلهم مرة واحدة في كل ثانية من حياتهم بتازمامارت. وإذا حسبنا عدد الثواني في 18 سنة، سنعرف أن الجلادين قتلوا نزلاء تازمامارت أزيد من نصف مليار مرة، وهو عدد الثواني في 18 سنة. إنه حقا الجحيم الذي يتكرر فيه الموت والعذاب إلى ما لا نهاية كما وصفه الشاعر العربي: كأهل النار إذا نضجت جلود أعيدت للشقاء لهم جلود. وهكذا يبدو أن أعمال الشيطان لا تساوي شيئا أمام "إبداعات" جلادي تازمامارت. ولهذا قلنا بأن الشيطان لا يريد أن يسمع تلك الفظاعات والآلام لأنها فوق طاقته رغم أنه شيطان. ولم يخطر ببال الشياطين الذين "أبدعوا" تازمامارت أن جحيمهم الذي صنعوه في الأرض سيصبح يوما حديث الركبان يعرفه ويحكيه القاصي والداني. فمخططهم الشيطاني كان يتمثل في بقاء هذا الجحيم الأرضي سرا مخفيا لا يعلمه إلا هم وضحاياهم بالمعتقل الجحيمي الذين سيدفن معهم هذا السر بتازمامارت. إلا أن إرادة الحياة لدى المعتقلين ـ وكذلك مكر التاريخ ـ انتصرت على المخطط الجهنمي وأفشلته. فكانت النتيجة أن نجا 18 منهم ليكونوا شهودا على ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خيال تخيّل، ولا فكر فكّر، ولا عقل تصوّر. لقد قاوم هؤلاء الناجون، وغيرهم ممن قضوا داخل المعتقل، ليس من أجل بقائهم أحياء، بل من أجل أن تبقى فظاعات تازمامارت ذاكرة حية يعرفها المغاربة وتحكيها الأجيال. فلو لم يعد أي واحد من تازمامارت، كما أراد ذلك الجلادون وخططوا له، لكان معتقل تازمامارت غير موجود إطلاقا، ولكانت الجريمة تامة Crime parfait، وذلك ما كان المشرفون عن تازمامرت مقتنعين به وواثقين منه. فيكفي أن نتذكر أن أربعة من رفاقهم، عقّا، شلاط، مريزق وأعبابو، فصلوا عنهم ليلة اختطافهم من سجن القنيطرة ونقلوا إلى سجن آخر. ولما لم يعد منهم أحد أصبحنا نجهل كل شيء عن عذاباتهم والطريقة التي ماتوا بها. وربما يكونون قد عانوا أضعاف ما عاناه معتقلو تازمامارت في سجن أفظع من هذا الأخير. لكن من سيخبرنا عن عذابهم وآلامهم وموتهم. لا أحد، لأن لا أحد نجا وعاد إلينا ليحكي لنا عن الفظاعة والسادية، كما فعل الرايس والمرزوقي وحشاد. لهذا يستحق هؤلاء، الذين عادوا من جحيم تازمامارت ليخبرونا بأهوالها، أن يبنى لهم "نصب تذكاري في قلب كل مدينة مغربية من أجل الذاكرة والتاريخ، وحتى لا ينسى الإنسان أبدا أن في كل مكان بالعالم مجانين يعذبون ويقتلون ويدوسون على كرامة الإنسان" (من كتاب عبد الحق سرحان المشار إليه أعلاه، صفحة 181). فبدل أن يكون سجن تازمامارت غير موجود، أصبح بفضلهم كعلم في رأسه نار. هكذا أصبحت تازمامارت نصبا من العار يصِم التاريخ السياسي المعاصر للمغرب كمعلمة من الفظاعة والسادية والجنون السياسي. بل إن تازمامارت أصبحت تدخل في تعريف الهوية السياسية للمغرب الحالي. فإذا كانت مصر تعرف بأهرامها، فإن المغرب أصبح يعرف بتازمامارته كهرم من العار والشنار، ومن الطغيان والعدوان. ولما لم يعد ممكنا إنكار وجود معتقل تازمامارت السري، كما كان يفعل الحكام طيلة 18 سنة، أرادوا توريط الشعب المغربي بكامله معهم وتحميله المسؤولية كذلك من خلال منح تعويضات لضحايا تازمامارات، ليس من مالهم الخاص، كما تقتضي ذلك العدالة والقانون، بل من المال العام، أي مال الشعب كأنه هو من قرر اختطاف تلك المجموعة من معتقلي سجن القنيطرة ليلة السابع من غشت 1973 ونقلهم معصوبي العيون إلى جحيم تازمامارت. وبطبيعة الحال إن من لم يحركه ضميره أمام عذابات تازمامارت لن يتورع في دفع تعويضات عن جرائم شخصية وخاصة من المالية العامة. من يقرأ مذكرات تازمامارت للرايس والمرزوقي وشحاد، سيلاحظ أن غالبية الثماني والخمسين الذين اعتقلوا بتازمامارت، هم، كما تدل على ذلك أسماؤهم والمناطق التي ينتمون إليها، "شلوح" و"ريافة" و"عروبية" و"جبالة". وهو ما سيعطينا فكرة أخرى عن سبب المعاملة الخاصة جدا لهؤلاء المساجين من طرف الحكام. لما انتهينا من قراءة مذكرات صلاح وعايدة حشاد، أنا ومجموعة من الأصدقاء المهتمين بقراءة صفحات الماضي الحقيقي للمغرب، سألتهم: "ما هو الجديد