|
|
اللغة الأمازيغية: القوة والصمود والتجدد بقلم: لحسن ملواني يَعتَبر بعض اللغويين اللغة كالكائن الحي، تنمو، تتطور خلال مدة تطول أو تقصر ثم تموت في النهاية إما بموت الأمة التي تتكلمها واندثارها، وإما أن تلك الأمة قد غيرت لسانها. وصراع الحياة كما هو قائم بين الكائنات، يقوم أيضا بين اللغات. أَمَّا كيف تموت اللغة، فأصحاب النظرة الاجتماعية للتطور اللغوي يذكرون لذلك ثلاثة أشكال: أولها: أن تموت اللغة موتا طبيعيا. من الكبر والضعف والتقدم في السن، ولا بد في تلك الحالة من أن يكون المتكلمون بتلك اللغة قد كثروا وتشعبوا، وتباعدت مواطنهم، وأقاموا لهم حضارات متباينة لا يتصل بعضها ببعض إلا من بعيد، فتُولد لدى كل منهم لهجة محلية منبثقة من اللغة القديمة، ومع مرور الأجيال تندثر اللغة الأم من ذاكرة الأبناء وعلى ألسنتهم وتموت. وأمثلة ذلك السامية الأم، والسنسكريتية، والفارسية القديمة، والجعزية الحبشية، واللاتينية. ثانيها: أن تموت اللغة قتيلة، وذلك بفضل الغزو المسلح. ولكي يكون هذا القتل ممكنا يجب أن تتضافر ظروف معينة أهمها: 1ـ أن يكون الغزاة أكثر عددا بأضعاف كثيرة من أهل تلك اللغة، بحيث يصبح استقرارهم بلغتهم في الأرض المفتوحة أشبه بطوفان يبتلع الشعب الأصلي الصغير، ولغته معه(...). 2ـ في حالة التساوي في العدد تقريبا بين الغزاة والسكان الأصليين ينبغي أن يكون الغزاة أعلى درجة من الأمة التي أصيبت بالغزو، وإلا فإن الغزاة هم الذين يفقدون لغتهم، وتنتصر لغة المنهزمين كما حدث عندما هاجمت القبائل المتبربرة أوروبا اللاتينية التي كانت شعوبها أكثر تقدما في الحضارة، ولذا ترك هؤلاء البرابرة* لغاتهم الأصلية، بل تركوا أديانهم الوثنية، واصطنعوا اللاتينية واعتنقوا المسيحية (..). وكذلك التتار بعد إسقاطهم بغداد اعتنق أكثرهم الإسلام وتعلموا اللغة العربية. 3ـ أما الغزاة المتحضرون فإنهم يقتلون لغة الأمم المفتوحة بفرض لغتهم في العلم والثقافة والتجارة ونحوها، وترك من لا يتقن اللغة بلا عمل ولا فرصة طيبة للتعلم أو الارتزاق... ثالثا: أن تموت بالتسمم، ويبدأ ذلك بتسرب رشح من الدخيل من لغات أخرى إلى اللغة فتتقبله، بل تحس مع تعاطيها له في البداية بمزيد من الانتعاش والقوة والنشاط يشجعها على تقبل جرعات أكبر فأكبر من هذا الدخيل. ولكن قدرتها على هضم ذلك كله واستيعابه في بنيتها العامة تخونها في النهاية، فتسقط في الإعياء، تاركة المجال للبقية الباقية من الدخيل تتسرب إليها بدون أية مقاومة حتى تجهز عليها وتميتها. 1 والحديث عن موت اللغة يحيل على الحديث عن فقدان الهوية والشخصية المميزة التي هي مصدر الإبداع والابتكار والمقاومة.. فالمنظومة القيمية لدى الأمم تمثل هويتها و تزود أهلها بعناصر الحياة والتجدد في الحاضر والمستقبل، ويشكل التزعزع في بنية هذه القيم بفعل الانسلاخ من واقع وماض عريق ـ يعتز به الإنسان ـ خطرا بليغا عليه وعلى لغته التي هي أقوى عناصر هويته. ويرى عبد الهادي بوطالب أن من أسباب انقراض اللغات، الغزو العسكري والإبادة الجماعية، وتقلص عدد متكلميها بالإضافة إلى التشتت الجغرافي والزواج المختلط والهيمنة الاجتماعية والاقتصادية والضعف السياسي، والإمبريالية الثقافية. ويخلص الكاتب إلى كون مسار لغة نحو الانقراض ليس حتميا لأنها ليست جسما بيولوجيا يولد وينمو لينتهي بالضرورة، إنها واقع ثقافي لا يخضع للحتمية البيولوجية.2 وإذا كانت حياة الكائن الحي تستلزم الظروف الملائمة التي تحفظ كيانه كي يستمر في الحياة، فاللغة من هذا