الذي كشفه لكم الكتاب، والذي كنتم تجهلونه قبل قراءته؟". "لقد كشف لنا عن طبيعة وحقيقة من كانوا يحكموننا، وهو شيء كنا نجهله لأنه مخالف تماما للحقيقة الرسمية التي كنا نعرفها عنهم. ونفس الشيء بالنسبة لك، أليس كذلك؟". "لا، بالنسبة لي كشفت لي هذه المذكرات، ليس عن حقيقة وطبيعة من كانوا يحكموننا، بل عن حقيقة وطبيعة من كانوا يعارضون من كانوا يحكموننا". فمنذ سنوات، ومع ريح حرية التعبير التي بدأت تهب على المغرب، كتبت مقالات ونشرت ملفات حول انتهاكات حقوق الإنسان بالمغرب. وعلى رأس هذه الانتهاكات معتقل تازمامارت. هذه المقالات والملفات تحمّل كامل المسؤولية على هذه الانتهاكات للنظام، ولا تقول كلمة واحدة عن "المعارضة"، بكل تياراتها الحزبية والجمعوية والثقافية والنقابية، التي عايشت كل هذه الانتهاكات دون أن "تعارضها" وتفضحها وتندد بها، وخصوصا سجن تازمامارت الذي لم يسبق لأي حزب "معارض" أو زعيم "معارض" و"تقدمي" أن أثاره وطلب استفسارا حوله من الحكام، بل تعامل الجميع مع معتقل تازمامارت كأنه غير موجود إطلاقا، أي تعاملوا معه كما أراد الحكم الذي كان ينكر وجوده ويقول بأنه من صنع خيال أعداء المغرب. نحزن ونتألم كثيرا عندما نستمع إلى السيدة عايدة حشاد وهي تحكي لنا عن المواقف الجبانة للزعماء "التقدميين" الذين التمست منهم التدخل لإنقاذ زوجها، حيث ظهر أن زعماء الأحزاب الإدارية كانوا أكثر جرأة وتعاطفا معها وتفهما لوضعيتها. وهنا يطرح السؤال التالي: ماذا كان يعارض المعارضون بـ"معارضتهم" للنظام؟ فما دام لم يعارضوا ما فعله هذا النظام بتازمامارت، التي تمثل قمة الانتهاك الفاشي والسادي لحقوق الإنسان، فإنهم لم يكونوا في الحقيقة معارضين ، بل مؤيدين ومساندين للنظام، لأن السكوت عن تازمامارت هو في الحقيقة تواطؤ وتخالف مع المتورطين في هذه الجريمة ضد الإنسانية وتاريخ الإنسانية. وهذا ما كان عليه موقف ما كان يسمى آنذاك بـ"المعارضة"، بمضمونها الحزبي والجمعوي والثقافي والحقوقي والنقابي وكل الطيف "التقدمي" والنضالي" الذي كانت تعرف به. لقد سكتت عن أبشع وأفظع انتهاك لحقوق الإنسان في التاريخ. لقد كانت تازمامارت مقياسا حقيقيا لقياس مدى وجود معارضة سياسية بالمغرب ووجود مدافعين عن الإنسان وحقوقه. ولا شك أن الحكام لم يقدموا على جنون تازمامارت لممارسة ساديتهم وفاشيتهم إلا لأنهم كانوا متأكدين بأنه لا توجد بالمغرب أية معارضة قد تفضح فعلهم وتندد بجرائمهم. لقد سكتت هذه "المعارضة" أيضا عن اختطاف أبناء الجنيرال أفقير الذين كانوا معتقلين في تازمامارت أخرى خاصة بهم رغم أنهم لم يشاركوا في انقلاب ولم يحاكموا ولم تصدر في حقهم أية إدانة. لقد اختطفت أسرتهم بكاملها، مع صبي لا يتعدى عمره سنتين. فإذا كان معتقلو تازمامارت انقلابيين حاولوا اغتيال الملك، ومن هنا قد نبرر سكوت المعارضة عنهم، فكيف نبرر السكوت عن اعتقال أسرة بريئة قضت عشرين سنة في تازمامارت أخرى خاصة بها؟ إذا كان الحكم ينتقم ممن يعتبرهم أعداءه، وبطريقة سادية ومرضية ولا إنسانية ولا قانونية، فلماذا باركت "المعارضة" هذه الجرائم بالسكوت عنها وعدم فضحها والكشف عنها لإنقاذ ضحايا تلك الانتهاكات؟ لكن إذا عرفنا أن هذه "المعارضة" ذات توجهات وقناعات بعثية وعروبية شرقانية، سنفهم بسهولة لماذا كان موقفها جبانا ومتواطئا وسلبيا إزاء انتهاكات حقوق الإنسان بالمغرب. أما المعارضون الحقيقيون لتلك الجرائم، والذين ساهموا في إنقاذ جزء من معتقلي تازمامارت، فهم الحارسان محمد شربداوي والعربي لويز، خديجة الشاوي زوجة محمد الرايس، عايدة حشاد، نانسي الطويل، كريستين دور، جيل بيرو، عمر الخطابي... وهؤلاء لم يكونوا ينتمون إلى حزب معارض ولا أعضاء في جمعية للدفاع عن حقوق الإنسان. ومن حسن حظ المغرب والمغاربة أن شعبه يتكون في أغلبيته من هذا النوع من الرجال والنساء. أما تلك "المعارضة" التي رأينا سكوتها المتواطئ مع الجلادين، فهي لا تشكل سوى أقلية صغيرة جدا، مثلها في ذلك مثل هؤلاء الجلادين الذين هم أنفسهم أقلية قليلة جدا.
|
|