المنطلق تكتسب قوتها في عوامل ذاتية تتعلق ببنيتها وعوامل موضوعية تتعلق بمستعمليها وبظروفهم التاريخية. ومن هذا المنطلق فاللغة الأمازيغية بالصورة التي تحيا بها حتى اليوم دليل على قوتها وصمودها في وجه كل العواصف التي حاولت تقويضها. وبقاؤها، بل وتجددها شيئا شيئا، يعني من بين ما يعنيه امتلاكها لعناصر القوة والمواجهة، ومن هذه العناصر كثرة المتحدثين بها حديثا يعتريه الدخيل بنسب مختلفة، بل يمكن اعتبار ذلك قوة لها لا ضعفا منها، فاللغة القوية من شأنها القدرة على التكيف مع المستجدات الاصطلاحية والمفهومية المستحدثة في جميع المجالات وفي كل العصور، ورغم أن الأمازيغية تتفرع عنها لهجات4، فالتقارب بينها كان عاملا في صمودها، وفي اتحاد المنادين باسترجاعها. فالفروق بين معاني كلماتها وتراكيبها طفيفة. وأعتقد أن الأمازيغية من اللغات المتصرفة التي تتكسر فيها المادة الأصلية فتقبل السوابق واللواحق والمقحمات التي تحشر في وسط البنية الأصلية؛ كما تقبل الإدغام والحذف في بعض الحروف، حسب نظام صوتي في كل لغة منها، لأجل تنويع الصيغ، وكذلك لتحديد الوظائف النحوية عن طريق علامات الإعراب. ومن أمثلتها اللغة العربية 3 . ولعل المرونة والخاصية الانفتاحية التفاعلية التي تمتلكها الأمازيغية جعلتها تتفاعل مع لغات كثيرة كالإسبانية والفرنسية والعربية دون أن تفقد تضاريسها الكبرى التي تشكل عمودها الفقري، الأمر الذي نعتبره الضامن الأقوى لبقائها وصمودها علاوة على العدد الكبير للمتحدثين بها، إلا أننا نعتقد أن الإبداع بمختلف أشكاله قد أدى أدوارا مهمة في الحفاظ على اللغة الأمازيغية، فمن خلال الإبداع (شعرا وغناء وسردا) احتفظت الأمازيغية بأصالة معجمها، وقد كتبنا مقالات عن خدمة الدراما الأمازيغية ـ على سبيل المثال ـ للغة والهوية الأمازيغية بصفة عامة. وهكذا نراهن على الإبداع ونقده، وتتبع ما ينتج فيه بغية المساهمة في نهضة الأمازيغية وتجديد دمائها كي تنخرط في مجال الفكر والحراك الثقافي بكل حيثياته وأبعاده. والحق الذي تمتلكه اللغات في الوجود والتطور يستوجب على الحريصين على الأمازيغية المسايرة للتطور المعرفي وآلياته الحديثة بغية الاستفادة من المعلومات ومعالجتها وإيصالها. كما يفرض بصفة عامة انفتاح متكلميها على المعارف التي تسعفهم في تحسين ظروفهم وتعميق رؤيتهم للعالم.5. هامش: *تسمية برابرة في المقال لا يقصد بها الأمازيغ وإنما يقصد بها في قاموس الحضارات ما يطلقه المستعمرون على كل من لا ينتمي إلى حضارتهم ولا يفقه لغاتهم. 1ـ اللسان والإنسان ـ الدكتور حسن ظاظا ـ دار القلم، الدار الشامية الطبعة الثانية ص116و117. ونشير إلى أن منظمة ”اليونسكو” في عام 2006م أصدرت قائمة بحوالي 300 لغة انقرضت تماماً في القرن العشرين وأضافت إليها قائمة باللغات المتوقع انقراضها في القرن الواحد والعشرون. 2-الحقوق اللغوية: حق اللغة في الوجود، والبقاء، والتطور، والنماء، والوحدة للدكتور عبد الهادي بوطالب – دار الكتاب- الطبعة الأولى 1424- 2003 ص53 3ـ. يقسم البعض اللغات إلى: اللغات العازلة واللغات الإلحاقية، أو الإلصاقية، واللغات المتصرفة التي تندرج فيها اللغة العربية. وقد أعطى الكاتب أمثلة موضحة لكل نوع من أنواع هاته اللغات. انظر نفس المرجع ص 139. 3-من اللهجات التي تتفرع عن الأمازيغية: الريفية والسوسية والأطلسية (المغرب)، القبائلية والشاوية والطواقية (الجزائر ومالي والنيجر وليبيا)... 4-انظر حقوق اللغات في كتاب الحقوق اللغوية المشار إليه سابقا.
|
|